الفصل الثالث عشر
حاشية ختامية غير علمية
ظهر قرب نهاية القرن التاسع عشر، كما لاحظنا عند الحديث عن ماخ، رد
فعل على طرق التفلسف التي سادت طوال جزء كبير من ذلك القرن. وقد
استمرَّ رد الفعل هذا، ولا سيما في البلدان الناطقة بالإنجليزية، طوال
معظم السنوات المنقضية من القرن العشرين، وكانت تلك ثورةً ضرورية،
ومحمودةً في نواحٍ عديدة؛ فقد سئم الفلاسفة لغة الممتنعات والغموض
وأسلوب الهيجليين، وضجروا من منهج ديالكتيكي يُتيح لمن يمارسونه ألَّا
يقولوا أبدًا ما يعنونه أو أن يعنوا ما يقولونه. وتضاءلت الثقة
بالتدريج بذلك الاتجاه المميِّز لفلاسفة القرن التاسع عشر، اتجاه وضع
فلسفات طَموحة للتاريخ وقوانين حتمية للتطور التاريخي مثلما تضاءلت
الثقة بتلك النسبية التاريخية الغامضة التي بدا أنها تنطوي على القول
بأن أي شيء يكون صحيحًا أو صائبًا طالما أنه يعبِّر عن روح عصره. وبعد
العصر الذهبي للنظرية التطورية بدأ الفلاسفة والعلماء على السواء
يزدادون شكًّا في المنهج التاريخي من حيث هو المفتاح الكفيل بفتح جميع
أبواب دار المعرفة. وأثبت تطور الحوادث أن الآمال العريضة التي عُلِّقت
على المنهج لم تتحقَّق، واضطُرت علوم الإنسان إلى العودة إلى أساليب
أقل إثارة، وأقرب إلى الأساليب المستخدَمة في العلوم الفيزيائية. بل إن
الوعي التاريخي ذاته قد أصبح أمرًا مشكوكًا فيه؛ إذ أعلن فلاسفة
مشهورون مثل برتراند رسل
١ من جديد لا زمانية الحقيقة، وشمول المناهج التي تمسَّكوا
هم أنفسهم بها.
وباقتراب القرن السابق من نهايته، شبَّت أمريكا أخيرًا عن الطوق،
فلسفيًّا، في أشخاص تشارلس بيرس ووليم جيمس وجون ديوي.
٢ فأكَّد دُعاة فلسفة البرجماتزم الجديدة هؤلاء، باقتناعٍ
وتأكيد متزايدَين، أن وظيفة الفكر بأسرها إنما هي إيجاد عادات سلوكية.
ورأى بيرس أن معنى أية فكرة لا يمكن تحديده إلا بملاحظة العادات
السلوكية التي تؤدِّي إليها، وأوجز رأيه في قوله: «إن معنى الشيء ليس
إلا ما ينطوي عليه من العادات.» ونتيجة هذا الرأي واضحة؛ فإذا لم
يتسنَّ الوصول إلى عادات سلوكية مرتبطة بلفظ ما، فليس لهذا اللفظ،
بالنسبة إلى جميع الأغراض العملية، معنى. وهكذا بدا أن المعيار
البرجماتي للمعنى قد وصم، بضربة واحدة، كل ما قاله المثاليون عن
المطلق، لا بأنه باطل فحسب، بل بأنه خلو من المعنى. غير أن للمعيار في
الواقع حدَّين، ولم يكن البرجماتيون أقرب إلى الميتافيزيقا المادية عند
مفكر مثل سبنسر منهم إلى مثالية فيلسوف كهيجل. ولنعبِّر عن المسألة
بطريقة وليام جيمس المرحة، فنتساءل: ما هي «القيمة النقدية» لكل
المنازعات الصاخبة بين المثاليين والماديين؟ هذا سؤال ينبغي أن نعترف
بأن معظم البرجماتيين لم يصبروا على الإجابة عليه فيما عدا جيمس ذاته؛
فقد كانوا أكثر اهتمامًا بإيضاح أن دعاة «الكون المعقَّد»، كانوا هم
أنفسهم من ذوي العقول المعقَّدة، أكثر منهم بالبحث عن الدور المعتاد
للأحكام الميتافيزيقية في الحياة البشرية. كما أنهم لم يتريَّثوا
ليفكِّروا في مدى ما يدينون به هم أنفسهم لتلك السوابق الواضحة
للبرجماتية، التي ظهرت في كتابات كانت وفشته ونيتشه. ولو أمعنوا الفكر
في المسألة، كما ابتهل إليهم «جوشيا رويس»
٣ أن يفعلوا، لكان من الجائز أن يجدوا أن روح المثالية
الكامنة كانت قريبةً في نواحٍ عدة من روح فلسفتهم الخاصة.
وإلى جانب الأسئلة المتعلِّقة بوجود معنًى للقضايا الفلسفية في القرن
التاسع عشر، ظهرت اعتراضات لا تقل عن ذلك أهمية، على المفاهيم السائدة
حينئذٍ لمهمة الفلسفة ذاتها؛ فقد اعترض جيمس، ومعاصراه الإنجليزيان
الأصغر سنًّا، ج. أ. مور
G. E. Moore،
٤ وبرتراند رسل، على اتجاه الفلاسفة المشهورين في القرن
التاسع عشر إلى بناء مذاهب فلسفية ضخمة، وأكَّدوا أن التقدم الفلسفي لا
يتحقَّق إلا من التحليل الأكثر تفصيلًا للتصورات الجزئية، والدراسة
المتخصِّصة لمشكلات محددة. وأدَّى هذا المزاج التعددي الجديد إلى إعراض
عن الروح المذهبية الفلسفية القديمة المفرطة، وعن المركَّبات الضخمة
التي كوَّنها هيجل وسبنسر، والتي تُولِّد شعورًا غامضًا بالاطمئنان دون
أن تُساهم بشيء في فهمنا للطبيعة؛ فقد هاجم مور تناقضات المثالية باسم
الرأي الشائع لدى الإنسان العادي؛ وهاجمها رسل باسم العلم، ورفض كلاهما
طريقة التفلسف هذه، التي لا يتوافر فيها شرط الوضوح والتميُّز
الديكارتي، ورفضا بشدة نظرية الترابط
(
Coherence) عن الحقيقة، وفكرة
العلاقات الداخلية، مؤكدين — كما فعل هيوم من قبلهما — أنه ليس ثمة
علاقات «داخلية» أو «ضرورية» بين الأمور الواقعية، ورأيا أن معيار
الحقيقة لا يمكن أن يكون مجرد الترابط أو الاتساق الداخلي للقضايا، بل
إن المعيار النهائي لأية قضية إنما هو مطابقتها لواقعة ملاحظة. وزعما
بأنهما «واقعيان»، ولعله قد فاتهما أحيانًا أن موقفهما الأساسي يتعرَّض
للخطر بفعل نقد العقل الذي كان أعظم ما حقَّقه كانت وأتباعه
المثاليون.
على أن الفلسفات البرجماتية والواقعية الجديدة التي أخذت في الظهور
عند مطلع القرن الجديد كانت مصمَّمة، من وراء هذا كله، على التقريب على
نحو أوثق بين الفلسفة وبين الرياضيات والعلوم التجريبية؛ فقد كان رسل
كأسلافه من فلاسفة القرن السابع عشر، يحلم بفلسفة علمية جديدة لا تعترف
بوجود فارق أساسي بين الفلسفة والعلم. بل إنه ذهب إلى حد القول بأن
الأخلاق والفلسفة السياسية ليستا في الواقع جزءًا من الفلسفة على
الإطلاق؛ إذ إنهما لا تُعنيان بالحقيقة، وإنما بالتعبير عن المواقف
وتنظيمها فحسب.
وفي رأيي أن ما حقَّقه هؤلاء المفكِّرون اللامعون قد ساهم بدور كبير
في تنوير البشر. غير أن ثمة دلائل تدل على بدء ظهور اتجاه إلى تقدير
فلسفة القرن التاسع عشر تقديرًا أعدل وأكثر عطفًا، بعد أكثر من خمسين
سنةً كان فيها تأثير جيمس وبيرس وديوي في أمريكا، ومور ورسل في
إنجلترا، هو التأثير الغالب. فقد بدأنا نذكِّر أنفسنا، أولًا، بأن روح
التنوير لم تختفِ بالفعل قط في القرن التاسع عشر، وبأن الفلسفات
السائدة في عصرنا هي في أساسها استمرار للمواقف الفلسفية التي دافع
عنها مفكرو ذلك القرن بقوة ومقدرة. بل إن الوضعية ذاتها، كما رأينا، هي
وليدة القرن التاسع عشر، كما أن مواقف المذهب التجريبي والمذهب الطبيعي
قد ظلَّت سائدةً لدى مل وسبنسر، بل لدى نيتشه وماركس. ومن الممكن أن
يُقال بالفعل إن المثالية لم تعد هي القوة الغالبة على فلسفة القارة
الأوروبية بعد عصر هيجل، وأن تأثيرها الأكبر كان بعد سنة ١٨٥٠م مقتصرة
على بلدَين ناطقَين بالإنجليزية، وأكثر تخلُّفًا في هذا الميدان، وهما
إنجلترا وأمريكا. وبالاختصار فعلينا ألَّا ننسى أن القرن التاسع عشر،
مع كل ثورته الرومانتيكية على «عصر العقل»، كان هو ذاته قرن تقدُّم
علمي عظيم. بل إن المعارضة العصبية العنيفة التي قوبلت بها الأفكار
الجديدة في علم الحياة التطوري وعلم النفس وعلم الاجتماع «الوضعيَّين»
الجديدَين من جانب الأوساط المتمسِّكة بالتقاليد القديمة، إنما تدل على
تزايد قوة النظرة العلمية إلى الإنسان طوال هذه الفترة. ولا يقتصر
الأمر على الفلاسفة والعلماء فقط، بل إن روائيين مثل «جورج إليوت
George Eliot»،
٥ وصمويل بطلر
Samuel Butler»،
٦ لَيشهدان بتلك القوة التي اكتسبتها النظرة العلمية بين
أوساط المثقفين عامةً في القرن التاسع عشر. بل إن «ماتيو أرنولد» نفسه،
الذي حارب في معركة المؤخرة اليائسة دفاعًا عن التراثَين الهيليني
والعبري، قد تأثر إلى حد بعيد بالنزعة الطبيعية والعلمية لعصره. ويمكن
القول إن كتابه «الأدب والعقيدة الثابتة
Literature and
Dogma» هو بمعنًى معين، استباق تنبؤي لمذاهب
اللاهوت التحررية أو الوضعية المتأخرة التي تحاول الاحتفاظ بسلطة
الكتاب المقدس وبقيمته الأخلاقية عن طريق إبعاده تمامًا من مجال
الكتابة الواقعي وإدراجه ضمن نطاق «الأدب» الذي لا تكون مهمته هي
المعرفة بقدر ما تكون «نقد الحياة».
غير أن ثمة دلائل أخرى على أن الفلاسفة المعاصرين قد بدءوا يعترفون
بالأواصر التي تجمع بينهم وبين كبار فلاسفة القرن التاسع عشر. ومن
أسباب ذلك أننا أصبحنا نُدرك أن المشكلات الحضارية الكبرى التي شغلت
أذهان فلاسفة القرن التاسع عشر ما زالت قائمةً بيننا؛ فبظهور
أيديولوجيات لا عقلية كالفاشية والنازية، وبانتشار الشيوعية، وإحياء
الأديان فوق الطبيعية في الغرب في الآونة الأخيرة، اضطُر فلاسفة القرن
العشرين إلى إعادة النظر في إيمانهم بالعقل، والتزامهم الأعمى بكتب
العلم المقدسة، أو ما يسمونه هم «موقف الإنسان العادي». وهكذا بدأ
الفلاسفة، بعد فترة من التحليل المُفصَّل للأُسس المنطقية للعلم،
يُدركون أن النقد الأهم للعقل، الذي بدأه كانت وواصله المثاليون، ما
زال مهمة فلسفية لا غناء عنها، وأنه بدون ذلك النقد قد يكسب دعاة
الجهالة والغيبيات المعركة لعدم وجود خصم يقف في وجههم.
لقد كان في العصر الزاهي لفلسفة القرن التاسع عشر عمق وحرية روحية
يخلق بنا أن نحاول استعادتهما. وقد يحتقر الفلاسفة العلميون
الأيديولوجية، غير أن هذا لن يكون إلا على حسابهم. وقد تضيع مكاسبهم
العقلية التي أحرزوها بجهد جهيد في موجةٍ من اللاعقلية الفلسفية
واللاهوتية إذا ما ظلوا يرفضون الاقتداء بأسلافهم العظام، مثل كونت ومل
وماخ. ومن المحال أن يأتي وقت تكون فيه قضية التنوير قد ربحت نهائيًّا.
وعلى أصدقاء العلم أنفسهم إذا ما شاءوا أن يُبقوا روح التنوير حيةً في
عصر معارضة أيديولوجية عميقة لها، أن يدخلوا هم أنفسهم في حلبة
الأيديولوجية. ومعنى ذلك أن يمارس المرء الميتافيزيقا، طوعًا أو كرهًا،
بمعنًى واحد على الأقل من معاني هذا اللفظ الغامض.
ومع ذلك، فعلينا هنا أن نعترف بفضل للمثاليين في مسألة معينة؛
فالميتافيزيقا عندهم لا تعني علمًا أسمى من العلوم، وإنما وضع صيغة
للالتزامات البشرية الأساسية والدفاع عنها. وإن تأكيدهم للترابط بوصفه
معيار الصحة الميتافيزيقية ليوحي هو ذاته بأن امتلاء الحياة، لا مطابقة
الوقائع، هو الهدف النهائي للبحث الميتافيزيقي. ولقد أدَّى حديثهم عن
«عالم الواقع reality» إلى إثارة
الحيرة في أذهان الكثير من الشُّراح، ولكن كون قضاياهم الميتافيزيقية
تهتم دائمًا «بالواقع الفكري أو المثالي» لا «بالوجود» في الواقع، يجعل
من الواضح تمامًا أن المهمة الأساسية للميتافيزيقا عندهم ليست وصف
طبيعة الأشياء، وإنما صياغة نظرة مترابطة إلى العالم، كافية لإرشاد
السلوك في الحياة.
والواقع، كما أدرك هيجل، أن الإنسان يستخدم أنواعًا كثيرة مختلفة من
الصور الرمزية، بحيث ينبغي الحكم على صحة أية قضية حسب المعايير
المتعلِّقة بالغايات التي تستهدفها هذه القضية. مثال ذلك أن القول بأن
الأحكام الأخلاقية لا معنى لها، لا لشيء إلا لأن لفظَي «الخير» و«الشر»
لا يدلان على أية صفات للأشياء يمكن ملاحظتها، معناه الافتراض
مُقدَّمًا بأن نسبة مثل هذه الصفات إلى الظواهر هو الهدف الوحيد
للكلام، ولكن لمَ نقول بفرض كهذا؟ إن المسألة هي أن أية صورة للكلام
ذات مرمى، وتتجه إلى تحقيق هدف إنساني جدي، لا بد أن يكون لها معنًى،
وذلك في واحد من المفاهيم الثابتة المستقرة لكلمة «المعنى».
وإن البرجماتيين أنفسهم ليعترفون بذلك؛ فما تُسمِّيه فلسفة القرن
التاسع عشر بالميتافيزيقا قد يكون ذا دلالة، بل قد يكون ضروريًّا
للسلوك في الحياة، حلو لم يكن له معنًى «علمي». وهنا يحق لنا أن نهيب
بالمبدأ البرجماتي القائل إن معنى أي قول لا يكون في «الأفكار الواضحة
المتميِّزة»، وإنما في عادات الفعل المرتبطة به؛ فالأنواع المختلفة
للكلام مُخصَّصة لتحقيق أنماط مختلفة من السلوك، ليست إقامة العلم إلا
نوعًا رئيسيًّا واحدًا، وواحدًا فقط، منها. ولمَّا كان الأمر كذلك،
فليس للمُحلِّل المفكر أن يعلن خلو الميتافيزيقا من المعنى إلا بعد أن
يبحث أولًا في دورها الاجتماعي المميز لها. كما لا يجوز له أن يحكم على
صحتها مُقدَّمًا بمعايير لا تنطبق إلا على نوع آخر من أنواع النشاط
البشري. وهذا، إن لم أكن مخطئًا، هو عين ما تنطوي عليه نظرية
«العقلَين» عند كانت. كما أنه جزء ممَّا ينطوي عليه ضمنًا مذهب المعرفة
عند فشته.
وإن لعلى ثقة من أن التحوُّل الترنسندنتالي الذي قام به كانت وأتباعه
عند بداية القرن التاسع عشر قد حقَّق، إلى جانب بعض المزايا الأخرى غير
المؤكدة، فوائد ذات أهمية عظمى للفلسفة. ومع ذلك فإنا لم نُدرك هذه
الفوائد في منظورها الحقيقي إلا في الوقت الحالي فقط؛ فهو إذ أكَّد
ضرورة القيام بنقد أساسي في ميادين المعرفة والأخلاق والميتافيزيقا
والدين، قد أدخل في المجرى العام للتفكير الفلسفي قدرًا من الوعي
الذاتي النقدي بالحقوق المشروعة للفلسفة ومناهجها وأهدافها، كانت له
أنفع النتائج. وكثيرًا ما نجد من الفلاسفة المعاصرين من يُعربون عن عدم
رضائهم عن النتائج النهائية لتفكير كانت. بل إن بعضهم تطلَّع في حنين
إلى تلك الأيام الخوالي التي كانت فيها الميتافيزيقا لا تزال تُعد تاج
العلم، وتضع بجلالة القوانين الضرورية لكل ما هو موجود. غير أن هذه
الأيام قد مضت إلى غير رجعة. وليس معنى ذلك أن مهمة الميتافيزيقا
بأسرها غير هامة، أو ينبغي التخلي عنها، وإنما معناه أن من الواجب
تصوُّرها وممارستها بروح مخالفة؛ فبعد كانت أصبحت الميتافيزيقا تملك
حرية القيام بعملها المتكامل في إيضاح وتنظيم وحماية المواقف
والالتزامات البشرية الأساسية الكامنة في أي أسلوب للحياة أو أية
حضارة. وفي ضوء هذا الهدف ينبغي أن يظل معيار المعقولية لديها، كما يرى
المثاليون، هو معيار الترابط. صحيح أن أية ميتافيزيقا سليمة ينبغي أن
تتمشَّى مع كشوف العلم، بل أن تُرحِّب بها، غير أن هناك التزامات
إنسانيةً أساسية ينبغي عليها أن تعمل لها حسابا، وأنماطًا أخرى للفعل
ينبغي أن تأخذها بعين الاعتبار عند محاولتها تكوين صورة سليمة عن
«الواقع».
ولكلمة «صورة» هنا أهمية حاسمة؛ فهدف أية صورة ليس وصف الأشياء في
ذاتها، وإنما عرض تكوين يؤدِّي في مجموعه إلى إرضاء الناظر إليه على
نحو دائم. فالصورة ليست «تقريرية
Assertive»، إن جاز هذا التعبير،
وسلامتها لا تُقاس بمطابقتها نقطةً فنقطة لموضوع خارج عنها. والمذهب
الميتافيزيقي لا يختلف عن الصورة في هذا الصدد، وإن تكن غاياته أقرب،
على الأرجح، إلى الأخلاق منها إلى الفن. غير أن أهدافه أشمل من أهداف
الأخلاق؛ لأن التكيفات التي يسعى إليها ليست تكيفات العدل بين الأشخاص
فحسب، وإنما تكيُّفات الشخص بأكمله مع بيئة الطبيعة والاجتماعية
والداخلية في مجموعها. فإذا أخذنا آراء كانت وكونت معًا في المعرفة
البشرية مأخذ الجد، كما أفعل، فلن نعود نرى في المثالية المطلقة، ولا
في الطبيعية التطورية، مذاهب كفيلةً بتوسيع نطاق معرفة الإنسان العلمية
للعالم. بل إنهما معًا محاولتان «ميتافيزيقيتان» لوضع إجابات نقدية على
أشمل وأبعد الأسئلة التي يستطيع الفرد أن يسألها عن تنظيم الحياة
البشرية والفعل البشري في مجموعهما. وليس من المهم أن تكون هذه
الإجابات «معرفية» أو «صحيحة» أو «باطلة» بالمعنى العلمي، وإنما المهم
هو أن صورة الواقع كما تعرضها علينا قد تُتيح لنا تنظيم طاقاتنا على
نحو أسلم لإرضاء مجموع حاجاتنا بوصفنا بشرًا. عندئذٍ تكون «صحيحة»
بالمعنى الوحيد الذي يكون فيه هذا اللفظ جديرًا بالبحث.
ولقد بدأنا مرةً أخرى نُدرك، كما يُدرك الناس دائمًا في أوقات
الأزمات الحضارية الحادة، أن الحاجة الميتافيزيقية؛ أي الحاجة إلى نظرة
متكاملة إلى مصير الإنسان وأمله، لا يمكن أن تكبت على نحو دائم. وعندما
تختفي فترة قصيرة عن الأنظار، فإن معنى ذلك أن أفراد مجتمع ما إمَّا
متكيِّفون مع المطالب الرئيسية التي تلقيها نظمهم على عاتقهم إلى حد لا
يترك لهم مبرِّرًا لإثارة أسئلة جدية عن هذه النظم، وإمَّا أن
التزاماتهم الأساسية متأصلة وأن قَبولها عام شائع إلى حد أنه لا توجد
فرصة للصعود بها إلى مجال الوعي وإخضاعها لنقد أساسي. وإن فترات الرضاء
الاجتماعي والتماسك الحضاري لنادرة جدًّا، ولا سيما في مجتمع دينامي
«مفتوح» كمجتمعنا.
٧ أمَّا في الأحوال المألوفة، فإن التفكير الميتافيزيقي
القوي هو علامة أساسية على النمو الحضاري، وهو أيضًا شرط أساسي للتقويم
الذاتي سواء بالنسبة إلى النظم أم إلى الأفراد؛ ففي عصر منهمك في
الصراع الأيديولوجي بكل قوة، كعصرنا الحالي، يغدو هذا التفكير
الميتافيزيقي ثانيةً أداةً لا غناء عنها لإيضاح طريقتنا في الحياة
بأسرها، ولتطهيرها وحفظها. مثال ذلك أن معارضة الشيوعية دون المثابرة
على اختبار التزاماتنا الأساسية وإيضاحها لأنفسنا من جديد، قد ينطوي
على خطر ترك الصراع يتردَّى إلى مجرد تنازعٍ على القوة، بل قد تكون
النتيجة أسوأ، فنفقد تراثنا في الحرية أثناء محاولة الدفاع عنه.
ولكن قد يكون أمامنا درس يُلقِّنه إيانا مصير المثالية في ألمانيا؛
فقد بدأت المثالية هناك فلسفةً «للحرية»، أكَّدت ضرورة ربط كل معيار
اجتماعي بمطالب كل فرد، وكل مبدأ عقلي بالعمل الذي ينبغي على الأفراد
القيام به لتحقيق ذواتهم، وانتهت نهاية مشينة، أصبحت فيها دفاعًا شبه
رسمي عن النظام القائم وإهابة شبه ذليلة ﺑ «التراث»؛ فالمثاليون حين
اكتشفوا أن العقل ذاته مُتحفِّظ حتمًا، وأن المعايير العقلية لكل مجتمع
ينبغي أن تكون متأصلةً في تراث حضاري مقبول لدى الجميع، قد ارتكبوا خطأ
نسيان ما أطلق عليه «سانتايانا» اسم الحاجات «قبل العقلية»، والإشباع
«بعد العقلي» الذي ينبغي على العقل ذاته العمل على تحقيقه، والذي يكون
للقيام بأي نقد للعقل مُبرِّر في ضوئه ومن أجله.
إن الخطأ الروحي الأساسي الكامن في أي نظام تقليدي، وبالتالي «عقلي»
للأشياء، ينحصر في أننا نتجه حتمًا إلى أن نجعل منه صنمًا معبودًا.
والأمر هنا كأن مصير المعقولية ذاتها، في أي مجال، يُحتِّم عليها أن
تصبح صنمًا معبودًا لدى من يخضعون لها. ولكن القرن التاسع عشر يكشف لنا
في هذه الحالة أيضًا عن الداء ويصف الدواء. فهيجل قد أدرك بفضل وعيه
التاريخي أن للعقل ذاته جذوره التاريخية، وأن مفاهيم المعقولية ذاتها
تتغيَّر بتغيُّر الظروف الحضارية. ولقد كان هيجل ذاته «مُتحرِّرًا» من
المزاعم المسرفة التي كانت الفلسفات السابقة تَدَّعي بها لنفسها صحةً
شاملة؛ إذ إنه رأى فيها تكيفات متجددةً تاريخيًّا، وبالتالي قابلة
للتغير وفقًا لبيئة اجتماعية متبدلة. ومن سخرية الأقدار أنه لم يُدرك
أن فلسفته مقيدة بزمانها أيضًا، وأن الديالكتيك التاريخي لم يتجمَّد
بصورة نهائية قاطعة في منطقه الخاص.
لقد كان هيجل يفتقر إلى ذلك التواضع المحمود الذي نستطيع تعلُّمه من
فلسفة التجربة عند مِل؛ فمِل يُلقِّننا إمكان قيام تراث يقوِّم ذاته،
ويأتي بترياق لميله الخاص إلى أن يصبح صنمًا معبودًا. فهنا، باختصار،
نظرة إلى العقل، أطلقتُ عليها اسم «مذهب اشتراط المعقولية
reasonablism»، تُكيِّف ذاتها
مُقدَّمًا مع الأسئلة الجبرية التي قد يسألها الناس عن أي نظام من
نظمهم، مهما كانت قداسته. تلك هي الحرية الأساسية التي دافع عنها مِل.
غير أن في الدفاع عنها دفاعًا عن الفكرة القائلة إن نقد العقل،
وبالتالي نقد الحضارة، أمر ضروري على الدوام. وإن إمكانية الثورة على
الصور الخاصة التي قد يتخذها العقل هي دائمًا إمكانية مشروعة؛ فالبحث
عن أسباب عقلية، إذا ما سار شوطًا كافيًا، يُولِّد دائمًا أخطارًا
تُهدِّد النظام القائم، وأعظم ما في فلسفة مِل هو أنها تدافع عن هذه
الأخطار بل تدعو إليها، وبذلك تعرف كيف تُروِّضها. والواقع أن ما
يُقدِّمه إلينا مِل إنما هو تراث آخر، وهو تراث لا يلتزم في أساسه إلا
بمبدأ اشتراط المعقولية ذاته؛ أي المبدأ القائل إن من الواجب البحث عن
سبب لأية قضية، وإنه ليس ثمة مبدأ بمنأًى عن النقد، طالما أن هذا النقد
يتم بأمانة وبِنية طيبة.
وهكذا يبدو لي أن فكرة نقد العقل، ومثله الأعلى، الذي ساهمت فيه جميع
المدارس الفلسفية في القرن التاسع عشر بنصيب كبير، ربما كانت لا تزال
هي أعظم ما ساهمت به فلسفة القرن التاسع عشر. وليس معنى ذلك على
الإطلاق أن في هذا دعوةً إلى اللامعقولية أو افتقارًا إلى الإيمان
بمبادئ العلم. ومع ذلك يبدو للأسف أن كثيرًا من المستنيرين يعتقدون
بوجوب ترك حقوق العلم بمعزل عن مخاطر عملية النقد، وأن مجرد الشك في
وجود هُوية بين «المعقولية
rationality»، والصواب
validity، وبين مبادئ المنطق
الصوري والعلم التجريبي، يُهدِّد بهدم بناء العلم الوضعي بأسره. ومع
ذلك فهذا لا يدل على أكثر من ضعف أعصاب وخوف كامن من أن تعجز النظرة
العلمية عن البقاء سليمةً في سوق الأفكار الحرة. فالمرء لا يكون
بالضرورة خائنًا للمثل العليا للعلم إذا اعترف بوجوب إخضاع العلم لنقدٍ
من نفس النوع الذي ينبغي أن يخضع له أي نظام آخر. ولم يكن «إمانويل
كانت» قد أدار ظهره للتنوير والمعقولية عندما سعى إلى إيجاد نقد للعقل
النظري، يرسم في الوقت ذاته حدوده السليمة. بل إن الأمر على العكس من
ذلك تمامًا، فقد كان يأمل من رسم هذه الحدود أن يدعم مطالبة العلم
بالسيادة في مجاله الخاص. وإذا كانت مناهج العلم، أو «الفهم» هي
الوسائل الوحيدة الصحيحة لاكتساب المعرفة الواقعية، فإن هذه القضية لم
تكن واضحةً بذاتها في كل عصر، وإنما ينبغي في كل جيل إيضاح هذه الوسائل
من جديد، وإعادة تقدير قيمتها، والدفاع عنها ضد المعارضة وإساءة الفهم.
ولكن إذا كان الدفاع عنها ممكنًا، فإن نقدها أيضًا ممكن، ولا مفر في
كلا الحالَين من «الفلسفة الأولى»، أو الميتافيزيقا، شاء المرء أم لم
يشأ.
ولا جدال في أن فلاسفة القرن التاسع عشر قد أخفقوا في معظم الأحيان
في مواجهة مقتضيات الوضوح والدقة التي تشترطها الفلسفة التحليلية
المعاصرة. غير أن الدليل على إمكان مواجهة هذه المقتضيات دون التضحية
بعمومية النظرة الفلسفية وشمولها، يمكن أن يتمثَّل في واحد على الأقل
من الفلاسفة الذين عرضنا لهم، وهو كانت؛ فكانت يفي، من حيث المبدأ على
الأقل، بقدر كبير من مطلبنا «الميتافيزيقي» للتكيف الوضعي التام مع
بيئتنا الكاملة. غير أنه يفعل ذلك دون تضحية بالمطلب المقابل، مطلب
التحليل المفصل، والنقد الدقيق للتصوُّرات الخاصة. صحيح أن كثيرًا من
تحليلات كانت الخاصة لم تعد مقبولةً للفلاسفة التحليليين، وأن مذهبه
العام، بما فيه من فهم ثنائي عميق للطبيعة البشرية، ومن شيء في ذاته
مجهول، ومن مصادرات للعقل العملي ضعيفة الأساس غير مقبولة، لم يعد
يُرضي الفلاسفة المعاصرين، غير أن كانت ما زال يُعد المثل الأعلى لِمَا
يستطيع الذهن الفلسفي في أحسن أحواله أن يُحقِّقه؛ إذ يعترف بقصوره دون
مرارة، ويُدرك حدوده بوضوح وينتقدها، ولكنه يظل مع ذلك مُتعلِّقًا
بمعايير المعقولية والإنسانية التي يتخذ منها أساسًا، ويتمسَّك بإخلاص
بمبادئ التنوير البشري الذاتي، مع إدراكه أن التنوير الذاتي يتمشَّى مع
احترام المبدأ القائل إن الإنسان كائن اجتماعي مسئول أمام الآخرين
وعنهم، مثلما هو مسئول أمام نفسه عنها، وأخيرًا فإنه يُفسح مجالًا لا
لمقتضيات المعرفة فحسب، بل أيضًا لتلك المطالب المشروعة للفن والأخلاق
والدين.
وإن المرء ليشعر بإغراء لأن يعود ثانيةً فيهتف: «عودًا إلى كانت!»
غير أن هذا لا يقل عقمًا عن الهتاف المقابل «عودًا إلى أفلاطون!» أو
«عودًا إلى أرسطو!» أو «عودًا إلى الأكويني!» وهو الهتاف الذي نسمعه
كثيرًا في هذه الأيام. فمن المحال، كما علَّمنا هيجل، أن نعود القهقرى،
وإنما الواجب علينا أن نحاول أن نقدِّم إلى أنفسنا وحضارتنا ما قدَّمه
هؤلاء الرجال العظماء لعصورهم. ولو ظهر في عصرنا كانت جديد لتحتَّم أن
يتخذ نقده العقل شكلًا يختلف تمامًا عن نقد كانت ذاته. فعليه، على سبيل
المثال، أن يجعل بين حياة العقل وبين السياقات الطبيعية والاجتماعية
التي ينبغي ممارستها فيها روابط، أوثق ممَّا استطاع كانت أن يقيمه
بينها من الروابط؛ ذلك لأن العقل شكل للحياة، وليس قالبًا مُجرَّدًا.
وفضلًا عن ذلك فهو صورة للحياة تقوم، كما تعلَّمنا من اللاعقليين
بطرقهم المضلِّلة، على حاجات عاجلة فعالة هي وحدها التي تقدِّم لصورة
الحياة هذه مُبرِّرًا نهائيًّا. وليس في هذا القول استسلام للاعقل،
وإنما فيه إنقاذ للمرء من المطالب العقيمة واللاعقلية في آخر الأمر؛
«للواقعية» و«العقلية rationalism»
التوكيدية. وما هو إلا اعتراف بأننا إذا لم نكن نستطيع العودة إلى
كانت، فإننا لا نستطيع أيضًا العودة إلى عصرَي «العقل» و«الإيمان»
السابقَين عليه؛ فالاعتراف بأن تنظيم الفكر والفعل البشريَّين هو عمل
بشري محض، وبأن مبادئهما لا تكمن آخر الأمر إلا في التزامنا بهما، هو
فكرة ناضجة تُهذِّب النفس وتحد من غلوائها. ولكن فيها أيضًا إدراكًا
طال انتظاره لمسئوليتنا الضخمة عن صَون المُثُل العليا لمجتمعٍ حرٍّ
بحق، لا يكون لنقد العقل أي معنًى حقيقي إلا في سبيله.