الخلاص بلا مخلِّص
وقد ظهرت منذ الحرب العالمية الأخيرة موجة أخرى من الاهتمام بفلسفة نيتشه، صدرت من جهات أكثر عطفًا عليه. ومنذ ظهور الوجودية أصبح من الشائع تمجيده، هو وكيركجورد، بوصفه واحدًا من أهم الممهِّدين لهذه الفلسفة المفرطة في نزعتها الفردية. وهكذا ينمو الآن اتجاه أقوى ميلًا إلى تفكير نيتشه. وقد أخذت وجهة النظر هذه تستعيض عن الصورة التي كانت مرسومةً له، وهي صورة آكل النار الذي يفتقر إلى النضج والتوازن، والذي استخدم قلمه بديلًا لسيف عجز عن حمله، بصورة أخرى يظهر فيها منعزلًا مغتربًا، يشغل سخف حياة الإنسان كل تفكيره، ويشعر على نحو أعمق من أي من معاصريه بأنه يعيش «في نهاية العالم». وهنا أيضًا يطلب إلينا أن نعده أول فيلسوف، منذ هيوم، أدرك «في قرارة نفسه» عدم وجود ارتباطات ضرورية بين الأمور المنتمية إلى مجال الواقع، وواجه بحسه وعقله الحقيقة القائلة إن الوجود حافل بالسخف والامتناع.
وقد كثر الحديث في هذه الأيام عن قدرة نيتشه في ميدان «علم النفس المتعمِّق»؛ فقد اعترف نيتشه، مثل شوبنهور، الذي كان له تأثير عظيم في تفكيره، بمدى ضآلة الدور الذي يقوم به الاختيار الواعي والتفكير الواقعي في تحديد الأفعال البشرية. كما أدرك مدى تحكم تجارب الخيبة والقلق العميقة الغور، والتي لا يشعر بها الفرد عادة، في اتجاهاته الأيديولوجية، الدينية منها والسياسة. وعرف نيتشه، على نحو أفضل كثيرًا من أي مفكر سبقه، تلك الطرق التي لا تُعد ولا تُحصى، التي يمكن بها استخدام الرموز الانفعالية في التحكم في الاتجاهات البشرية وتسييرها. بل إنه كان أكثر فلاسفة القرن التاسع عشر إدراكًا للخطر الكامن في حياة العقل، وللأقنعة الرمزية الهائلة العدد التي يمكن أن يرتديها اللاعقل. وإذا بدا أحيانًا أنه يقع في حب كشوفه الخاصة، ويجد لذةً غير مألوفة في إبداء احتقاره لمخلوق يمكن أن تخدعه انفعالاته على أنحاء شتَّى إلى هذا الحد، فإنه إنما يكشف في سلوكه عن بعض الصفات التي قد تساعدنا فلسفته ذاتها على فهمها؛ فالواقع أن نيتشه ذاته كان ضحية تعسة لبعضٍ من تلك العلل النفسية والاجتماعية التي فعل هو ذاته الكثير للكشف عنها. والعجيب في الأمر أنه، مع مرضه، قد استطاع الغوص إلى مثل هذا العمق من وراء الأقنعة التي يستخدمها الناس لإخفاء وحدتهم وخيبتهم.
ولم ينجح نيتشه أبدًا في وضع مذهب فلسفي؛ ولذا يبدو أن من الخطأ في نظري أن نحاول وصف فلسفته المعقَّدة الغامضة بالطريقة المعتادة، وعلى ذلك فسوف أتبع طريقةً مختلفة إلى حد ما في تحديد معالم هذه الفلسفة؛ فسوف أبدأ بإجراء عدد من المقارنات بين نيتشه وبين الفلاسفة الآخرين الذين بحثناهم، حتى أُوضِّح بعضًا من السمات البارزة لطريقة تفكيره، ثم أخلص من ذلك إلى بعض الملاحظات العامة حول موقعه الفلسفي التاريخي.
ولنبدأ أولًا بمقارنته بهيجل؛ ففي كلتا الحالتَين نجد الأسلوب دالًّا على الفيلسوف. ولو أجرينا مقارنةً سطحية، لبدا أنهما على طرفَي نقيض. فإذا كانت هناك كلمة واحدة تصف أسلوب هيجل، فهي أنه «معتم»؛ إذ رفض مذهب ديكارت في «الأفكار الواضحة والمتميزة»، ولم يثق بقدرة اللغة المعتادة على التعبير عن أفكاره، فكتب بطريقة ثقيلة مركزة، محملة بالمصطلحات وبالعبارات الوصفية التي كثيرًا ما تعقِّد أفكاره دون أن تُلقي عليها مع ذلك مزيدًا من الضوء. أمَّا نيتشه، فيكتب بطريقة تختلف تمامًا عن طريقة «الفيلسوف المدرسي»؛ فهو أستاذ في استخدام اللغة المعتادة للتعبير عن كل ما يريد قوله. وهو يتحدَّث بأسلوب صادق غير متكلَّف، وفي فقرات منفصلة، وتحتشد مؤلفاته باستعارات وتشبيهات رائعة يبدو أن دلالتها تزداد، بطريقة غامضة، كلما أمعن المرء تفكيره فيها. وهو، مثل هيجل، أستاذ في التهكُّم والمعارضة. ولكن إذا كانت معانيه الكامنة بدورها بعيدة المنال، فإن الوجه الظاهر من نثره، على خلاف هيجل، واضح إلى أبعد حد. وحيثما يتحدَّث هيجل بطريقة لا شخصية و«موضوعية» إلى حد يكاد يكون مضحكًا، فيخفي ذاته من وراء قناع من المعرفة التاريخية الشاملة، نجد نيتشه يتحدَّث دائمًا عن نفسه ويمجِّد ذاتيته. ولقد كان «حسه التاريخي» مرهفًا بقدر ما كان حس هيجل على الأقل، ولكنه اتصف بميزة استثنائية لم تتوافر لهيجل، وهي تطبيق هذا الحس التاريخي على نفسه؛ فهو لا ينسى أبدًا، ولا يدع قُراءه ينسَون موقعه التاريخي المتأرجح الغامض. وهو أيضًا يدرك بوضوح نقط الضعف في الحس التاريخي، كمَيله مثلًا إلى الاستعاضة عن الاختيار والمسئولية الأخلاقيَّين بنوع من التمثيل الخيالي للأفعال الماضية، وهروبه من المصير الوجودي للحياة البشرية، وانحلاله. وأخيرًا، فإن نيتشه، على خلاف هيجل، ليس فيلسوفًا فحسب، بل إن كتابه «هكذا تكلم زرادشت» من أعظم الأشعار الفلسفية في الأدب الغربي.
ولقد كان موقف نيتشه المعقَّد من المسيحية والمسيح حافلًا بالتضارب مثله في ذلك مثل هيجل؛ فقد تمكن هيجل، كما رأينا، من القيام بنوع من التوفيق الروحي مع المسيحية عن طريق تفسيره التاريخي والرمزي الخاص لها. أمَّا نيتشه فلم يكن في ذهنه مكان لروحية هيجل شبه المسيحية. حقًّا إن هيجل قال إن «الله قد مات»، ولكن نيتشه كان يؤمن بذلك؛ فإلحاده كان عقليًّا وعاطفيًّا؛ فليس الله غير موجود فحسب، بل إنه قد مات. وهكذا يتساءل زرادشت بلسانه: «إن كان ثمة آلهة، فكيف كنت أطيق ألَّا أكون إلهًا؟ لذلك، فليس ثمة آلهة.» غير أن رفض نيتشه للمسيحية لا يستتبع إنكار وجود الله فحسب، وإنما هو يعارض بعنف المسيحية التاريخية، التي يعتقد أنها عمَّمت أخلاق العبيد الموروثة عن اليهود، ووقفت في جميع المراحل حجر عثرة في وجه التنوير العقلي والحرية الروحية.
ولقد قيل إن نيتشه لم يعدَّ نفسه معاديًا للمسيح بقدر ما عدَّ نفسه معاديًا للمسيحية، وإن عدوه الحقيقي هو بولس، الذي جعل من سيده معلمًا، وأحال أساطيره الطريفة إلى لاهوت منظَّم. وهكذا قيل إن ما كان نيتشه يعترض عليه بحق، هي أخلاق الخدمة الداعية إلى الطبية، والتواضع الكاذب والإحسان اللذان يتوَّجان بوصفهما أعلى الفضائل المسيحية؛ فهي مليئة بالمتناقضات الغريبة، وتنادي بأن خلاص البشر لا يتحقَّق إلا بالعزوف والتضحية والعذاب. وهنا يبدو نيتشه في صورة شخص يقسو لكي يكون رحيمًا، ولا هدف له إلا طرد تجار المال والمنافقين من المعبد، وقتل أفعوانات التكاسل الروحي، والتهاون، والجري السوقي وراء اللذة، كما فعل المسيح ذاته. بل إن في وسعنا أن نمضي خطوةً أخرى أبعد من ذلك، ونصف فكرة العود الأبدي، التي قال بها نيتشه، بأنها لا تعدو أن تكون تحويرًا طفيف الاختلاف لفكرتَي التجسُّد والبعث المسيحيتَين.
هذا كله ممكن، ولكنه لا ينبغي أن يدفعنا إلى إنكار بغض نيتشه للمسيحية وجميع ثمارها الروحية. ولست أعتقد أن معارضة نيتشه للمسيحية كانت أخلاقيةً فحسب، كما قال برتراند رسل. إنها أخلاقية قطعًا، ولكنها تتجاوز ذلك بكثير؛ فمن وراء حملته على أخلاق الحب الأخوي، ومن وراء عدم إيمانه بالمسيح بوصفه مخلِّصًا، يكمن عدم إيمانه، من حيث هو فيلسوف، بوجود إله متجسد يدخل، على نحو يحتشد بالتناقض، في مجرى التاريخ، ويتدخَّل في مصائر البشر ويتحكَّم فيها، ويضمن للناس بعث أجسادهم في الآخرة. وهنا أيضًا يقول زرادشت: «إني لأبتهل إليكم، أيها الأخوة، أن تظلوا مخلصين للأرض، وألَّا تصدِّقوا من يحدِّثكم عن آمال تعلو على الأرض! إنهم ينفثون السم، سواء أكانوا يعلمون ذلك أم لا يعلمونه.»
كذلك قد يساعد إجراء بعض المقارنات بينه وبين ماركس في تحديد موقع فلسفته؛ فكلاهما يؤمن بالمذهب الطبيعي، وكلاهما يألو على نفسه، إلى حد معين، أن يفسِّر العالم الطبيعي وموقع الإنسان في الطبيعة تفسيرًا علميًّا. ولقد كاد نيتشه أن يكون، مثل ماركس، رومانتيكيًّا رغم أنفه، وهو يشبه ماركس في احتقاره للتفكير الغيبي اللاعقلي، ولجهالة العصور الوسطى، وللابتعاد عن التنوير، وهي كلها صفات لبعض أوجه رومانتيكية القرن التاسع عشر. غير أنه يدرك بوضوح تام، كما أدرك ماركس، مدى التغير الذي لحق مصير الإنسان في القرن التاسع عشر منذ «الأيام الجميلة الغابرة»، أيام موتسارت وفولتير وهيوم. ورغم حنينه إلى عصر التنوير، فإنه يدرك أن مُثل ذلك العصر لا يمكن أن تكون مثله هو. وهو يشعر بالمرارة نتيجةً لإدراكه ذلك. وهكذا أضفى عليه الحس التاريخي شعورًا بالأسى أعمق ممَّا كان لدى ماركس، بل لدى هيجل نفسه؛ فرغم روح الظفر الفياضة التي يتصف بها زرادشت، فإن نيتشه لم يشارك ماركس تأكيده الجاد القائل إن التطور التاريخي للبشر، رغم كل ما فيه من منازعات دموية وضياع، إنما هو مسار قهري نحو المجتمع الفاضل.
ويشترك نيتشه مع ماركس في كثير من آرائه حول الشرور المتأصلة في الحياة الاجتماعية والسياسية الحديثة، غير أن تشخيصه وعلاجه كانا معًا مختلفَين تمام الاختلاف؛ فمن الملاحظ أولًا أن التفكير بطريقة مادية، من خلال الأساليب الاقتصادية للإنتاج، والصراع المنظَّم بين الطبقات، كان غريبًا عن ذهن نيتشه إلى حد بعيد. وهو لا يؤمن على الإطلاق بالفضيلة الكامنة في العمل الجماعي وفي الإخاء الاجتماعي. كما أنه لا يعبأ كثيرًا بأي حل اقتصادي أو سياسي في أساسه لمشكلة حرية الإنسان وإبداعيته المفقودة. وربما كان نيتشه أكثر المفكِّرين كراهيةً لكل ما هو جماعي في تاريخ الفلسفة الحديثة. ومن هنا لم يكن من قبيل المصادفة أن يكون الرمز المعتاد الذي أشار به إلى الجماهير هو «القطيع». والحق أن الخوف الذي ملأ قلبه من أن يطأه القطيع بأرجله، والرعب الانطوائي من أن تطغى عليه الحياة اللاشخصية الجماعية الحديثة، هو الذي يتخذ له رمزًا عكسيًّا في دعوته إلى إرادة القوة؛ فالقوة ترمز عند نيتشه، كما ترمز عند اسبينوزا، إلى تقرير المرء لمصيره. وهي تعني بالنسبة إليه أن تفعل، وتكون قادرًا على أن تفعل ما تريد، لا ما تعده طبقة معينة أو نظام معين أو إرادة عامة «خيرًا» لك؛ ففي رأي نيتشه أنه طالما ظلَّ الفرد غارقًا في نسيج من الطقوس الجماعية والقواعد الاجتماعية اللاشخصية الرتيبة، فإن أي تدخل في النظام السياسي أو الاقتصادي يترك المصير الأساسي للحياة الحديثة كما هو، دون أن يمسه، مهما أدَّت تلك الطقوس والقواعد إلى ما يسمَّى ﺑ «الرخاء» العام.
ولقد كان «مل» من الفلاسفة الذين كان نيتشه يحب دائمًا إبداء عدائه لهم؛ فقد احتقر نيتشه فلسفة المنفعة التي أسماها ﺑ «فلسفة الخنازير»، وكان هذا المذهب في نظره دعوةً تتسم بالحرص الممزوج بالجبن إلى تحقيق منافع مادية جماعية، لا تصلح إلا لمجتمع من أصحاب الحوانيت العمليين، وذلك طبقًا لتصوُّره للبريطانيين. وقد أطلق على مِل اسم «الغبي» وجهر باشمئزازه من «سوقية ذلك الرجل»، ولكن الواقع أن اختلاف نيتشه عن مِل كان أقل ممَّا تصور؛ فقد اشتركا معًا في ميلهما إلى النزعة الطبيعية، وإلى العلم في حدود معينة. ولم يكن هناك اختلاف كبير بين موقفَيهما من الكنيسة وأخلاقها العزوفية المتعلقة بعالم آخر. ولم يكن مِل يقل عن نيتشه سخطًا على ما تجلبه النظم الديمقراطية الاجتماعية والسياسية من نتائج تبدو محتومةً فيها ضعة وإملال واطراد. كما أن مشكلة تحرُّر الإنسان في العالم الحديث لم تكن تقف، في رأي مِل أيضًا، عند حد مسألة الحريات المدنية، بل كانت تعني عنده، كما كانت تعني عند نيتشه، قدرة الفرد على إكمال ذاته، وتحقيق أعلى قدراته من حيث هو إنسان. ويبدو لي أن لغتهما، لا معناها الأساسي، هي التي كانت مختلفةً تمامًا. وفضلًا عن ذلك فإن كراهية نيتشه الأرستقراطية للمعايير الكمية الخالصة للكمال، لها ما يقابلها عند مِل في تفضيله لفكرة «الحكام العدول»، بوصفهم معيارًا مستقلًّا للقيمة.
أمَّا الصلات بين نيتشه وبين شوبنهور، فإنها أوضح ظهورًا.
فقد كانت الاستعارة الرئيسية في فلسفة نيتشه، وهي إرادة القوة، تعديلًا، من خلال دارون، لإرادة الحياة عند شوبنهور. والواقع أن نيتشه قد تصوَّر «الصراع من أجل الوجود» على نحو أكثر حرفيةً ممَّا تصوَّره دارون. فهذا الصراع في نظره مجهود مستمر، فيه تناحر ووحشية، لا من أجل الحياة فحسب، كما ظن شوبنهور، وإنما من أجل السبق أيضًا. وفضلًا عن ذلك فإن نظرة نيتشه إلى الإرادة كانت أقل ميتافيزيقيةً من نظرة شوبنهور إليها. فالإدارة عنده تتعلَّق بالفعل قبل كل شيء، وليست المسألة في نظر نيتشه مسألة إرادة «حرة»، وإنما مسألة إرادات أقوى وأضعف. ولقد حاول شوبنهور — وربما كان في ذلك غير متسق مع نفسه — أن يجعل الإرادة تنقلب على ذاتها، بحيث نظر إلى الحياة الصالحة على أنها حياة التأمل المتحرر من الإرادة. أمَّا نيتشه، فقد أدرك ما في هذا الموقف من افتقار إلى الاتساق، ورأى أن من المسلَّم به كون الإرادة كامنةً في كل حياة، وكونها باقيةً ما بقيت الحياة. ولذلك فالمسألة عنده لا يمكن أن تكون مسألة إنكار للإرادة أو تجاوز لها، وإنما السؤال الوحيد هو: أية إرادة هي التي ستسود؟ وهذه في رأيه مسألة قوة فحسب.
ومع ذلك، فهل كان الأمر كذلك حقًّا، حتى بالنسبة إليه؟ لقد قيل مرارًا إن نيتشه، شأنه شأن جميع القائلين بالنزعة الطبيعية، يشوِّه التمييز بين ما هو موضوع للإرادة وما هو جدير بالرغبة فيه؛ أي الخير، وإنه ينتقل من واقعة وجود إرادة القوة، إن كانت فعلًا موجودًا، إلى تمجيدها، دون أي تبرير ظاهر لهذا الانتقال. وهذا صحيح شكليًّا، وهو يوقع نيتشه في نفس المأزق الذي وقع فيه السفسطائي ترازيماخوس في «جمهورية» أفلاطون؛ فهو يعترض على أخلاق العبيد المسيحية بأنها تُكبِّل الأقوياء بالحديد. ولكن من هم الأقوياء في حقيقة الأمر؟ إن الأخلاق المسيحية والنظم الديمقراطية كما يصفها نيتشه، هي حيل تنظم بها إرادات الكثرة المتصفة بالضعف الفردي في إرادة جماعية عُظمى تكبت الإرادات الأقوى لمن هم أرفع من هذه الكثرة. وهنا يبدو أن نيتشه يعترف، دون تنبُّه، بالحقيقة المرة للمبدأ القائل إن «الاتحاد قوة»، وهكذا قد يقول البعض إنه كان من واجبه، بوصفه محبًّا للقوة على الدوام، أن يُعجَب بالأخلاق المسيحية والمبادئ السياسية الديمقراطية أكثر من إعجابه بإنسانه الأرقى وبمُثله العليا السياسية للصفوة الأرستقراطية. والواقع أن نيتشه يُعجَب بالقوة، ولكن عندما يملكها أناس أرقى فحسب، لا عندما يستخدمها القطيع ليقيِّد بها من هم أرقى منه.
وقد صُنِّف نيتشه أحيانًا بأنه دارويني اجتماعي، أحال الصراع من أجل الوجود إلى حكمة أخلاقية. ولكن الواقع أن فكرة الإنسان الأرقى عند نيتشه لا تُكوِّن نظريةً تطورية إلا إذا نُظر إليها نظرة سطحية، فما تتنبَّأ به هذه الفكرة بالفعل ليس نوعًا بيولوجيًّا جديدًا، وإنما هو نوع جديد من الإنسان، يدرك قدرته الخاصة على العلاء على ذاته، ويطالب لنفسه ولكل الأناس الراقين من أمثاله بحق العلاء على أنفسهم وتحقيق ذواتهم. فمذهبه هو قبل كل شيء دعوة أخلاقية أو دينية إلى العمل، وهو ينطوي على مناشدة لذوي القدرات الرفيعة بأن يعلوا بالجهد الصارم والتضحية فوق مستوى تراثهم الحيواني من الاستجابات المنعكسة الغريزية، وتراثهم الاجتماعي من الخضوع للنظم السائدة بطريقة رتيبة كطريقة القطعان. وبالاختصار، فنيتشه لم يكن يهتم جديًّا بالمسألة العلمية المتعلِّقة بإمكان حدوث تطور لنوع جديد من بعد نوعنا «الآدمي العاقل»، وإنما كان يهتم بالإمكانيات الروحية لهذا «الآدمي العاقل» ذاته.
وأعتقد أن من الإجحاف أن نقول إن نيتشه، الذي كان أبوه قسيسًا، قد ظلَّ طوال حياته واعظًا غير متخصِّص يسير في الطريق البروتستانتي التقليدي للفردية غير الخاضعة للنظم السائدة. على أن العقيدة التي يعظ بها هي في أساسها إمكان الخلاص الفردي دون مخلِّص. وإنا لنلاحظ، بين المثقفين المستنيرين الذين يتعيَّن عليهم، في عصر علمي، أن ينظروا إلى العالم من خلال النزعة الطبيعية، أن الأركان الأساسية للأسطورة المسيحية لا تعود لديهم قابلةً للتصديق، وأن هذه الأسطورة، كما ينبغي أن يعترف دعاة المسيحية «المتحرِّرة» صراحة، قد فقدت أخيرًا قوتها المخلِّصة. أمَّا أولئك الذين يسعَون، مثل هيجل، إلى الاحتفاظ بالفضل الإلهي المخلِّص في المسيحية، مجرَّدًا من جذوره في الإيمان والأمل البشري الدافق، فهم إنما يخدعون أنفسهم؛ وكل ما يصلون إليه هو إرجاء ظهور الإلحاد النزيه.
وليس معنى ذلك أن نيتشه، حين كفَّ عن أن يكون مسيحيًّا، قد تمكَّن آليًّا من أن يطرح عن عاتقه الحاجات التي دعمت أسطورة البعث لدى عدد لا يُحصى من الناس. فالمسألة هي: كيف يتسنَّى تلبية هذه الحاجات في إطار نظرة إلى العالم من خلال النزعة الطبيعية، لا تستطيع أن تنسب إلى الأسطورة المسيحية فضل التنبؤ، ولا فضل النبوءة الرمزية؟ لقد ظن نيتشه أنه اهتدى إلى الجواب في مذهب قديم هو العود الأبدي. ولقد رأينا كيف لمَّح هربرت سبنسر من بعيد إلى هذه الفكرة في نظريته شبه الدائرية للتكامل والتحلل التطوريَّين، غير أن سبنسر لم يستخدمها دينيًّا. أمَّا في حالة نيتشه، فقد كانت الفكرة في أساسها تصورًا دينيًّا للخلود الفردي؛ ففي رأيه أن كل فرد يمر في كل لحظة بدورة من الفاعلية أبدية العود، وإذن ففي كل شيء يفعله الفرد أو يمارسه، يكون هذا الفرد ذاته حاضرًا أبدًا. فما يهم الشخص الفردي، من وجهة نظر نيتشه، ليس الخلود اللاشخصي الذي يتمثَّل في الشهرة أو التأثير في حياة الناس الذين لم يولدوا بعد، وإنما خلوده الشخصي هو ذاته، وهو لا يقنع بأن أناسًا سيحيَون حياةً مماثلة لحياته في المستقبل، أو بأن آخرين سيتمكَّنون، بفضل جهوده، من الإيمان بأعز القيم لديه، وإنما يطلب أن يظل وعيه هو ذاته مستمرًّا على الدوام بطريقة ما. فإذا كانت النظرة إلى العالم ذات نزعة طبيعية، فمن المحال تلبية هذه الحاجة إلا عن طريق مذهب للعود الأبدي تعود فيه من جديد، مرات لا متناهية، دورة الحياة ذاتها.
(١) «لكم ثارت في أذهاننا من الأسئلة بفضل الرغبة في الوصول إلى الحقيقة، تلك الرغبة التي تُغرينا على أداء عديد من المهام الخطرة، وذلك الصدق المشهور الذي تحدَّث عنه الفلاسفة حتى اليوم بالتبجيل! ما أكثر هذه الأسئلة الغريبة، المحيرة، التي تغدو هي ذاتها موضوعًا للشك والتساؤل! إن القصة لطويلة حقًّا، ومع ذلك يبدو أنها لم تكد تبدأ. فهل يستغرب أحد، بعد ذلك، أن نشعر آخر الأمر بالريبة، وينفد صبرنا، ونُدير ظهرنا متأففين؟ وأن «أبا الهول» هذا يُعلِّمنا أخيرًا أن نوجِّه نحن أنفسنا أسئلة؟ فمن هو الذي يوجِّه إلينا الأسئلة هنا؟ وما هي بالفعل هذه «الرغبة في الوصول إلى الحقيقة» فينا؟ الحق أننا وقفنا وقفةً طويلة عند مسألة أصل هذه الرغبة، حتى وصلنا أخيرًا إلى توقف مطلق إزاء سؤال أهم حتى من السابق؛ فقد تساءلنا عن قيمة هذه الرغبة؛ ذلك لأننا نُسلِّم بأننا نريد الحقيقة، فلماذا لا نُفضِّل اللاحقيقة؟ واللايقين؟ بل الجهل؟ لقد مَثَلت أمامنا مشكلة قيمة الحقيقة، أم إننا نحن الذين جعلنا أنفسنا نمثُل أمام المشكلة؟ أينا أوديب هنا؟ وأينا أبو الهول؟ يبدو أن ثمة لقاء هنا بين الأسئلة وعلامات الاستفهام. وهل يُصدِّق أحد أنه يبدو لنا أخيرًا كأن المشكلة لم تُبحث من قبلُ قط، وكأننا أول من أدركها ولمحها، وخاطر بإثارتها؛ ذلك لأن في إثارتها مخاطرةً ربما كانت أشد المخاطر.»
(٣) وإني لأقول لنفسي الآن، بعد أن نظرت إلى الفلاسفة مليًّا وبإمعان، وقرأت ما بين سطورهم وقتًا طويلًا، إن الجزء الأكبر من التفكير الواعي ينبغي أن يُعَد من الوظائف الغريزية، وإن هذا يصدق حتى على التفكير الفلسفي، فعلى المرء أن يتعلم هنا من جديد، مثلما يتعلَّم من جديد عن الوراثة و«الفطرية». وكما أن لحظة الميلاد لا تُلقي إلا انتباهًا ضئيلًا في عملية الوراثة بأسرها، وفي استمرارها، فكذلك لا يُوجَّه إلا اهتمام ضئيل إلى التقابل بين «حالة الوعي» وبين ما هو غريزي. والواقع أن الجزء الأكبر من التفكير الواعي للفيلسوف يتأثر سرًّا بغرائزه، ويُدفع رغمًا منه في مسارات محددة. ومع وراء كل منطق، وكل سيادة ظاهرية مطلقة في حركة هذا المنطق، توجد تقييمات، أو بعبارة أوضح، مطالب فسيولوجية؛ لحفظ نوع محدد من الحياة.
(٤) إن بطلان أي رأي ليس في رأينا اعتراضًا يوجَّه إليه، وربما كان هذا أغرب ما في لغتنا الجديدة وقعًا على الأذان؛ فالمسألة هي: إلى أي حد يُعد الرأي مؤديًا إلى تقدُّم الحياة، وحفظها، وحفظ النوع، وربما إكثار النوع؟ وإنا لنميل بكل قوة إلى القول بأن أكثر الآراء بطلانًا (وهي الآراء التي تنتمي إليها الأحكام الأولية التركيبية) هي أكثرها ضرورةً لنا، وأنه دون اعتراف بالأساطير المنطقية، ودون مقارنة بعالم الواقع بعالم متخيَّل كله، هو عالم المطلق والثبات، ودون تزييف دائم للعالم عن طريق الأعداد — دون هذا كله لم يكن الإنسان يستطيع أن يعيش — وأن التخلي عن الآراء الباطلة إنما هو تخلٍّ عن الحياة، وإنكار لها. فإدراك أن اللاحقيقة شرط للحياة، هذه قطعًا إهانة خطيرة للأفكار التقليدية عن القيمة، وأية فلسفة تجرؤ على ذلك، تكون بهذا وحده قد اتخذت لنفسها موقعًا بمعزل عن الخير والشر.
(٥) إن ما يؤدي إلى نظرة الآخرين إلى الفلسفة على نحو تمتزج فيه الريبة بالسخرية، ليس الاهتداء الشائع إلى مدى سذاجتهم — ومدى وقوعهم بسهولة في الخطأ، وضلالهم عن الطريق؛ أي بالاختصار، مدى طفوليتهم — وإنما هو افتقارهم إلى الأمانة في معاملاتهم، في الوقت الذي يرفعون فيه عقيرتهم جهرًا، وقد انتفضوا غيرةً على الفضيلة، إذا ما لمَّح أحد إلى مشكلة صدقهم ولو من أبعد طرف، فهم جميعًا يحاولون إيهامنا بأن آراءهم الحقيقية قد كُشفت وبُلغت عن طريق التطور الذاتي لديالكتيك جامد، خالص، منزَّه مترفِّع (على عكس الصوفية بجميع أنواعهم، الذين يتحدَّثون على نحو أصدق وأكثر حمقًا عن «الإلهام»)، مع أن الذي يحدث في الواقع هو أنهم يدافعون بحجج يفتِّشون عنها فيما بعد، عن قضية أو فكرة أو «إيحاء» مغرِض، يمثِّل عادةً خُلاصة رغباتهم مجردةً مصفاة؛ فهم جميعًا محامون لا يريدون أن يُنظر إليهم بما هم كذلك، وكذلك مدافعون بارعون بوجه عام، عن تغرُّضاتهم، التي يسمونها «حقائق»، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك الضمير الحي الذي يسمح لهم بالاعتراف بهذا لأنفسهم في شجاعة، وأبعد ما يكونون عن الذوق السليم أو عن الإقدام الذي يجعلهم يسمحون للآخرين بإدراك ذلك، ربما على سبيل تحذير صديق أو عدو، أو في معرض الإفصاح عن دخائل نفوسهم في مرح وسخرية من ذاتهم. وإن منظر نفاق كانت، الذي يتصف بالجمود والترفُّع في آنٍ واحد، وهو المنظر الذي يغرينا به على السير وراءه في أزقة الديالكتيك المؤدية (أو على الأصح المضللة) إلى «أمره المطلق»؛ ليبعث الابتسام على شفاه المشاكسين من أمثالنا، الذين يجدون مسلاةً طريفة في الكشف عن الحيل اللئيمة لفلاسفة الأخلاق ووعاظها القدماء. والأدهى من ذلك هو الاحتيال باسم الصورة الرياضية التي خلعها اسبينوزا على فلسفته ووضعها من وراء قناع مخيف — أو، لكي نترجم لفظ «الفلسفة» ترجمةً أنصف وأصرح، لنقل «حبه لحكمته هو» — حتى يبعث بذلك الرعب على التو في قلب المهاجم الذي يدور بخَلَده أن يجرؤ على إلقاء نظرة على تلك الصبية المصونة، ربة الحكمة الأسطورية. فيا للجبن الشخصي والشعور بالضعف الذاتي الذي يكشف عنه هذا القناع الذي أخفى به ذلك المعتزل المريض وجهه!
(٦) ولقد اتضح لي بالتدريج قوام كل فلسفة عظيمة ظهرت حتى الآن؛ أعني كونها اعترافًا لمبدعها، ونوعًا من ترجمته الذاتية لحياته على نحو لا إرادي ولا شعوري، وأن المقصد الأخلاقي (أو اللاأخلاقي) في كل فلسفة، كان هو النواة الأساسية التي نما منها النبات بأسره.
والواقع أن من الأصوب (ومن الأحكم) أن يتساءل المرء أولًا، إذا شاء أن يفهم كيف توصَّل الفيلسوف إلى أعقد تعبيراته الميتافيزيقية: «ما هي الأخلاق التي يهدف (أو يهدفون) إليها؟» وعلى ذلك، فلست أومن بأن أصل الفلسفة «ميل طبيعي إلى المعرفة»، بل إن ها هنا، كما في كل شيء آخر، ميل طبيعي آخر، استخدم المعرفة (والمعرفة الباطلة!) أداة. ولكن كل من يتأمل الميول الطبيعية الأساسية للإنسان بغية تحديد المدى الذي ربما كانت قد قامت فيه بدور الأرواح الخفية الملهمة (أو الشياطين والجن)، سيجد أنها كلها قد مارست الفلسفة في وقت أو آخر، وأن كلًّا منها كان على أتم استعداد لينظر إلى ذاته على أنه الغاية القصوى للوجود، والحاكم الشرعي لكل الميول الطبيعية الأخرى؛ ذلك لأن كل ميل طبيعي ينزع بطبيعته إلى السيطرة، وعلى هذا الأساس يحاول أن يتفلسف. ومن المؤكد أن الأمر، في حالة الباحثين ورجال العلم الحقيقيين، قد يكون على خلاف ذلك أو «أفضل» من ذلك إذا شئت؛ ففي هذه الحالة قد يكون هناك فعلًا شيء يمكن أن يعد «ميلًا طبيعيًّا إلى المعرفة»؛ أي نوعًا من الساعة الدقاقة الصغيرة المستقلة، التي تعمل بجد لهذا الغرض إذا ما مُلئت جيدًا، دون أن يكون لبقية الميول الطبيعية المتعلِّقة بالبحث العلمي أي دور ملموس فيها. ﻓ «اهتمام» الباحث العلمي إذن يسير عمومًا في اتجاهات مخالفة تمامًا؛ في الأسرة، أو في جمع المال، أو في السياسة. والواقع أنه لا تكاد تكون ثمة أهمية لنقطة البحث التي توضع فيها هذه الآلة الصغيرة، أو لكون الباحث الشاب المليء بالأمل سيصبح فقيهًا لغويًّا متبحِّرًا، أو إخصائيًّا في الفطريات، أو كيميائيًّا؛ فهو لا يتصف بكونه قد أصبح هذا أو ذاك. أمَّا في حالة الفيلسوف، فليس ثمة شيء لا شخصي على الإطلاق، والأهم من هذا كله أن مذهبه الأخلاقي يشهد بكل دقة ووضوح على طبيعته؛ أي على العلاقة التي ترتبط بها أعمق ميوله الطبيعية بعضها ببعض.
•••
(١٣) ينبغي على علماء النفس أن يفكِّروا مليًّا قبل أن يؤكِّدوا أن غريزة حفظ الذات هي الغريزة الأساسية لدى كل كائن عضوي؛ فالكائن الحي يسعى قبل كل شيء إلى إطلاق قوته، والحياة ذاتها إنما هي إرادة قوة، أمَّا حفظ الذات فليس إلا واحدًا من أكثر النتائج غير المباشرة شيوعا لهذه الإرادة. وبالاختصار، فلنحذر هنا، كما في كل موضع آخر، من المبادئ الغائبة المزيفة — ومنها غريزة حفظ الذات (التي ندين بها لعدم اتساق اسبينوزا). هذا ما يقتضيه المنهج، الذي ينبغي أن يكون اقتصادًا في المبادئ قبل كل شيء.
•••
(١٨) ومن المؤكَّد أن قابلية النظرية للتفنيد من العوامل التي تجعلها محببةً إلى النفس؛ ففي هذا تجذب الأذهان الأشد عمقًا. ويبدو لي أن نظرية «الإرادة الحرة» التي فُنِّدت مئات المرات، تدين بدوامها إلى هذه الجاذبية وحدها؛ إذ يظهر دائمًا شخص يشعر في نفسه بالقوة التي تجعله يفنِّدها.
(١٩) ولقد اعتاد الفلاسفة التحدُّث عن الإرادة وكأنها شيء مألوف تمامًا، بل لقد حاول شوبنهور إيهامنا أن الإرادة هي وحدها ما نعرفه بحق، وبطريقة مطلقة كاملة، بدون أي استنباط أو إضافة. ولكن يبدو لي على الدوام أن شوبنهور لم يفعل في هذه الحالة أيضًا سوى ما اعتاد الفلاسفة أن يفعلوه — أي يبدو أنه آمن «بوهم شائع» وبالغ فيه؛ فالإرادة تبدو لي في المحل الأول، شيئًا معقَّدًا، شيئًا لا وحدة فيه إلا بالاسم — والواقع أن الأوهام الشائعة، التي غلبت التحوُّطات غير الكافية للفلاسفة في كل العصور، لا تكمن إلا في أسماء. وإذن، فلنكن من الآن فصاعدًا أشد حذرًا، ولنخالف طريقة الفلاسفة، ولنقل إن في كل إرادة، أولًا، عددًا كبيرًا من الأحاسيس، وأعني بها الإحساس بالظرف «الذي نبتعد عنه»، والإحساس بالظرف «الذي نتجه إليه»، والإحساس بهذا «الخروج» و«الابتعاد» ذاته، يضاف إلى ذلك، إحساس عضلي مصاحب، يبدأ عمله، حتى لو لم نحرِّك «ذراعَينا ورجلَينا» بقوة العادة، بمجرد أن «نريد» شيئًا. وعلى ذلك، فكما أن الإحساسات (وأنواعًا كثيرة منها بالفعل) ينبغي أن ينظر إليها على أنها مكوِّنات الإرادة، فمن الواجب أن ينظر إلى التفكير، ثانيًا، على هذا النحو ذاته. ففي كل فعل للإرادة، فكرة غالبة. وعلينا أن نكف عن تصور إمكان فصل هذه الفكرة عن «الإرادة»، وكأن الإرادة ستظل عندئذٍ مكتوفة الأيدي! وثالثًا، فليست الإرادة ظاهرةً مركبة تتألف من إحساسات وتفكير فحسب، بل إنها قبل كل شيء انفعال، بل هي انفعال الأمر والسيطرة، فما يسمَّى ﺑ «حرية الإرادة»، هو أساسًا انفعال الغلبة على من يتعيَّن عليه أن يطيع: «أنا حر، وعليه هو أن يطيع» — فهذا الشعور كامن في كل إرادة، وكذلك الحال في تركيز الانتباه، والنظرة الجادة التي تستقر على شيء واحد لا تحيد عنه، والحكم غير المشروط بأن «هذا ولا شيء غيره ضروري الآن»، واليقين الباطن بأن فروض الطاعة ستقدم — وكل أمر آخر ينتمي إلى حالة الأمر المسيطر، فمن يريد يأمر ويسيطر على شيء في نفسه يقدِّم إليه فروض الطاعة، أو يعتقد أنه سيقدِّم إليه فروض الطاعة، ولكن، فلنتأمل الآن أغرب ما في الإرادة، تلك الظاهرة العظيمة التعقيد، التي لا يطلق عليها الناس إلا اسمًا واحدًا، فبقدر ما نكون في الظروف المعينة آمرين ومطيعين في آنٍ واحد، وبقدر ما نعرف، بوصفنا الطرف المطيع، أحاسيس الإرغام والإكراه والضغط والمقاومة والحركة، التي تبدأ عادةً بعد فعل الإرادة مباشرة، وبقدر ما نعتاد، من جهة أخرى، أن نتجاهل هذه الثنائية، ونخدع أنفسنا حيالها باستخدام اللفظ المركب «أنا». بهذا القدر أصبحت هناك سلسلة كاملة من الاستنتاجات المخطئة، وبالتالي من الأحكام الباطلة عن الإرادة ذاتها، ترتبط بفعل الإرادة، إلى حد أن من يريد يعتقد اعتقادًا راسخًا بأن عملية الإرادة كافية للفعل. ولمَّا كان ما يحدث في معظم الحالات هو أننا لا نمارس الإرادة إلا عندما يكون تأثير الأمر — وبالتالي الطاعة، وبالتالي الفعل — متوقَّعًا، فقد عبَّر المظهر عن ذاته بالإحساس بأن هناك ضرورة عِلِّية، وبالاختصار، أصبح من يريد يؤمن بقدر غير قليل من اليقين بأن الإرادة والفعل أمر واحد على نحو ما، فيعزو نجاح عملية الإرادة والقدرة على تنفيذها إلى الإرادة ذاتها، وبذلك يتمتَّع بمزيد من الشعور بالقوة، المصاحب لكل نجاح؛ ﻓ «حرية الإرادة» هي التعبير عن الحالة المعقَّدة لاغتباط الشخص الذي يمارس عملية الإرادة، ويأمر ويرى في نفسه منفذًا للأمر في آنٍ واحد؛ أي يتمتع أيضًا بالانتصار، على العقوبات، ولكن يعتقد بينه وبين نفسه أن إرادته الخاصة هي التي تغلَّبت على هذه العقبات بالفعل.
•••
(٢٢) ولتعذروني يا علماء الفيزياء إذا قلت، بوصفي عالمًا قديمًا في اللغة لا يستطيع الإقلاع عن عادة سيئة هي وضع إصبعه على طرق التفسير الفاسدة، إن عبارة «اتفاق الطبيعة مع القانون»، التي تتحدثون عنها بكل هذا الفخر، لا وجود لها إلا بفضل تفسيركم وسوء ثقافتكم اللغوية؛ فهي ليست أمرًا واقعًا، وليست «نصًّا»، وما هي إلا تكيُّف بشري ساذج، وتشويه للمعنى، تستطيعون به أن تُرضوا إلى حد بعيد الغرائز الديمقراطية في نفس الإنسان الحديث! فالمساواة أمام القانون شاملة — والطبيعة لا تختلف عنَّا في هذا الصدد، وليست أفضل منا — وهو مثل رائع لدافعٍ دفين، يتوارى من ورائه مرةً أخرى ذلك العداء السوقي لكل ما هو مميَّز ومسيطِر، وكل ما يستحق بالتالي أن يُعد إلحادًا، بمعنًى آخر أعمق للكلمة. «فلا إله، ولا سيد» — ذلك أيضًا هو ما تريدون، وعلى ذلك «فليحيا القانون الطبيعي!» — أليس الأمر كذلك؟ ولكن هذا، كما قلنا، تفسير، وليس نصًّا، وقد يأتي شخص يستطيع، بمقاصد وطرق تفكير مضادة، أن يرى في «الطبيعة» ذاتها، وفي الظواهر ذاتها، مجرد تنفيذ مستبد غاشم لمطالب القوة؛ أعني مفسرًا يضع أمام أعينكم الطابع المطرد المطلق لكل «إرادة قوة» على نحو يجعل كل لفظ، بل لفظ «الاستبداد» ذاته، يبدو غير ملائم، أو منطويًا على إضعاف وتخفيف من حدة الاستعارة؛ أي يبدو إنسانيًّا أكثر ممَّا ينبغي، وينتهي به الأمر مع ذلك إلى تأكيد نفس ما تؤكدونه عن هذا العالم؛ أعني أن له مجرًى ضروري «يمكن حسابه»، ولكن ليس لأن القوانين تنطبق عليه، بل لأن هذه القوانين منعدمة تمامًا، ولأن كل قوة تُحدث تأثيراتها النهائية في كل لحظة. فلو سلَّمنا بأن هذا بدوره لا يعدو أن يكون تفسيرًا — وهل ستتحمَّسون إلى حد توجيه هذا الاعتراض؟ — فما زال هذا في نظري أفضل.
(٢٣) لقد ظلَّ علم النفس حتى اليوم يتغاضى عن التحامل والجبن الأخلاقي، ولم يجرؤ على اقتحام أعماقه، وبقدر ما يكون من حق المرء أن يُدرك فيما كُتب حتى اليوم، دليلًا على ما ظلَّ حتى اليوم مطويًّا في ثنايا السكوت، فيبدو أن أحدًا لم يتنبَّه حتى اليوم، كما تنبَّهت أنا، إلى فكرة علم النفس، بوصفه وصفًا لتغير إرادة القوة وعرضًا منظَّمًا لتطورها؛ ذلك لأن قوة التحاملات الأخلاقية قد تغلغلت بعمق في أبعد نواحي العالم العقلي، ذلك العالم الذي يبدو أشد موضوعيةً ونزاهة، وأثَّرت فيه بوضوح تأثيرًا ضارًّا عائقًا مموِّهًا مضلِّلًا. وعلى كل مذهب نفساني فسيولوجي سليم أن يواجه العداوة اللاشعورية في قلب الباحث؛ فهذا «القلب» هو خصمه؛ فحتى المذهب القائل بأن الدوافع «الخيرة» و«الشريرة» تتحكَّم بعضها في البعض تحكُّمًا متبادلًا، يولِّد (بوصفه لا أخلاقية مهذبة) استياءً ونفورًا في أي ضمير ما زال يتصف بالقوة والشهامة، فما بالك بمذهب يستمد كل الدوافع الخيرة من دوافع شريرة؟ أمَّا إذا نظر شخص إلى انفعالات الكراهية والحسد والطمع وحب السيطرة ذاتها على أنها انفعالات تتحكَّم في الحياة، وعلى أنها عوامل لا بد أساسًا من وجودها من أجل استمرار المجرى العام للحياة (وبالتالي عوامل ينبغي تشجيعها إذا شئنا تشجيع الحياة ذاتها على التطور)، فإنه سيقاسي من نظرته هذه إلى الأشياء كما يقاسي من دوار البحر. ومع ذلك فهذا الفرض ليس أغرب الفروض وأكثرها إيلامًا في هذا الميدان الواسع، الذي لم يكد يُطرَق من قبل، للمعرفة الخطرة، والحق أن هناك مئات من الأسباب المعقولة التي تحتِّم على كل من يستطيع الامتناع عن طَرق هذا الميدان أن يفعل ذلك! ومن جهة أخرى، فإذا وجَّه امرؤ شراعه في هذا الاتجاه، فعليه أن يقبض عليه بكل ما يملك من قوة، وأن يفتح عينَيه ويثبِّت قبضته على الدفة! فنحن هنا إنما نُبحر فوق الأخلاق مباشرة، ونحن إنما نسحق، وربما ندمِّر، ما تبقَّى من أخلاقيتنا إذ نجسر على القيام برحلتنا هنا. ولكن فيمَ يهمنا ذلك؟! لقد تفتَّح أمامنا عالم للتأمل لم يتكشَّف مثله للرحالة والمغامرين الجسورين، وعلى الأقل فسوف يكون من حق عالِم النفس الذي يقوم بهذه التضحية — وهي ليست «تضحية العقل»، بل عكسها — أن يطالب مقابل ذلك بالعودة إلى الاعتراف بعلم النفس تاجًا للعلوم، توجَّه كلها لخدمته وتزويده بما يريد. فها هنا يسير علم النفس مرةً أخرى في الطريق المؤدِّي إلى المشاكل الأساسية.