العودة إلى التنوير
ولقد كانت المشاكل معقدةً وعسيرة، ولكن كان لا بد من الاهتداء إلى حل لها من أجل الاحتفاظ بمركز الفيزياء بوصفها علمًا تجريبيًّا، ومن أجل الإبقاء على مكانة علم الفيزياء بوصفه أنموذجًا للمعرفة البشرية. وكانت الحاجة إلى مثل هذه الحلول أشد إلحاحًا في ذلك العصر؛ لأن النظريات التجريبية في المعرفة، تلك النظريات التي ظلَّ المنهج العلمي يرتكن إليها طويلًا في تبرير إعادته بأنه هو الوسيلة الوحيدة لنقل التصديق العقلي، كانت هي ذاتها تتعرَّض لهجوم عنيف من مصادر أخرى؛ ذلك لأن الاضطراب المتزايد في صفوف العلماء أنفسهم قد عاد بالفائدة الجزيلة، ولم يعد بأية خسارة، على الفلاسفة المثاليين وحلفائهم في ميدانَي التاريخ والنظرية الاجتماعية، بل على علماء اللاهوت والثوريين السياسيين. فإذا كان هذا العلم المحبَّب إلى الروح الوضعية؛ أي الفيزياء ذاتها، لم يعد يُنظر إليه على أنه علم تجريبي محض، فأي شيء إذن يستطيع أن يمنع «العلوم» الأخرى، التي تعترف بأنها غير تجريبية، من الادعاء بأنها تأتينا بنوع من المعرفة «عن العالم الحقيقي؟»
لقد رأى التجريبيون منذ عهد هيوم أن الصفة المميِّزة للعلم، التي تُفرِّق بينه وبين اللاهوت المتعالي والميتافيزيقا تفرقةً قاطعة، هي رفضه لأي تصور لا يمكن تعريفه بعبارات وألفاظ تشير إلى مُكوِّنات يمكن إدراكها في التجربة الحسية. ولكنه أصبح من الواضح الآن أن علم الفيزياء، الذي يُعد مثلًا أعلى للعلوم، يزداد هو ذاته إقبالًا على استخدام تصورات لا يبدو أن من الممكن ردها على هذا النحو. ومع ذلك، فأية حجة يمكن أن تُقدَّم في هذه الحالة ضد أولئك الفلاسفة الذين رأوا أن مجرد عدم قابلية أفكار مثل فكرة الله والحرية والخلود للتعريف التجريبي لا تؤلِّف اعتراضًا جديًّا ضدها؟ وإذا كان علم الفيزياء العظيم يلجأ رغمًا عنه إلى مفهومات تتجاوز التجربة عندما يحاول تفسير الارتباطات بين ظواهر قابلة للملاحظة فحسب، ألَا يكون العلم ذاته قد رضي بطريقة ضمنية عن التصورات اللاهوتية والتفسيرات الميتافيزيقية التي رفضها كونت وأتباعه باسم العلم الوضعي؟ وماذا نقول عن ادعاءات «مِل» المتعلقة بفلسفة التجربة، إن كانت الفيزياء ذاتها، لا الرياضيات فحسب، قد أصبحت لا تكترث بمسألة وجود أساس تجريبي لنماذجها التصورية؟
في هذا الجو الحافل بالحيرة والاضطراب، أخذ العالم الفيزيائي والفيلسوف النمسوي «إرنست ماخ» على عاتقه مهمة الدفاع من جديد عن برنامج الوضعية ضد مهاجميها؛ فقد كان ماخ على ثقة من أنه إذا ما أُريد الدفاع عن العلم بطريقة متسقة، بوصفه الصورة الوحيدة للتصديق العقلي، فمن الواجب أن يرود العلماء أنفسهم دائمًا على الامتناع عن استخدام ألفاظ ونظريات لا ترتبط بوقائع التجربة ارتباطًا استنباطيًّا. ولذلك أقترح وصفةً غذائية علاجية ثورية كفيلة بإرجاع العلوم الفيزيائية إلى وزنها الذي تستطيع فيه استئناف نشاطها بوصفها علومًا تجريبية، وبذلك يزول عن جسم ذلك العلم الرفيع كل ما تراكم عليه من شحم التركيبات النظرية غير القابلة للتحقيق. على أنه لم يقترح ذلك باسم الفلسفة الوضعية، وإنما باسم العلم ذاته؛ فقد تحدث بوصفه عالمًا فيزيائيًّا يخاطب علماء فيزيائيين، لا بوصفه مجرد داعية فلسفي.
وفي رأي ماخ أن الهدف الوحيد للعلم هو وصف العلاقات القابلة للملاحظة بين الظواهر والتنبؤ بها. ولكن ما الذي ينبغي علينا أن نقبله بوصفه ظواهر؟ إن إدراكاتنا الحسية اليومية التلقائية تحتوي عناصر غريبةً من التفسير الذاتي تتجاوز ما يمكن أن يقال إننا نراه أو نسمعه بالمعنى الدقيق. فمن غير الممكن الاعتماد على ما نسمِّيه عادةً ﺑ «الملاحظة» في تقديم تصوير صادق للمعطيات الحسية التي هي أول وآخر كل تعميم وتنبؤ علمي؛ ولذلك كان يتعيَّن على أية نظرية علمية في المعرفة أن تضع نظريةً سليمة للظواهر، يُحذف منها كل أثر للذاتية. وهكذا اعتقد ماخ؛ إذ لم يعترف ﺑ «عناصر» المعرفة البشرية سوى الإحساسات ذاتها، ولم يتخذ أساسًا للإشارة إلا من الألفاظ الدالة على هذه العناصر، إن من الممكن وضع اختبار حاسم للإدراك الصادق وللتمييز المعرفي بين التعبيرات ذات المعنى والتعبيرات غير ذات المعنى. ومع ذلك فقد أدرك أن العلم لا يستطيع المضي في طريقة دون استخدام بعض الألفاظ الأخرى غير الدالة على العناصر الحسية أو مُركَّباتها. مثال ذلك أن العالم لا يستطيع أن يستغني عن «الكلمات الشيئية» أو عن تصورات كالعلة أو العدد. ومن رأي ماخ أن هذه التصورات كلها «تصورات مساعدة»؛ فهي لا تُقبَل في اللغة العلمية إلا بقدر ما تُمكِّننا من التعبير بدقة واختصار عن تفسيرنا في الظواهر؛ فهذه التصورات أجهزة حاسية، إن جاز هذا التعبير، وليست ألفاظًا تنطبق على الظواهر وتشرحها. وإذن فبقدر ما تُتيح هذه الألفاظ تنظيم الفروض في إطار مُنظَّم، جامع، واضح، للنظرية العلمية، فإن ماخ على استعداد لقَبول الأفكار المساعدة في اللغة العلمية، على أن يكون مفهومًا بوضوح أن من الواجب ألَّا يظن أنها تدل على أي شيء ما لم يؤتَ بتعريفات تُبيِّن كيف يمكن ردها دون باقٍ إلى مجموعات من الألفاظ الأخرى التي تُشير مباشرةً إلى عناصر حسية.
وإذن ففي نظرية المعرفة عند ماخ مبدآن منهجيان؛ أولهما، ويمكن تسميته التجريبية، يقول إن الإحساسات وحدها هي التي تمدُّنا بالمعطيات أو «المادة» الحقيقية للمعرفة. ويرى ماخ أن لهذا المبدأ نتيجةً هامة، هي أن الألفاظ التي ينبغي استخدامها وتطبيقها ليست إلا تلك التي تسير، بطريق مباشر أو من خلال تعريفات، إلى الإحساسات. ومن الممكن أن نُطلق على هذه النتيجة اسم «نتيجة المذهب الظاهري».
أمَّا المبدأ الثاني، الذي يمكن تسميته بالمبدأ البرجماتي للاقتصاد في الفكر فيقضي بأن التصورات المساعدة يمكن أن تُقبل في اللغة العلمية، ولكن لغرض واحد هو تنظيم الفروض في نسق محكم الترابط. وينبغي أن نعترف بأن هذَين المبدأَين يولِّدان نوعًا من التوتر في تفكير ماخ. كما أنه لم ينجح في تقديم إيضاح لطبيعة الألفاظ المساعدة يكفل تفسير استخدامها على نحو لا يقضي منا افتراض أنها تشير إلى كِيانات غامضة في عالم الواقع. ولقد كان ماخ يحتاج، من أجل إزالة هذا التوتر، وتفسير الوظيفة الرمزية في العلم للألفاظ غير المشيرة إلى موضوعات، إلى فلسفة للغة والمنطق أوسع نطاقًا وأبعد غورًا ممَّا كان هو ذاته قادرًا على الإتيان به. ولم يبدأ الوضعيون وحلفاؤهم البرجماتيون في تعويض هذا النقص إلا في القرن التالي.
ولقد كان ماخ، مثل كونت من قبله، واضع برنامج في المحل الأول؛ فأفكاره كانت كالبذور المولِّدة لغيرها، وكان لها تأثير بالغ في الفترة التالية لوفاته. غير أنه لم يُقدِّم تحليلات لتصورات مساعدة خاصة توضح بالتفصيل طريقة عمل هذه التصورات في عملية «توفير التجارب».
على أنه لا يمكن القول إن جميع النظريات التجريبية في المعرفة قد أنكرت على هذا النحو القاطع وجود فروق حتمية في المنهج، بين العلوم التي تتناول الموضوعات المادية وتلك التي تختص بالظواهر الذهنية؛ فمن الممكن منطقيًّا الاعتراف بأن كل معرفة تشير آخر الأمر إلى أجزاء من التجربة، وتظل مسألة كون جميع أنواع التجربة مشتركة بين الناس من حيث المبدأ أم لا، مسألة لم يُبت فيها بصفة قاطعة. ولقد كان هناك في الواقع عدد غير قليل من الفلاسفة الذين عدُّوا أنفسهم تجريبيين، وظلوا مع ذلك يؤكِّدون أن هناك فئةً معينة من المعطيات (يُسمِّيها هيوم «بانطباعات الانعكاس») لا يمكن أن تُفهم إلا بنوع خاص من الملاحظة، يُشار إليها بتعبيرات مختلفة؛ منها «الاستبطان» و«ملاحظة الذات» أو «الوعي بالذات»، ولا شك أن اعترافات كهذه كفيلة بالقضاء على برنامج كبرنامج ماخ؛ إذ إننا ما إن نعترف من حيث المبدأ بأن الوسيلة الوحيدة للوصول إلى وقائع الانفعال والشعور والذاكرة هي أنواع خاصة مُعيَّنة من الملاحظة، حتى ينهار المثل الأعلى لوحدة العلم بأسره في الحال. وفي هذه الحالة يكون من الضروري الاحتفاظ بمبدأ مثالي واحد على الأقل، هو المبدأ القائل إن هناك فارقًا أساسيًّا في النوع بين علوم الطبيعة والسلوك، وتلك الأبحاث التي تتعلَّق أساسًا بالحياة الباطنة.
وإذن، فليس يكفي، لتحقيق أهداف ماخ، أن يقال إن من الواجب ألَّا يُقبل شيء بوصفه فرضًا علميًّا ما لم يواجه اختبار الملاحظة؛ إذ ما الذي ينبغي أن نعده «ملاحظة»؟ وهل هناك نوع واحد أساسي للملاحظة فحسب، أم إن هناك أنواعًا شتى؟ وهل بعض فئات الظواهر عام وبعضها الآخر خاص، أم إن جميع الظواهر قابلة، من حيث المبدأ على الأقل، للملاحظة بين ذوات مختلفة؟ تلك أسئلة كانت ملحةً في عصر ماخ، وما زالت كذلك حتى يومنا هذا. كما أنه لا يكفي من وجهة نظر ماخ، أن يقال إن جميع الأسئلة المتعلِّقة بالارتباطات العِلِّية بين الظواهر هي أسئلة خاصة بالارتباط القابل للملاحظة. فماذا يكون الحال لو لم يكن من الممكن في جميع الحالات تحقيق هذه الارتباطات بطريقة مشتركة بين الذوات؟ وإذا كانت بعض الظواهر المترابطة لا يتوصل إليها إلا فرد واحد، فيبدو أنه ليس ثمة أساس كافٍ للقول إن المناهج المستخدمة في العلوم الفيزيائية هي في أساسها تلك اللازمة لمعرفة الظواهر النفسانية.
وإذن فالهدف من مذهب ماخ مضاد أساسًا للذاتية. ولنعبِّر عن فكرتنا بلغة «مِل»، فنقول إنه لا توجد إمكانيات للإحساس لا يمكن، من حيث المبدأ، المشاركة فيها. وتبعًا لهذا الرأي تكون العزلة راجعةً إلى انفصال المرء عن رفاقه من الناس، لا إلى وجود إحساسات أو مشاعر في تجربته تمتنع بالضرورة على الآخرين.
وليس بين الفلاسفة بأجمعهم اتفاق حول كون هذه القضية الوضعية هي ذاتها «ميتافيزيقية»، أم إنها مجرد قاعدة من قواعد البحث أو المنهج. ولكن ليس لمسألة الأسماء أهمية كبرى، طالما أننا نُدرك أن مبدأ اشتراك الإحساسات بين الذوات هو التزام أساسي ليس في ذاته قابلًا للتحقيق بمناهج العلم. وكيف يكون قابلًا للتحقيق وهو في قراره ادعاء بشأن الإجراءات والمُثل العليا التي يختص بها العلم ذاته؟ غير أن هذا لا يغدو أمرًا يؤخذ عليه، إذا أدركنا أن كل فلسفة، وكل ميتافيزيقا قبل كل شيء، ترتبط بالتزامات أو مواقف أساسية معينة لا تقبل البرهنة عليها لأنها سابقة على كل برهان.
والحق أن الأهداف الكامنة من وراء فلسفة ماخ واضحة تمامًا؛ ففي رأيه أن العلم، بوصفه النظام المتعلِّق بالمعرفة التراكمية، لم يُحقِّق نجاحه الباهر إلا بفضل تمسُّكه الشديد، عمليًّا، بالمبدأ القائل إن الفرض لا يصح أن يُقبل إلا إذا خضع لشروط قابلة للملاحظة المشتركة بين الذوات. ومجرد تأكيد سلطة هذا المبدأ، حتى باسم مذهب تجريبي أكثر تسامحًا، يسمح بالاعتراف بالإحساسات الخاصة التي لا تُعرف إلا بالاستبطان، يعني أنه قد أُزيلت من الطريق عقبات أنصار الغيبيات، الذين يدَّعون بصحة قضايا لا يدعمها إلا التحامل أو الوحي أو سلطة أفراد مُعينين، ولا شك أن الاعتراف بهذه الأنواع من «المعرفة» ينطوي على نتائج أيديولوجية خطيرة.
ولقد أدرك ماخ بكل وضوح الدلالة الأيديولوجية الأساسية لالتزاماته الفلسفية الخاصة. ولعله من الملائم أن يُختم كتاب كهذا، يبحث في خلافات أيديولوجية لها أعظم الأهمية في حياتنا، بمختارات من كتابات فيلسوف استطاع، عن إيمان صادق، أن يؤكِّد من جديد المُثل الروحية العليا الكامنة في «عصر التنوير» ذاته؛ فقرب نهاية كتاب ماخ العظيم «علم الميكانيكا» نجد الفقرة الآتية: «يبدو أن المذهب العقلي لم يجد مسرحًا واسعًا للعمل إلا عند ظهور أدب القرن الثامن عشر؛ ففي هذا الأدب تقابل العلم الإنساني والفلسفي والتاريخي والفيزيائي، وشجَّع كل منهم الآخر. والحق أن كل من تتبَّعوا جزئيًّا تجربة هذا التحرُّر الرائع للعقل البشري في أدبه سيظلون يشعرون طوال حياتهم بأسف رثائي عميق على القرن الثامن عشر.» ولقد أدرك ماخ أن المُثل العليا القيمة لعصر التنوير لم تواجَه بالرفض من جانب الفلاسفة المعادين للوضعية فحسب، بل إنها أصبحت الآن مُهدَّدةً من جانب العلماء أنفسهم، الذين قد يُقوِّضونها دون أن يشعروا. ولقد سمعنا في الآونة الأخيرة وضعيين معاصرين يصيحون «عَودًا إلى ماخ» عندما أدركوا وجود انحرافات بين صفوفهم. ولكن المعنى الحقيقي لصيحتهم هذه، من وجهة نظر ماخ ذاته، هو «عودًا إلى عصر التنوير».
ولقد أُثيرت منذ عصر ماخ مجادلات خاصة حول صحة برنامج ماخ لتطهير العلم من شوائبه؛ فرأى عالم الفيزياء الكبير، ماكس بلانك، مثلًا، أن مبدأ الاقتصاد الفكري عند ماخ يؤدِّي، إذا ما طُبِّق تطبيقًا عامًّا، إلى إعاقة تقدُّم العلم ذاته على نحو خطير؛ إذ يشل الخيال العلمي وإيمان العالم بعمله من حيث هو تصوير صادق للواقع. ورأى آخرون أن كرامة العلم بوصفه أرفع أداة لنقل المعرفة البشرية، ستختفي إذا ما نُظر إلى نظريات العلم الطبيعي، عمومًا، على أنها لا تعدو أن تكون نظامًا من الصيغ الشاملة المريحة للتنبؤ بحدوث الإحساسات، بل إنه ليبدو أن أينشتاين ذاته، مع إعجابه الشديد بماخ، قد عارض الوضعية أحيانًا في سنواته المتأخرة لأسباب مماثلة.
•••
ولكي نفهم العملية التي نشرحها ها هنا، ينبغي أن ننظر في الأحوال العامة السائدة في تلك العصور؛ فمن الطبيعي أن ينظر الناس إلى الأشياء من وجهة نظر لاهوتية، في مرحلة للمدنية يكون الدين فيها هو المصدر الوحيد للتعليم، ويكون هو النظرية الوحيدة عن العالم، وأن يعتقدوا أن هذه النظرية هي السليمة في جميع ميادين البحث. ولو رجعنا بأذهاننا إلى العهد الذي كان فيه الناس يعزفون فيه على الأرغن بقبضة يدهم، ولا يستطيعون إجراء العمليات الحسابية إلا إذا كان أمامهم جدول الضرب، ويؤدُّون بأيديهم كثيرًا من الأعمال التي يؤديها الناس اليوم بأدمغتهم، فلن يكون لنا أن نطلب من الناس في وقت كهذا أن يختبروا آراءهم ونظرياتهم بطريقة ناقدة. غير أن هذا التحامل الذهني قد اختفى ببطء وتدريجيًّا باتساع الأفق العقلي بفضل الكشوف والمخترعات الفنية والعلمية والجغرافية في القرن الخامس عشر والسادس عشر، وبكشف مجالات كان من المستحيل إحراز أي تقدُّم فيها في ظل النظرة القديمة إلى الأشياء، لا لشيء إلا لأن هذه النظرة قد تكوَّنت قبل معرفة هذه المجالات. وسيظل من العسير دائمًا فهم حرية الفكر الهائلة التي ظهرت في حالات فردية في العصور الوسطى المتقدِّمة، بين الشعراء أولًا ثم بين العلماء. فلا بد أن التنوير كان في تلك الأيام مبنيًّا على جهود قلة من الأذهان الخارجة تمامًا عن المألوف، ولم تكن تربطه بآراء جمهرة الناس إلا خيوط واهية إلى أبعد حد، أحرى ببلبلة هذه الآراء منها بتقويمها. ويبدو أن المذهب العقلي لم يجد مسرحًا واسعًا للعمل إلا عند ظهور أدب القرن الثامن عشر؛ ففي هذا الأدب تقابل العلم الإنساني والفلسفي والتاريخي والفيزيائي، وشجَّع كلٌّ منهم الآخر. والحق أن كل من تتبَّعوا جزئيًّا تجربة هذا التحرُّر الرائع للعقل البشري في أدبه، سيظلون يشعرون طوال حياتهم بأسف رثائي عميق على القرن الثامن عشر.
(٧) وإذن فقد تمَّ التخلي عن وجهة النظر القديمة، ولم يعد تاريخها يُتلمَّس الآن إلا في صورة المبادئ الميكانيكية. وستظل هذه الصورة غريبةً عنَّا طالما أننا نجهل أصلها. وقد حلَّت بالتدريج محل النظرة اللاهوتية إلى الأشياء نظرةٌ أخرى أشد صرامة، واقترنت هذه بكسب كبير في التنوير كما سنُبيِّن الآن بإيجاز.
•••
وهنا يكون للمرء كل الحق في أن يُوجِّه السؤال الآتي:
•••
إن القول بإرادة وعقل فعالَين في الطبيعة ليس وقفًا على عقيدة التوحيد المسيحية، بل إن الفكرة، على عكس ذلك، مألوفة تمامًا في العهد الوثني وعهد العبادات السحرية. غير أن الوثنية تجد هذه الإرادة وهذا العقل في الظواهر الفردية وحدها، في حين تلتمسهما عقائد التوحيد في «الكل». وفضلًا عن ذلك فليس ثمة توحيد خالص؛ فالتوحيد اليهودي في الإنجيل لا يخلو من إيمان بالجن والشياطين والسحرة، والتوحيد المسيحي في العصور الوسطى أكثر من ذلك احتشادًا بالأفكار الوثنية.
(٨) ولم يتمكَّن العلم الفيزيائي من التخلُّص من هذه الأفكار إلا ببطء شديد.
فمن الطبيعي أن تؤكَّد هذه الأفكار ذاتها بإصرار؛ فالتحليل العلمي والمعرفة التصورية لا يتناولان إلا قدرًا ضئيلًا جدًّا من تلك الدوافع العديدة التي تتحكَّم في الإنسان بقوة جبارة، والتي تُغذِّيه وتحفظه وتُنمِّيه، دون معرفة أو رقابة من جانبه — تلك الدوافع التي تمثَّلت في العصور الوسطى مظاهر مرَضيةً مفرطة لها. والطابع الأساسي لكل هذه الغرائز هو الشعور بوحدتنا مع الطبيعة ومماثلتنا لها، وهو شعور يمكن إسكاته أحيانًا، ولكنه لا يُقتلع أبدًا بالاستغراق في المشاغل العقلية، وله قطعًا أساس سليم، مهما كانت النتائج الدينية الممتنعة التي يؤدِّي إليها.
إن العلم الفيزيائي لا يَدَّعي أنه نظرة «كاملة» إلى العالم، وإنما يقول فقط إنه يعمل لبلوغ نظرة كاملة في المستقبل. وإن أعلى فلسفة يتصف بها الباحث العلمي إنما هي تحمل هذه النظرة غير الكاملة إلى العالم، وتفضيلها على نظرة تبدو كاملة، ولكنها غير محددة. وإن معتقداتنا الدينية لتظل دائمًا من شئوننا الخاصة، طالما أننا لا نُقحمها على المجالات الأخرى، ولا نُطبِّقها على أمور تخضع لشرع سلطة مخالفة. وهذا موضوع تتباين فيه آراء الباحثين الفيزيائيين أنفسهم تباينًا شديدًا، حسب نطاق أذهانهم وتقديرهم للنتائج.
إن العلم الفيزيائي لا يبحث على الإطلاق في الأشياء التي تظل على الدوام بعيدةً عن متناول البحث الدقيق، أو ما زالت حتى الآن بعيدةً عنه. ولكن إذا ما حدث أن خضعت للعلم الدقيق مجالات هي اليوم مستعصية عليه، فلن يتردَّد إنسان سليم العقل، أو شخص يعتز بشرف موقفه من نفسه ومن الآخرين، في المُضي في البحث بحيث يستبدل بآرائه الخاصة عن هذه المجالات معرفةً إيجابية بها.
فإذا كُنَّا نرى المجتمع يتذبذب اليوم، ويُغيِّر آراءه في المسألة الواحدة، حسب هواه وتبعًا لحوادث الأسبوع، كما تتغيَّر السلالم الموسيقية في الأرغن، ثم نرى ما يستتبعه ذلك من قلق ذهني عميق، فلنعلم أن هذه هي النتيجة الطبيعية الضرورية للطابع الناهض العابر الذي تتسم به فلسفتنا؛ فمن المستحيل أن يحصل المرء على نظرة سليمة إلى العالم وكأن هذه النظرة هبة تُقدَّم إليه، وإنها يتعيَّن عليه اكتسابها بالعمل الشاق. وإن إطلاق العِنان للعقل والتجربة في الحالات التي لا يستطيع سواهما التحكُّم فيها، إنما هو السبيل الوحيد إلى تحقيق ازدهار البشرية بالاقتراب التدريجي البطيء، والأكيد في الوقت ذاته، من المثل الأعلى لرأي موحَّد في العالم، يكون هو وحده الذي يتمشَّى مع اقتصاد الذهن السليم.
رابعًا: اقتصاد العلم
-
(١)
إن هدف العلم هو الاستعاضة عن التجارب أو توفيرها عن طريق استعادة الوقائع واستباقها في الفكر؛ فالذاكرة أقرب إلى متناول اليد من التجربة، وكثيرًا ما تُحقِّق نفس غرضها. هذه المهمة الاقتصادية للعلم، التي تملأ حياته بأسرها، واضحة لأول وهلة، وإن الاعتراف الكامل بها لكفيل باستبعاد كل تصوُّف في العلم.
والعلم يُنقل بالتلقين؛ حتى ينتفع الشخص من خبرة الآخر ويُعفى من عناء جمعها لنفسه؛ ولذا تُختزن تجارب أجيال بأسرها في المكتبات لإعفاء الأجيال القادمة من هذا العناء.
واللغة، التي هي أداة هذا النقل، هي ذاتها جهد اقتصادي؛ إذ تُحلَّل التجارب أو تُقسَّم إلى تجارب أبسط وأقرب إلى معرفتنا، ثم يُرمز إليها، مع بعض التضحية بالدقة. وما زالت رموز التخاطب محصورةً في استخدامها في حدود قومية، وستظل قطعًا كذلك مدةً طويلة. غير أن اللغة المكتوبة تتحوَّل بالتدريج إلى اتخاذ طابع مثالي شامل.
-
(٢)
وعندما نستعيد الوقائع في الفكر، لا نستعيدها كاملةً أبدًا، بل نستعيد منها ذلك الجزء الذي يُهمنا، مدفوعين في ذلك بالمنفعة العملية، سواء أكان بطريق مباشر أم غير مباشر. وهكذا تكون استعاداتنا تجريدات على الدوام. وهنا أيضًا نجد نزوعًا إلى الاقتصاد.
إن الطبيعة تتألَّف من إحساسات هي عناصرها. ومع ذلك فقد التقط الإنسان البدائي أول الأمر مركبات معينةً لهذه العناصر؛ أعني تلك التي تتسم بثبات نسبي وبأهمية أعظم بالنسبة إليه؛ فأول الكلمات وأقدمها هي أسماء «أشياء». وحتى في هذه المرحلة نجد عمليةً تجريدية؛ أي تجريدًا لأشياء ممَّا يُحيط بها، ومن التغيرات الصغيرة المستمرة التي تمر بها هذه الإحساسات المركَّبة، والتي لا تلاحَظ لأنها ليست بذات أهمية عملية. فلا وجود لشيء لا يتغيَّر، وإنما الشيء تجريد، والاسم رمز، لمركَّب من العناصر تُجرَّد منه التغيُّرات. والسبب الذي يجعلنا نُطلق كلمةً واحدة على مركَّب كامل هو أننا نريد أن نوحي بكل الإحساسات المكوَّنة دفعةً واحدة. وعندما نلاحظ فيما بعدُ قابلية الشيء للتغير، لا نستطيع في الوقت ذاته أن نتمسَّك بفكرة دوام الشيء ما لم نلجأ إلى تصور شيء في ذاته، أو ما يشبه ذلك من التصورات الممتنعة؛ فالإحساسات ليست علامات على الأشياء، وإنما الشيء هو في الواقع رمز فكري لإحساس مركب ذي ثبات نسبي. وبعبارة أصح، فالعالم ليس مؤلَّفًا من «أشياء» هي عناصره، وإنما من ألوان وأصوات وضغوط وأمكنة وأزمنة، وبالاختصار فهو مُؤلَّف ممَّا نسمِّيه عادةً بالإحساسات الفردية.
وما العملية بأسرها إلا مسألة اقتصاد؛ فنحن نبدأ، في استعادة الوقائع، بالمركبات الأكثر دوامًا والأقرب إلى معرفتنا المألوفة، ونُكمل هذه فيما بعدُ بالمركبات غير المألوفة عن طريق التصويبات. وهكذا نتحدَّث عن أسطوانة مُخرَّمة، وعن مكعب ذي أحرف مشطوفة، وهي تعبيرات تنطوي على تناقضات، ما لم نقبل الرأي الوارد ها هنا. وجميع الأحكام إنما هي توسيع وتصويب لأفكار سُلِّم بها من قبل.
-
(٣)
عندما نتحدَّث عن علة ومعلول، نتعمَّد إبراز تلك العناصر التي ينبغي أن ننتبه إليها عند استعادة واقعة من الناحية التي تُهمنا فيها؛ فليس في الطبيعة علة ولا معلول، وليس فيها إلا وجود فردي؛ فالطبيعة تكون فحسب. وليس لتردُّد وقوع الحالات المماثلة التي يرتبط فيها أ مع ب على الدوام؛ أي ينتج فيها المماثل في الظروف المماثلة، وهي ماهية الارتباط بين العلة والمعلول — ليس لهذا وجود إلا في التجريد الذي نقوم به بقصد استعادة الوقائع ذهنيًّا. فإذا ما أصبحت إحدى الوقائع مألوفة، فلن نحتاج إلى إبراز سماتها الرابطة، ولن يعود انتباهنا موجَّهًا إلى ما هو جديد ومستغرب، ولا نعود نتحدَّث عن العلة والمعلول.
ويبدو أن التفسير الطبيعي المعقول هو الآتي؛ ففكرة العلة والمعلول قد ظهرت أصلًا من محاولة لاستعادة الوقائع في الفكر؛ ففي البداية يُعد الارتباط بين أ، ب، وبين ج، د، وبين س، ص، إلخ، أمرًا مألوفًا. ولكن بعد اكتساب قدر أكبر من المعرفة، وملاحظة ارتباط بين ك ول، فكثيرًا ما يحدث أننا نتعرَّف على ك على أنها مؤلَّفة من أ، وج، وس، وعلى ل على أنها مركبة من ب، ود، وص، وهي ظواهر كان ارتباطها من قبلُ واقعةً مألوفة، وبالتالي تكون له لدينا سلطة أعلى. وهذا يُفسِّر السبب الذي من أجله ينظر الخبير إلى الحادث الجديد نظرةً تختلف عن نظرة الشخص الساذج إليه؛ فالتجربة الجديدة تستنير بمجموع التجارب القديمة. وهكذا توجد في الذهن بالفعل «فكرة» تُدرج تحتها التجارب الجديدة، غير أن هذه الفكرة ذاتها قد تكوَّنت بالتجربة. وربما كان أصل فكرة ضرورة الارتباط العلمي هو حركاتنا الإرادية في العالم والتغيرات التي تُحدثها هذه الحركات بطريق غير مباشر، كما افترض هيوم، وعارضه فيه شوبنهور.
إن قَدرًا كبيرًا من سلطة فكرتَي العلة والمعلول إنما يرجع إلى أنهما تكوَّنتا غريزيًّا وبطريقة لا إرادية، وإلى أننا لا نشعر على نحو ملموس بأننا قد ساهمنا بشيء في تكوينهما. وهكذا نستطيع أن نقول فعلًا إن حاسة العِلِّية عندنا لم يكتسبها الفرد، وإنما صُقلت بالتدريج في تطور الجنس. ومن ثم فالعلة والمعلول أمور فكرية، لها وظيفة اقتصادية. ولا يمكن الكلام عن سبب ظهورهما؛ إذ إننا لا نعرف السؤال عن «السبب» إلا بالتجريد من اطرادات.