التحول الترنسندنتالي في الفلسفة الحديثة
لن يستطيع المرء حين يتصفَّح للمرة الأولى كتاب كانت «نقد العقل الخالص» أن يهتدي على التو إلى أسباب التأثير الضخم الذي أحدثه ذلك الكتاب؛ فهو يحفِل بغوامض ومعميات عظيمة التجريد، تبدو لأول وهلة بعيدةً عن المشاكل التي تحيِّر الأذهان البشرية المعتادة. وأسلوبه شديد التعقيد، يصدم دون شك من ينتقل إليه مباشرةً بعد قراءة كُتَّاب مثل فولتير أو هيوم. وفضلًا عن ذلك، فإن افتقار كتابة كانت إلى ذلك الوضوح واللمعان الكلاسيكي الذي يرتبط عادةً بعصر التنوير، لا تعوِّضه أية نفحة من الحماسة والبلاغة الجديدة التي كان روسو، أمير الرومانتيكيين، قد أدخلها على النثر الفلسفي منذ عهد قريب. ومع ذلك كله فقد كان ذهن كانت من أكثر الأذهان في تاريخ الفكر البشري جرأةً وأصالة. وقد انطوى نقداه المعقَّدان للعقل الخالص والعملي، كما أدرك بعض معاصريه، على انقلاب فلسفي عميق.
فقد كانت مشكلة المعرفة تشغل جانبًا كبيرًا من اهتمام مدرستَين فلسفيتَين رئيسيتَين، ابتداءً من عصر ديكارت، هما العقلية والتجريبية. بل إن من الشائع وصف هذا الاهتمام بأنه هو المميِّز للفترة «الحديثة» في تاريخ الفلسفة من الفترتَين القديمة والوسطى السابقتَين عليها. ومع ذلك فإن أحدًا من السابقين على كانت لم يتصوَّر لحظةً أن مسائل المنهج هي نقطة النهاية في الفلسفة، بل لقد كان معظمهم يعدون نظرية المعرفة، أو الأبستمولوجيا، كما تُسمَّى، مجرد نقطة بداية ضرورية للتفلسف الحقيقي، الذي هو تحديد الطبيعة الحقيقية للأشياء، وشروط سعادة الإنسان؛ فغاية ديكارت من كتابة مقاله المشهور في المنهج لم تقتصر على إيضاح ما عدَّه منهج العلم، الذي كان يتفق في رأيه مع طريقة المعرفة بوجه عام، وإنما كانَت أيضًا تطبيق نتائجه في حل المسائل الميتافيزيقية الكبرى المتعلِّقة بطبيعة الذهن والمادة وعلاقاتهما، وعلتهما، التي أسماها بالله. ولقد كان ديكارت وخلفاؤه في المدرسة العقلية؛ أي اسبينوزا وليبنتس، يعدون أنفسهم علماء ذوي وعي ذاتي عميق، مهمتهم إيضاح نفس المناهج التي أحرزت أخيرًا ذلك النجاح الباهر في ميادين الرياضيات والفيزياء، ثم تطبيقها على المشاكل الأعم المتعلِّقة بالوجود، والتي عالجها الفلاسفة منذ عصر ما قبل أفلاطون. وقد تصوَّروا أنفسهم علماء هندسة أو علماء فيزياء من مرتبة أعلى — إن جاز هذا التعبير — ولم يداخلهم شك في أن أبحاثهم الميتافيزيقية ذاتها كانت في أساسها امتدادًا لأبحاث العلوم «الخاصة»، وكانت الميتافيزيقا؛ أي علم الوجود، لا تعدو في نظرهم أن تكون «ملكة العلوم»، أمَّا الأخلاق فليست سوى نسقٍ من «القوانين الطبيعية» التي تحدِّد شروط تحقيق الإنسان لطبيعته. ولم يدُر بخَلَدهم وجود أي نوع من التمييز القاطع بين قوانين الطبيعة والمبادئ المعيارية، على حين أن هذا التمييز كانت له أهميته الكبرى في فلسفة كانت.
أمَّا فلسفة كانت فهي تفترض في أساسها تمييزًا قاطعًا بين المسائل المنتمية إلى مجال ما هو كائن، وتلك المنتمية إلى مجال ما يجب أن يكون. ومثل هذا التمييز في رأيه ضروري، لا في الأخلاق فحسب، حيث ينبغي التفرقة بين المرغوب فيه وبين الجدير بأن يكون مرغوبًا فيه، وإنما هو ضروري أيضًا في المنطق ونظرية المعرفة، حيث ينبغي التفرقة، على نحو مماثل، بين ما نعتقده وما ينبغي أن نعتقده، وبين ما نستدل عليه وما يكون من الصحيح الاستدلال عليه. وممَّا له دلالته أن كانت، من حيث هو فيلسوف، لم يكتب «بحثًا في الطبيعة البشرية» كما أسمى هيوم كتابه الرئيسي، وإنما كتب «نقدًا للعقل الخالص» و«نقدًا للعقل العملي». ولا جدال في أن «المنهج التاريخي الصريح» عند لوك لم يكن يفي بأغراض كانت على الإطلاق، ومن ثم فقد كان عليه أن يضع «منهجًا ترنسندنتاليًّا» جديدًا، هو وحده الكفيل بتحديد أُسس الاعتقاد والفعل المبنيَّين على العقل.
ولقد كان كانت يعتقد أن نقده للعقل قد أحدث ما يمكن تسميته ﺑ «الانقلاب الكبرنيكي» في الفلسفة. غير أن التشبيه الذي قصده من هذه التسمية غامض، وكثيرًا ما أُسيء فهمه، شأنه في ذلك شأن لفظ «الترنسندنتالي». وعلينا، لكي نفهم على نحوٍ أكمل المعنى الذي قصده كانت، أن نعود إلى الموقف التاريخي الذي واجهه عندما قرأ لأول مرة، في وقت كان فيه من أتباع ليبنتس، تحليل هيوم للعِلِّية، الذي بدا ذا طابع شكاك.
فقد سلَّم كانت في شبابه، حين كان من أتباع المذهب العقلي، بأن مبدأ العِلِّية؛ أي المبدأ القائل بأن لكلِّ حادث علة، هو مبدأ ضروري للطبيعة، متأصِّل في طبيعة الأشياء، ولا يحتاج المرء لإدراك حقيقته إلا إلى عقله الخالص، دون الْتجاء إلى التجربة. كما سلَّم دون مناقشة بوجود ارتباطات ضرورية في الطبيعة، كامنة في النظام الموضوعي للواقع. ومن خلال وجهة النظر هذه، لا يمكن أن تكون قوة العقل سوى القدرة على إدراك مثل هذه «العلاقات الواقعية» بالحدس، فيكون بذلك قد رسم نوعًا من الخريطة أو الأشعة السينية للتركيب الداخلي للوجود ذاته؛ فالذهن البشري يفكِّر من خلال العِلِّية؛ لأن ذلك الذهن ذاته هو في واقع الأمر مرآة تعكس بدقة ذلك التركيب الباطن للعالم الخارجي. والعقل يُدرك هذه المبادئ على أنها ذات صحة واضحة بذاتها؛ إذ إنه «يرى»، عن طريق عملية حدس عقلي، أنها تصح بالضرورة على طبيعة الأشياء. وهكذا لا يكون العقل من وجهة النظر هذه مجرد ملكة للتجريد والاستدلال، وإنما ملكة للكشف أيضًا، تتيح لنا إدراك أعم صفات الأشياء كما هي في ذاتها.
ولقد ردَّ هيوم على هذا كله ردًّا غايةً في البساطة.
فقد تساءل: كيف يتسنَّى لنا أن نعرف، على نحو مستقل عن التجربة، أن كل حادث له، وينبغي أن تكون له، علة؟ لقد كان هيوم على استعداد للاعتراف بأن لبعض القضايا صحةً ضرورية، ومن هذه القضايا الحقائق الرياضية والمنطقية، والقضايا «اللفظية» مثل «كل كلب كلب» و«كل شيء ملون ممتد». غير أن مثل هذه الحقائق تعبِّر عن «علاقات بين الأفكار»، ولا تنبِّئنا بشيء عن الأمور الواقعة أو الوجود الفعلي. والمعيار الوحيد للحقيقة الضرورية عند هيوم هو قانون عدم التناقض.
فإذا كان من المحال نفي قضية دون تناقض، فإن القضية تكون صحيحةً بالضرورة. ولكنها، لهذا السبب عينه، لا تنبِّئنا بشيء يتجاوز ما تتضمَّنه التصوُّرات التي تنطوي عليها. أمَّا القضية التي يمكن نفيها دون تناقض، فليست لها صحة مطلقة. وفي هذه الحالة لا يمكن استخلاص الشواهد على صحتها — إن كان لها أي معنًى — إلا من التجربة.
فماذا نقول إذن عن قانون العِلِّية؟ أهناك أي تناقض في إنكار إمكان وجود شيء دون علة؟ يرى هيوم أن الجواب ينبغي أن يكون بالنفي دون قيد ولا شرط؛ فمبدأ العِلِّية الشاملة، من حيث هو قانون للطبيعة، لا يمكن إدراك صحته بطريقة أولية سابقة على التجربة.
وللمسألة موضوع الخلاف هنا أهمية قصوى؛ إذ لو كان مبدأ العِلِّية غير يقيني، لبدا أن العلم بأسره لا يرتكز على أساس أمتن من ذلك الذي ترتكز عليه العقيدة المُنزَّلة. وإذن فهلا يوجد مبرِّر لاعتقاد العالم باطراد الطبيعة؟ أهذا الاعتقاد مجرد رأي إيماني ليس له من الأسس العقلية أكثر ممَّا لالتزامات الكاهن أو النبي أو الطبيب؟
مثل هذه الأسئلة الفائقة الأهمية هي التي تصدَّى لها كانت في كتابة «نقد العقل الخالص»، وكانت إجابته عليها تؤلِّف الجزء الأكبر من ثورته الكبرنيكية في الفلسفة؛ فقد أخذ كانت بالوجه السلبي لتحليل هيوم، ووافق على أن أصحاب المذهب العقلي كانوا يفتقرون إلى الروح النقدية عندما اعتقدوا أن قانون العِلِّية الشاملة حقيقة مطلقة يدرك العقل بحدسه انطباقها على جميع الأشياء كما هي في ذاتها. وكان من رأيه أن ذلك القانون ليس، على حد تعبيره، «تحليليًّا»؛ فهيوم كان مصيبًا تمامًا حين أنكر أن معنى لفظ «الشيء» يستتبع أن تكون له علة. وإذن ينبغي أن يكون المبدأ «تركيبيًّا». غير أن كانت يأبى أن ينظر إلى هذا المبدأ على أنه مجرد تعبير عرَضي عن أمر واقع، مثل «كل البجع أبيض»، أو «كل الفلاسفة مصابون بالعُصاب». وإذن، فإلى أي نوع من القضايا ينتمي قانون العِلِّية؟
وإذن فالسؤال الأساسي في نقد العقل لا يعدو، في رأي كانت، أن يكون: «كيف تكون الأحكام التركيبية الأولية ممكنة؟» وليس في وسعنا في هذا الحيز المحدود، إلا أن نُشير إشارةً عامة إلى إجابة كانت على هذا السؤال؛ فالمقدمة التي يرتكز عليها هي أن الذهن البشري لا يمكن تصوُّره مرآةً سلبية تعكس، بطريقة حدسية، الأنماط الكامنة في الأشياء كما هي ذاتها، أو العنصر المعقول فيها، وإنما ينبغي أن ننظر إلى ما نسمِّيه بالذهن على أنه قوة فعالة تقوم هي ذاتها بتشكيل المادة الخام التي تقدِّمها التجربة الحسية في نظام شامل من الظواهر المصوغة في تصوُّرات. ومع ذلك فإن كانت ليس «مثاليًّا»؛ أي إنه لا يقول إن الذهن ذاته هو الحقيقة الوحيدة، أو أن الذهن يخلق عالمه؛ فعناصر التجربة الحسية «معطاة» سواء شئنا أم لم نشأ، ونحن، بكل بساطة، نجدها هناك كُلما فتحنا أعيننا وآذاننا. كذلك لا يشك كانت في أن ثمة «أشياء في ذاتها» بمعنًى مُعيَّن؛ أشياء خارجة عن الذهن، ذات حقيقة مستقلة عنه. بل إن هذا الافتراض في الواقع من القضايا الرئيسية في فلسفته بأسرها. غير أن الأشياء في ذاتها ليست، في رأيه، موضوعات للمعرفة، وليس لدى الذهن أي شيء يقوله عنها بالمعنى الصحيح. بل إن مهمة الذهن هي تشريع قوانين البحث، التي تتيح للوقائع الحسية الخام أن تتعايش سويًّا في مجتمع مدني يضم موضوعات خاضعةً للقانون.
ومع ذلك، فمن واجبنا ألَّا نمضي في هذا التشبيه أبعد ممَّا ينبغي؛ فكانت لا يعتقد أن الذهن المشرِّع يستطيع إذا شاء أن يضع قواعد غير تلك التي تستخدم بالفعل في تفكيرنا العادي وتفكيرنا العلمي في الظواهر. وفي هذا الصدد ظلَّ كانت ملتزمًا التراث العقلي الذي تأثر به؛ فما يسمِّيه كانت ﺑ «صورتَي الحدس»، وهما المكان والزمان، هما، رغم ذاتيتهما، كامنتان في كل إدراك بشري. وفي رأيه أن من المحال تصوُّر شيء لا يشغل مكانًا ولا يمر بزمان. وفضلًا عن ذلك فقد اعتقد كانت أن الهندسة الإقليدية، التي كانت في عصره الهندسة الوحيدة التي وضعها الرياضيون، تعبِّر عن العلاقات الضرورية الشاملة بين جميع الموضوعات التي يمكن أن تظهر لنا في المكان، ولم يدُر بخَلَده قط أن من الممكن وضع هندسات أخرى قد تكون أكبر فائدةً من هندسة إقليدس في ميادين علمية معيَّنة. كذلك اعتقد أن مقولات مثل العلة والجوهر أساسية في كل تفكير عقلي حول الظواهر. ولم يطُف بذهنه مجرد إمكان قيام علم يستغني عن هذه المقولات.
ومع ذلك، فالأمر الذي أدركه بوضوح هو أن جميع المقولات، من أمثال «العلة» و«الجوهر»، لا تمثِّل علاقات أو كِيانات حقيقية.
ولقد كان هو أول من قال بذلك الرأي الذي عبَّر عنه مفكرون تالون على أنحاء شتى، والقائل إن التصورات والمبادئ المنهجية للبحث ليست تعبيرًا عن عنصر عقلي كامن في طبيعة الأشياء، وإنما هي أفكار وقواعد إجرائية، تُتخذ لأغراض عملية هدفها السيطرة على العالم الذي نعيش فيه.
والذي يحدث في كل هذه الحالات هي أننا نمدُّ تطبيق مقولات الذهن دون تمحيص، إلى كِيانات افتراضية تخرج تمامًا عن نطاق التجربة الممكنة، فتكون النتيجة أن نفقد ضوابطنا المنطقية، ولا يتبقَّى لنا سوى ادعاءات متضادة تتعرَّض صحتها لنفس القدر من الشك. حقًّا إن السؤال عمَّا إذا كان للكون في مجموعه علة أو بداية في الزمان يبدو في ظاهره سؤالًا معقولًا، غير أن البحث الدقيق يثبت أننا لا نستطيع الإجابة على هذه الأسئلة قط، لا لأننا نفتقر إلى الأدلة الكافية، بل لأن وجهة الأسئلة ذاتها باطلة. ولو نظرنا إلى الكون بأسره على أنه نتيجة لعلة هائلة الحجم، لكان علينا أن ننظر إلى الكون على أنه شيء مادي ضخم تربطه بتلك «العلة» نفس العلاقة التي تربط بين ظاهرتَين مألوفتَين. غير أن الكون في مجموعه ليس ظاهرة، ولا يمكن تصوُّره على أنه ظاهرة؛ ففي كل تفكير ميتافيزيقي من هذا النمط نُضطر إلى تطبيق تصوُّرات على مجال يتجاوز النطاق المعتاد الذي تنطبق عليه إلى حد لا نعود معه نعرف ما الذي يبدو أننا نقوله، فتكون النتيجة تأرجحًا لا ينقطع بين قضايا وقضايا مضادة لا تقلُّ كل منهما عن الأخرى إحكامًا، وهذا الإحكام المتكافئ بين قضايا متضادة هو الذي يجعلها مفتقرة، بنفس القدر، إلى المعقولية. والأجدر بنا، في رأي كانت، أن نكف تمامًا عن أُلعوبة الميتافيزيقا النظرية العقيمة، وإلا فَقَد الذهن ثقته بالمقولات ذاتها، ووقع دون خلاص في قبضة الشك.
وعلى مثل هذه الأُسس يقوم تفنيد كانت للبراهين التقليدية على وجود الله، وهي البراهين التي احتلَّت مكانةً هامة في ميتافيزيقا العقليين ولاهوتهم. وحسبنا هنا أن نقول إن هذه البراهين ترتكز كلها، في رأي كانت، على ما يسمَّى ﺑ «البرهان الأنتولوجي»، وهو البرهان الذي يُقال فيه إن إنكار وجود الله يستتبع التناقض حتمًا، فتصوُّر الله هو، حسب تعريفه، تصوُّر كائن مطلق الكمال، ولكن لا بد أن يكون الوجود من صفات الكائن المطلق الكمال، وإلا لَمَا كان كاملًا، وإذن فلا بد أن يكون الله، من حيث هو الكائن المُطلق الكمال، موجودًا. وموضع بطلان هذه الحجة هو أنها ترى «الوجود» محمولًا يدل على صفة معادلة لجميع الصفات الأخرى التي تُعزى إلى الله، كالعلم المحيط بكل شيء. غير أن الوجود، ليس محمولًا، ولا يدل على صفة أو سمة للأشياء التي يُعزى إليها. ويضرب كانت لإيضاح فكرته مثلًا بالفارق بين مائة قرش حقيقي ومائة قرش خيالي؛ فالفارق الوحيد بينهما ينحصر في أن الأولى موجودة والثانية غير موجودة، أمَّا تصوُّر المائة قرش فواحد في الحالتَين.
والمسألة التي يريد كانت إثباتها في هذا الصدد هي أن لفظ «الوجود» يفقد وظيفته المنطقية إذا ما عومل، كما تتطلَّب البراهين التقليدية على وجود الله، على أنه محمول يدل على صفة. والنتيجة الوحيدة التي تُستخلص من هذا، كما سبق أن قال هيوم، هي أن فكرة الله ذاتها، بمعنى «الموجود الضروري»، فكرة مستحيلة. ويُضيف كانت إلى ذلك نقطةً هامة، هي أنه حتى لو صحَّت براهين وجود الله هذه، لَمَا استتبعت، مع هذا، أن يكون هذا الموجود الضروري، هو ذاته، تلك العناية الإلهية التي يرى الكثيرون أنها هي الموضوع الحقيقي لتقديس البشر وتقواهم.
وقد يستنتج المرء من هذا كله أن نقد كانت المدمِّر للميتافيزيقا النظرية كان استباقًا للنظرية الوضعية التالية القائلة إن جميع القضايا الميتافيزيقية واللاهوتية لا معنى لها على الإطلاق. غير أن هذا استنتاج باطل؛ إذ إنه، مع معارضته الشديدة لكل الادعاءات المتعلِّقة بالمعرفة الميتافيزيقية للواقع، كان يؤمن بأن لبعض الاعتقادات الميتافيزيقية أو اللاهوتية أهميةً من حيث هي «مصادرات» للعقل «العملي». وإذن فلا بد، لتكوين صورة أدقَّ عن تعاليم كانت في هذا الصدد، من أن نُلم بعض الإلمام بفلسفته الأخلاقية.
•••
وعلينا، لكي نُتم رسم الصورة، أن نتابع تحليل كانت لشروط الحياة الأخلاقية خطوةً أخرى؛ فالأوامر الأخلاقية كما رأينا مطلقة، ومع ذلك فهي في نظر كانت لا معنى لها إلا إذا بُنيت على افتراضات أو مُسلَّمات مُعيَّنة. مثال ذلك أنه ما لم تكن الإرادة الأخلاقية حرةً في فعل ما يأمر به القانون الأخلاقي أو عدم فعله، فإن الأخلاق ذاتها تُعد وهمًا خادعًا. غير أن شيئًا، في رأي كانت، لا يفرض علينا حقيقته بنفس القوة التي تفرضها علينا أحكام الضمير. ومع ذلك فلا سبيل لنا إلى تصوُّر أنفسنا أحرارًا، طالما أننا ننظر إلى أنفسنا بوصفنا كائنات عضوية مادية؛ ففي هذه الحالة يخضع سلوكنا، شأنه شأن سلوك أي كائن عضوي، لتحكُّم العلل الطبيعية. وبالاختصار، فإن أجسامنا، بقدر ما يمكننا «معرفتها» بالوسائل العلمية، هي ظواهر في الزمان والمكان، وبالتالي فهي خاضعة تمامًا لقوانين الفيزياء وعلم وظائف الأعضاء. غير أن مذهب كانت في الأشياء في ذاتها يتيح له مهربًا من هذه النتيجة؛ فليس من الضروري افتراض أن مقولة العلة والمعلول تنطبق على ما يتجاوز نطاق الظواهر المكانية – الزمانية. وعلى ذلك، فلما كان الاعتقاد بأن الإرادة حرة ضروريًّا لضمان حقيقة الحياة الأخلاقية، فإنا نستطيع أن نؤمن، دون تناقض، بأننا ننتمي إلى علم أخلاقي «خارج» عن عالم الظواهر المكانية والزمانية. وبهذا تكون الافتراضات «الميتافيزيقية» الأولية للأخلاقية متمشيةً تمامًا مع قواعد البحث العلمي.
وعلى هذا النحو يحاول كانت، بسلسلةٍ من الحجج التي لا يتعيَّن علينا ذكرها في هذا المقام، أن يثبت، على أُسس أخلاقية، أن من واجبنا الاعتقاد بأننا أفراد أحرار في عالم روحي عاقل، وأننا بهذا الوصف، خالدون أيضًا. كذلك يأتي كانت بحجج لإثبات أن الضرورة العملية تُحتم علينا الإيمان بكائن أو إله هو وحده الذي يضمن لنا الخلود، ويجعل بذلك للحياة الأخلاقية أساسًا. غير أن هذه المعتقدات أو الموضوعات الإيمانية ليست سوى مُصادرات للعقل العملي؛ فمن المحال معرفة ما إذا كانت صحيحة، وأية محاولة نظرية لإثبات صحتها تؤدِّي بنا حتمًا إلى نقائض العقل الخالص وقضاياه الممتنعة. وبالاختصار فإن كانت ينظر إلى الدين (وكذلك الميتافيزيقا في الواقع) على أنه من لواحق الحياة الأخلاقية؛ فقَبولنا ﻟ «حقائقه» لا يرجع، في نهاية الأمر، إلى وجود أي دليل عليها، وإنما لأن هذا أمر يحتِّمه كوننا فاعلين أخلاقيين.
إن فلسفة كانت معبر يصل بين عصر التنوير، الذي آمن بالعلم بوصفه معرفةً شاملة ودواءً شافيًا لكل ما يُحيِّر ذهننا من الأسئلة، وبين العصر الرومانتيكي، الذي بحث فيه المفكِّرون عن أساس متباين تمامًا للأخلاق والدين والفلسفة ذاتها. ولقد فنَّد كانت ذاته بعض النتائج الفلسفية اللاحقة التي استخلصها فشته، معاصره الأصغر سنًّا، من مذهبه في العقلَين النظري والعملي. ومع ذلك فقد كان هذا المذهب، ومعه نظرته إلى الفلسفة على أنها في أساسها «نقد»، هو السبب الأكبر لأهم التطوُّرات الفلسفية التي حدثت في الفترة التالية.
النص
- (١)
القضية: العالم، من حيث الزمان والمكان، بداية (حد).
القضية المضادة: العالم، من حيث الزمان والمكان، لا متناهٍ.
- (٢)
القضية: كل ما في العالم يتألف من البسيط.
القضية المضادة: ليس ثمة ما هو بسيط، بل إن كل شيء مركب.
- (٣)
القضية: في العالم علل عن طريق الحرية.
القضية المضادة: ليست ثمة حرية، بل كل شيء طبيعة.
- (٤)
القضية: يوجد في سلسلة علل العالم موجود ضروري.
القضية المضادة: ليس في هذه السلسلة شيء ضروري، بل كل ما فيها عرَضي.
والحالة الوحيدة التي يستطيع العقل فيها أن يكشف رغم إرادته عن ديالكتيكه الخفي، الذي ينظر إليه خطأً على أنه محتواه التوكيدي، هي تلك التي يمكنه فيها أن يبني تأكيدًا على مبدأ معترف به اعترافًا شاملًا، ويستنبط عكسه تمامًا بأدق استدلال منطقي من مبدأ آخر مُسلَّم به بنفس القوة، وهذه بالفعل هي الحال ها هنا، بالنسبة إلى أفكار العقل الطبيعية الأربع، التي تُسفر من ناحية عن أربعة تأكيدات، ومن الناحية الأخرى عن أربعة تأكيدات مضادة، يتلو كل منها، دون تخلُّف، من مبادئ معترف بها اعترافًا شاملًا. وهكذا تكشف هذه الأفكار عن الخداع الديالكتيكي للعقل الخالص في استخدامه لهذه المبادئ، وهو الخداع الذي لولا ذلك لظل مختفيًا إلى الأبد.
مثال ذلك أن القضيتَين «الدائرة المربعة مستديرة» و«الدائرة المربعة ليست مستديرةً» باطلتان معًا؛ في الأولى يستحيل أن تكون هذه الدائرة مستديرة؛ لأنها مربعة، ولكن يستحيل أيضًا ألَّا تكون مستديرة؛ أي أن تكون لها زوايا؛ لأنها مستديرة. ذلك لأن المعيار المنطقي لاستحالة تصوُّر ما هو أن يكون افتراضه مُؤدِّيًا إلى إمكان بطلان قضيتَين متناقضتَين معًا، ومن ثم، فلما كان من المحال تصوُّر قضيةٍ وسط بينهما، فإن هذا التصوُّر لا يكون منطويًا على أي شيء.
فعندما أتحدَّث عن أشياء (موضوعات) في الزمان والمكان، فإني لا أتحدَّث عن أشياء في ذاتها؛ إذ إني لا أعرف عن هذه شيئًا، وإنما أتحدَّث عن أشياء ظاهرية؛ أي عن التجربة، بوصفها طريقةً خاصة لمعرفة تلك الموضوعات، متاحةً للإنسان وحده. وليس لي أن أقول عمَّا أُدركه في المكان والزمان إنه يوجد في ذاته، مستقلًّا عن أفكاري، في الزمان والمكان، وإلا لكنت مناقضًا لنفسي؛ إذ إن الزمان والمكان، مع ما فيهما من ظواهر، لا وجود لهما في ذاتهما خارج تمثُّلاتي، وإنما هما مجرَّد طرق للتمثُّل، ومن التناقض الصريح أن يقال عمَّا هو مجرَّد طريقة للتمثُّل، إنه يوجد دون تمثُّلنا. وإذن فموضوعات الحواس لا توجد إلا في التجربة، أمَّا إذا أضفينا عليها وجودًا قائمًا بذاته، مستقلًّا عن التجربة أو سابقًا عليها، فإنا نكون أشبه بمن يتصوَّر التجربة موجودةً دون التجربة، أو قبلها.
فإذا ما تساءلتُ عن عِظم العالم من حيث المكان والزمان، فمن المُحال أن تُتيح لي تصوُّراتي أن أُقرِّر إن كان لا متناهيًا أم متناهيًا؛ إذ إن كلا القولَين ليس متضمِّنًا في التجربة؛ لأن من المستحيل أن تكون لدينا تجربة عن مكان لامتناهٍ أو عن زمان لامتناهٍ في مجراه، ولا عن تحدُّد العالم بمكان خاوٍ؛ فهذه كلها لا تعدو أن تكون أفكارًا. وعلى ذلك، فسواء أحدَّدنا عِظم العالم على هذا النحو أم ذاك، فسيكون من المحتَّم، بِناءً على ذلك، أن يوجد في ذاته، مستقلًّا عن كل تجربة. غير أن هذا يناقض تصوُّر العالم المحسوس، الذي لا يعدو أن يكون مجموعةً من المظاهر لا وجود لها ولا ارتباط بينها إلا في تمثُّلاتنا؛ أي في التجربة؛ إذ إن هذا العالم ليس شيئًا في ذاته، وإنما مُجرَّد طريقة للتمثُّل. ويترتَّب على ذلك أنه لمَّا كان تصوُّر عالم محسوس ذي وجود بذاته متناقضًا مع نفسه، فإن حلَّ المشكلة المتعلِّقة بعِظمه باطل دائمًا، سواء جرَّبناه إيجابًا أم سلبًا.
ومثل هذا يصدق على النقيضة الثانية، التي تتعلَّق بانقسام الظواهر؛ إذ إن هذه مجرَّد تمثُّلات، أجزاؤها لا توجد إلا في تمثُّلاتها، وبالتالي في الانقسام؛ أي في تجربة ممكنة تُعطى فيها، بحيث لا يبلغ الانقسام إلا المدى الذي تبلغه التجرِبة الممكنة. فافتراضنا، مثلًا، أن مظهرًا كالجسم يحوي في ذاته، قبل كل تجربة، جميع الأجزاء التي يمكن أن تبلغها أي تجربة ممكنة، معناه أننا ننسب إلى مجرَّدِ مظهر، لا وجود له إلا في التجربة، وجودًا فعليًّا سابقًا على التجربة، أو نقول بإمكان وجود التمثُّلات الخالصة قبل أن يُهتدى إليها في ملكتنا للتمثُّل، وهو قول مناقض لذاته، مثله في ذلك مثل كل حل لهذه المشكلة التي أُسيء فهمها، سواء أقلنا فيه إن الأجسام في ذاتها تتألَّف من عدد لا متناهٍ من الأجزاء، أو من عدد متناهٍ من الأجزاء البسيطة.
ولو عُدَّت موضوعات عالم الحس أشياء في ذاتها، وقوانين الطبيعة المشار إليها من قِبل قوانين للأشياء في ذاتها، لأصبح التناقض أمرًا لا مفر منه. وكذلك لو نُظر إلى موضوع الحرية على أنه مجرَّد مظهر، شأنه شأن بقية الموضوعات، لكان التناقض هنا أيضًا أمرًا لا مفر منه؛ إذ إن محمولًا واحدًا سيُثبت ويُنفى في هذه الحالة على موضوع واحد بنفس المعنى. أمَّا إذا أُلحقت الضرورة الطبيعية بالمظاهر وحدها، والحرية بالأشياء في ذاتها فحسب، فلن يكون ثمة تناقض في القول بنوعَي العِلِّية هذَين في آنٍ واحد، مهما كانت صعوبة أو استحالة تقريب النوع الأخير إلى الأذهان.
وهكذا تُصان الحرية العملية؛ أي الحرية التي تكون للعقل فيها عِلية مبنية على أُسس متحكمة موضوعيًّا، دون أن يستتبع ذلك أي تضييق لنطاق الصورة الطبيعية فيما يتعلَّق بالمعلولات ذاتها، بوصفها ظواهر. وهذه الملاحظات ذاتها تفيد في تفسير ما قلناه بشأن الحرية الترنسندنتالية وتمشِّيها مع الضرورة الطبيعية (في الذات الواحدة، ولكن ليس تبعًا لوصفٍ واحد لها) إذ إنه في هذه الحالة تكون كل بداية لفعل كائن تبعًا لعلل موضوعية تُعد أُسسًا متحكمةً و«بداية أولى» على الدوام، وإن يكن هذا الفعل ذاته في سلسلة المظاهر مجرَّد «بداية ثانوية»، ينبغي أن تسبقها حالة للعلة تتحكم فيها وتخضع هي ذاتها، على النحو ذاته، لتحكُّم حالة أخرى تسبقها مباشرة. وهكذا نستطيع، دون أن نناقض قوانين الطبيعة، أن نتصوَّر لدى الكائنات العاقلة، أو الكائنات في عمومها بقدر ما تتحدَّد عِلِّيتها فيها بوصفها أشياء في ذاتها، قدرةً على أن تبدأ من ذاتها سلسلةً من الحالات؛ إذ إن علاقة الفعل بالأسس الموضوعية للعقل ليست علاقةً زمنية، ولا يكون الفعل في هذه الحالة مسبوقًا في الزمان بما يتحكم في عِليته؛ إذ إن هذه الأُسس المتحكمة لا تُمثِّل الإشارة إلى موضوعات حسية؛ أي إلى العلل المتحكمة من حيث هي أشياء في ذاتها، لا تندرج تحت شروط الزمان، وعلى هذا النحو يمكننا أن نَعُد الفعل، فيما يتعلَّق بعلية العقل، بدايةً أولى، في حين أنه فيما يتعلَّق بسلسلة الظواهر لا يعدو أن يكون بدايةً ثانوية، ومن ثم ففي وسعنا دون تناقض أن نَعُده حرًّا من وجهة النظر الأولى، وخاضعًا للضرورة الطبيعية من وجهة النظر الثانية (أي من حيث هو مجرَّد ظاهرة).
أمَّا النقيضة الرابعة، فمن الممكن حلها على نفس النحو الذي يخالف به العقل ذاته في النقيضة الثالثة؛ إذ إننا إذا سلَّمنا بأن العلة «في» الظاهرة تتميز عن علة الظواهر (بقدر ما يمكن أن تُعد هذه الحالة شيئًا في ذاته)، فمن الممكن عندئذٍ التوفيق بين القضيتَين؛ الأولى: إذ تقول إنه لا توجد للعالم المحسوس علة (حسب قوانين العِلِّية المماثلة) يكون لها وجود ضروري. والثانية: إذ تقول إن هذا العالم يرتبط مع ذلك بكائن ضروري هو عِلته (ولكنه علة من نوع آخر وتبعًا لقانون آخر). أمَّا الاعتقاد بتعارض هاتَين القضيتَين فيرتكز بأسره على خطأ تطبيق ما لا يصح إلا على الظواهر، على الأشياء في ذاتها، والخلط بين الاثنَين في تصوُّر واحد.
وسيرى القارئ من ذلك أن تفسيري للحرية بأنها القدرة على البدء في حادث تلقائيًّا قد أدَّى بي إلى الاهتداء إلى نفس ذلك التصوُّر الذي هو قوام مشكلة الميتافيزيقا.