مذهب الأنا في الفلسفة الألمانية
رغم أن فلسفة كانت تنطوي على الكثير من بذور الثورة الرومانتيكية على «عصر العقل»، فإن خصائص هذا العصر تظهر في معظم اتجاهات كانت الأساسية. فتأكيده الاستقلال الذاتي الأخلاقي للفرد هو صفة مميزة لفترة أنكرت فيها معظم الأذهان المتعمِّقة السلطةَ الروحية المستقلة لأي نظام. ولقد كان كانت فردي النزعة، بحيث كان الالتزام الأخلاقي الأساسي في نظره هو احترام فردية كل شخص بوصفها غايةً في ذاتها. ومع ذلك فهو لم يكن فرديًّا بالمعنى الرومانتيكي. ولا جدال في أنه كان يرتاع لو اطَّلع على تأكيد نيتشه لحقِّ الإنسان الأرقى في «قلب» جميع القيم، أو في النظر إلى مطامحه الشخصية على أنها قوانين لذاته. فكانت قد ظلَّ من أصحاب النزعة الكلية الشاملة؛ أي إن أي أمر أخلاقي هو في نظره أمر للناس أجمعين، لا للألمان أو المسيحيين أو الجنس الأبيض فحسب. ولقد كان ميله إلى جعل المسائل الخاصة بالسعادة الفردية وبرفاء المجتمع تحتل مركزًا ثانويًّا، كان هذا الميل من الخصائص المميِّزة لفترة كانت فيها المشكلة الاجتماعية الكبرى هي مشكلة الحقوق الإنسانية المشتركة.
ولقد اقتبس كانت من روسو، وهو الأب الحقيقي للرومانتيكية، الرأي القائل بأولوية الإرادة من وجهة نظر الأخلاق. غير أنه، على خلاف روسو، قد حرص على أن يُلحق هذا الرأي بشرط يقول إن الإرادة الأخلاقية هي في الوقت ذاته إرادة عاقلة لا بد لها من تصوُّر للقانون. كما أنه لم يشارك روسو خوفه من العقل النظري أو كراهيته له، ولم يشاطره رغبته في إخضاع المعايير العقلية للمعايير الأخلاقية أو الدينية. وقد يكون صحيحًا، بمعنًى معيَّن، أن للقلب، كما قال إسكال، أسبابه التي لا يعرفها العقل، غير أن هذا، في رأي كانت، لا يُبرِّر على الإطلاق تخلِّينا عن قوانين المنطق لحساب الضمير أو الإيمان، ولا يُحلِّل لنا الاعتقاد أن الشمس تُشرق من الغرب إذا بدا أن الأخلاق أو الدين تقتضي ذلك.
والواقع أن العناصر الأساسية المؤدية إلى فهم سليم للطابع الفلسفي الذي تميَّز به كانت هي تلك العناصر التي لم يكن فيها مقتفيًا أثر روسو. ولا مفر للمرء من إساءة فهم تعاليم كانت إلى حدٍّ بعيد إذا حاول أن يمضي بها إلى أبعد من فترة البداية الأولى للعصر الرومانتيكي. أمَّا في حالة فشته، الذي كان أول مفكر هام، وأصيل، تأثر بكانت، فلسنا في حاجة إلى مثل هذه المحاولة؛ إذ إنه يتجاوز حدود البدايات الأولى الرومانتيكية بطبيعته، وبحكم ميله ومزاجه وعقيدته. وفي تفكيره تخفُّ وطأة تلك القيود التي حالت دون تمجيد كانت للإرادة على حساب الذهن. كذلك يكاد يكتمل في تفكيره ذلك التحوُّل لمفهوم العقل، الذي كان قد بدأ عند كانت. فقد نظر كانت إلى قوانين المعقولية، لا على أنها انعكاس لتركيب الأشياء في ذاتها، بل على أنها صور للذهن البشري. ولكنه لم يفترض أن في وسع أي مخلوق بشري أن يطرح هذه الصور جانبًا إذا ما شاء ذلك. فلا جدال في أن الذهن البشري يفرض على ذاته من القواعد ما يلزم لإنجاز مهمة المعرفة. غير أن القواعد التي يشرِّعها الذهن للبحث واحدة بالنسبة إلى جميع الناس. أمَّا فشته فإنه يصبغ ثورة كانت الكبرنيكية، في البداية على الأقل، بصبغة ذات طابع أقوى بكثير؛ فهو يتخذ في البداية الموقف القائل إنه، مثلما أن أي قانون أخلاقي لا يمكن أن يُلزمني إلا إذا اخترت بنفسي أن ألتزم به، فكذلك لا تستطيع أية قوانين لا شخصية مزعومة للذهن البشري أن تشرِّع الطريقة التي يتعيَّن عليَّ بها أن أُنجز مهمة المعرفة إلا إذا كنت على استعداد لقَبول هذه القوانين بوصفها قوانين خاصة بي. ولا بد أن يكون أي «عقل» أعد مسئولًا أمامه، عقلًا «خاصًّا بي». وبالاختصار، فإن فشته يفسِّر الفلسفة «النقدية» بأنها تقوم على القول بأن مقتضيات الذات الفردية، أو الأنا، هي نقطة بداية كل تفكير فلسفي. والمشكلة الأساسية هي معرفة هذه المقتضيات.
وهكذا حوَّل فشته النقد الكانتي للعقل إلى مسألة حياة أو موت ﻟ «يوهان جوتليب فشته» ذاته، فإذا ما وجد أفراد آخرون أن النتائج التي انتهى إليها مقبولة لديهم بدورهم، فذاك شأنهم. ومن المُسلَّم به أن أحدًا لا يستطيع، ولا ينبغي، أن يظل جزيرةً عزلاء. أمَّا من الوجهة الفلسفية فإن عليه أن يبدأ على هذا النحو بالفعل.
ولن يدرك أحد الأزمة البشرية الأساسية الكامنة في النقد الكانتي للعقل إلا إذا اعترف باستحالة وجود أية نقطة بداية أخرى للتفلسف. أو إذا شئنا تحوير الاستعارة السابقة، فليقل إن أحدًا لا يستطيع مبارحة جزيرة الأنا إلا عن طريق جسور يختارها هو. كما أن «من المُحتَّم عليه»، من الوجهة العملية، أن يُشيد هذه الجسور. ولكن «الضرورة» الوحيدة هنا تكمن في إرادته الخاصة. ومع ذلك فقد حاد فشته عن هذا الموقف في النهاية إلى حد ما، وهكذا نجده يتحدَّث، ولا سيما في الفترة المتأخرة من تطوُّره، عن «روح مطلقة»، لا يُعد «أناي» المتناهي سوى مظهر لها. ولكن حتى لو بدا أن فشته لم يكن جادًّا كل الجد في تفسير التحوُّل الترنسندنتالي عند كانت تفسيرًا شخصيًّا خالصًا، فعلينا نحن على الأقل أن نأخذه مأخذ الجد إذا شئنا أن يكون لفلسفته أية أهمية بالنسبة إلينا.
ولقد كان تطوُّر فشته الفلسفي عكس تطوُّر كانت على خط مستقيم؛ فكانت قد بدأ بنزعة عقلية توكيدية، ولم يصل إلى فلسفته النقدية الجديدة إلا في مرحلة متأخرة من أواسط عمره. أمَّا فشته فقد بدأ تلميذًا لكانت، وعدَّ نفسه مُجرَّد مُنفِّذ لبرنامج كتب «النقد» الثلاثة على نحو أكمل، وانتهى به الأمر مثاليًّا توكيديًّا لا يعترف بحقيقة سوى الروح، ممَّا دفع كانت نفسه في النهاية إلى تفنيد فلسفة فشته بوصفها تحريفًا أساسيًّا لتعاليمه.
وأفضل كتابات فشته تلك الكتابات الأولى التي كان لا يزال فيها واقعًا تحت تأثير كانت، أمَّا كتاباته المتأخرة فأقل طرافة، وأقل تشويقًا بكثير. فلقد بدأ بدفاع قوي عن المُثل العليا التي استهلَّتها الثورة الفرنسية، مُؤكِّدًا بحماسته المعروفة أن للفرد حقوقًا لا يمكن مطلقًا أن يسلبه إياها أحد، وأن حرية الكلام والفكر ضرورية، وأن لكل شعب حقًّا أخلاقيًّا في الثورة على أي نوع من الحكم تُقمع فيه حرياته. ولكنه حين تحوَّل فيما بعدُ إلى وطنيٍّ ألماني متعصب، أغضبه غزو نابليون لوطنه، ألَّف كتابه المشهور «نداءات إلى الأمة الألمانية»، الذي تظهر فيه بوضوح نزعة عنصرية وقومية عنيفة جعلت بعض نُقاده يعدونه سلفًا مباشرًا للنازية. وفي آخر أطوار تفكيره، تحوَّلت نزعته الفردية الأولى تدريجيًّا إلى مذهب لتمجيد الدولة قائم على أُسس تاريخية الوجهة، وهو مذهب يتزايد فيه إخضاع حرية الأنا الفردي «للروح المطلقة» في تكشُّفها الذي يتبدَّى تاريخيًّا في حياة المجتمع، أو يؤكِّد أن تلك الحرية هي ذاتها هذه الروح المطلقة.
وهكذا يشبه تطوُّر فشته، في هذا الصدد، تطوُّر كثير من الرومانتيكيين الآخرين في عصره، ممن بدءوا ثوارًا وانتهَوا محافظين أو أسوأ من المحافظين.
كل هذه الآراء تبدو خياليةً جامحة إذا لم يتأملها المرء دائمًا في ضوء التعاليم الكانتية الكامنة من ورائها. أمَّا إذا تتبَّعنا استدلالات فشته المعقَّدة من خلال هذا المنظور على الدوام، فسوف يبدو مذهبه أقرب إلى المعقول إلى حد ما. ويضع فشته، في البداية، تقابلًا بين فلسفتَين يطلق عليهما اسم «التوكيدية» و«المثالية». وهو يرى أن الأساس النهائي الوحيد لاختيار المرء بينهما هو ملاءمة الفلسفة التي يختارها «لنوع الإنسان الذي يكونه ذلك الشخص». وهنا يقول فشته في الواقع بذلك الرأي الذي يؤمن به الكثيرون، وإن كان القليلون هم وحدهم الذين يعترفون به، وأعني به أن الالتزامات النهائية تحدث آخر الأمر بِناءً على أُسس تنتمي إلى مجال الطبع أكثر منها إلى مجال البرهان. والأهم من ذلك أنه يقول إن هذه الالتزامات سابقة على المعقولية؛ إذ لا يمكن أن تُفهم الأحكام المتعلِّقة بما هو معقول أو صحيح إلا في علاقتها بهذه الالتزامات. إن الفيلسوف الواقعي يُسلِّم، دون تمحيص، بوجود عالم من الأشياء المستقلة الحقيقية التي لا تختبر حقيقة أفكارنا أو مطابقتها إلا عن طريقها، وينسى أن مجرد القول بوجود هذا العالم معناه اتخاذ موقف فلسفي تُعَد معطيات التجربة بالنسبة إليه محايدةً تمامًا.
وإذن فأولى خطوات الفلسفة المثالية عند فشته هي رفض ذلك الأثر الباقي للتوكيدية العقلية في نظرية المعرفة عن كانت؛ أعني «الشيء في ذاته». ويرى فشته أن أي حديث عن «الشيء في ذاته» هو حديث لا قيمة له من وجهة نظر الفلسفة النقدية الحقة؛ فما نسمِّيه ﺑ «نظام العالم» هو عالم قضايانا. والسبب الوحيد لتأكيد واقعية أي شيء من وراء انطباعاتنا المباشرة هو سبب عملي. وكل ما يفعله المفكر العقلي هو أن يخفي هذه الحقيقة عن ذاته باستخدام تعبيرات لا شخصية مثل «العقل» أو «الحدس» أو «الحقيقة الواضحة بذاتها».
وفي وسعنا أن نقدِّم صورةً لخلاصة مذهب فشته على النحو الآتي: فلنتصوَّر شخصًا عاديًّا، واقعيًّا إلى أبعد حد، تثيره أولًا تلك الخلافات الميتافيزيقية حول مسألة وجود العالم الخارجي، وتزيد بعد ذلك من حيرته تدريجيًّا، فينتهي به الأمر إلى الهتاف موجِّهًا هذا السؤال الذي يبدو غير فلسفي: «فيمَ يهم، على أية حال، إن كان ثمة عالم خارجي أم لا؟» مثل هذا السؤال ينتمي إلى صميم فلسفة فشته؛ فالسؤال الفلسفي عند فشته ليس السؤال عمَّا إذا كان ثمة شيء «هناك»، وإنما السؤال عمَّا إذا كان لهذا القول أية قيمة عملية.
ولا جدال في أن طريقة فشته في التعبير مختلفة كل الاختلاف عن مثيلتها لدى البرجماتيين المتزمِّتين، الذين لا يقبلون على الإطلاق طريقته التشخيصية في الكلام؛ فذلك الميل الغريب لدى فشته إلى وصف الأمور كما لو كان ثمة شيء يسمى ﺑ «الحرية»، هو الذي يؤكِّد ذاته ويحقِّق ذاته في الفعل، يصدم القارئ الذي لا يقبل آراءه، فيصف الكثير منها بأنها أشنع أنواع التضليل الميتافيزيقي. كذلك لا يمكننا أن ننكر أن فشته قد وقع، ولا سيما في مرحلته المتأخرة (التوكيدية)، في نفس الحبائل التي تحاول الفلسفة النقدية الكشف عنها، فهو يقع آخر الأمر ضحية ميله إلى تشخيص التصوُّرات والنظر إليها كما لو كانت هي، لا نحن، التي تريد وتفعل. وتكون خاتمة مطافه المحزنة هي اتخاذه موقف «المثالي المطلق»، الذي ينظر إلى الذات الفردية، ومعها «اللاذات» التي تؤكدها الذات لأسباب عملية، على أنها أوجه أو مظاهر لروح مطلقة أو ذات كبرى يقال إنها تشمل الواقع بأسره.
(النص)
علينا أن نبحث عن المبدأ المطلق الأول، والأساسي غير المشروط على أي نحو، للمعرفة البشرية. ولكي يكون هذا مبدأً أول مطلقًا، فلا يمكن أن يقبل البرهنة عليه أو تحديده.
هذا الفعل، الذي ليس بالواقعة، التجريبية للوعي، لا يمكن أن يتحوَّل، حتى عن طريق هذا التأمُّل التجريدي إلى واقعة للوعي، ولكنا نستطيع عن طريق هذا التأمُّل التجريدي أن ندرك ما يلي؛ إن هذا الفعل ينبغي بالضرورة أن يُعَد أساس كل وعي.
وعلينا أن نبدأ، عند القيام بهذا التأمل التجريدي، من قضية يسلِّم بها الجميع دون جدال. ولا شك أن ثمة قضايا عديدةً كهذه. وسنختار منها تلك التي تبدو في نظرنا أقرب الجميع إلى تحقيق الغرض الذي نرمي إليه.
ولا بد عند قَبول هذه القضية من قَبول الفعل الذي نعتزم أن نتخذه أساسًا لكل نظرية العلم لدينا، ولا بد أن يوضِّح التأمُّل أن هذا الفعل يُقبل بمجرَّد قَبول القضية. وهكذا سنتناول أية واقعة من وقائع الوعي التجريبي يُعترف بأنها قضية لها مثل هذه الصحة، ونعزل عنها واحدًا بعد الآخر من تحديداتها التجريبية، حتى لا يتبقَّى فيها إلا ما لا ينطوي على شيء يُعزل أو يجرَّد.
والقضية التي سنتناولها من هذا النوع هي: أ هي أ (وهي تعادل أ = أ؛ لأن هذا هو معنى الرابطة المنطقية). فصحة هذه القضية معترف بها من الجميع دون أي تردُّد. والكل يُقرون بيقينيتها ووضوحها التام.
وأنت حين تؤكِّد يقينية القضية السابقة في ذاتها، لا تؤكِّد أن أ موجودة؛ إذ إن القضية أ هي أ لا تعادل على الإطلاق القضية أ موجودة، أو: توجد أ (إذ إن تأكيد الوجود دون محمول يختلف كل الاختلاف عن تأكيده مع محمول). ولو فرضنا أن أ تعني مكانًا منحصرًا بين خطَّين مستقيمَين، فعندئذٍ تكون القضية أ هي أ صحيحة رغم ذلك، وإن كانت القضية «أ موجودة» كاذبة؛ إذ إن مثل هذا المكان محال.
ولكنك تؤكِّد بهذه القضية ما يلي. إذا كانت أ موجودة، فإن أ موجودة، وإذن فمسألة كون أ موجودة أو غير موجودة، لا تتأثَّر هنا أصلًا. ومحتوى القضية لا يُبحث هنا على الإطلاق، بل إن موضع البحث هو صورتها فحسب. والمسألة ليست ذلك الموضوع الذي تدور معرفتك حوله، بل ما تعرفه عن أي موضوع ما. وإذن فالشيء الوحيد الذي يؤكَّد في هذه القضية هو الارتباط الضروري بصفة مطلقة بين أ وأ. وسوف نرمز إلى هذا الارتباط بالحرف س.
أمَّا بالنسبة إلى أ ذاتها فإنا لم نؤكِّد شيئًا بعد.
وهكذا يظهر السؤال التالي: تحت أي الشروط تكون أ موجودة؟ إن س على الأقل توجد في الأنا، وتؤكَّد من خلال الأنا؛ إذ إن الأنا هو الذي يؤكِّد القضية السابقة، وبذا يؤكِّدها عن طريق س بوصفها قانونًا، ومن ثم وجب أن تكون س هذه، أو هذا القانون، معطاةً للأنا. ولمَّا كانت تؤكَّد على نحو مطلق، ودون أي أساس آخر، فلا بد أن تكون معطاةً للأنا عن طريق ذاته.
وهكذا يؤكد الأنا عن طريق س: أن أ موجودة بصفة مطلقة بالنسبة إلى الأنا المؤكد، وأنها موجودة لا لشيء إلا لأنها مؤكدة في الأنا، أو أن في الأنا شيئًا يظل دائمًا على ما هو عليه، وبذلك يتمكَّن من أن يربط أو يؤكِّد، ومن ثم فمن الممكن أيضًا التعبير عن س المؤكدة تأكيدًا مطلقًا على النحو الآتي: أنا = أنا، أو: «أنا أكون أنا».
وهكذا وصلنا إلى القضية «أنا أكون» لا بوصفها تعبيرًا عن فعل، وإنما على الأقل بوصفها تعبيرًا عن واقعة.
ذلك لأن س مؤكدة بصفة مطلقة، وهذه واقعة للوعي التجريبي كما يتبيَّن من القضية المعترف بها. ولكن معنى س يساوي «أنا أكون أنا»، ومن هنا فإن هذه القضية مؤكدة على نحو مطلق.
غير أن «أنا أكون أنا»، لها معنًى مختلف كل الاختلاف عن أن أ هي أ؛ إذ إن القضية الأخيرة لا يكون لها محتوًى إلا بِناءً على شرط مُعيَّن؛ أي إذا أكدت أ. ولكن القضية «أنا أكون أنا» صحيحة على نحو مطلق غير مشروط، ما دامت معادلةً ﻟ س، وهي صحيحة لا من حيث صورتها فحسب، ولكن من حيث محتواها أيضًا. وفيما يؤكد الأنا لا بِناءً على شرط، بل على نحو مطلق، مع محمول المساواة للذات، وهكذا فإن الأنا يؤكِّد، ويمكن التعبير عن القضية أيضًا على هذا النحو: «أنا أكون».
هذه القضية، «أنا أكون» لا تقوم حتى الآن إلا على واقعة، وليست لها سوى صحة واقعة. فلكي تكون «أ = أ»، (أو س) يقينية، ينبغي أن تكون «أنا أكون» يقينية بدورها. على أن من وقائع الوعي التجريبي أننا مضطرون إلى النظر إلى س على أنها يقينية على نحو مطلق، وإذن «فأنا أكون» يقينية بدورها؛ إذ إنها أساس س. وهذا يستتبع أن أساس تفسير جميع وقائع الوعي التجريبي هو الآتي:
•••
لا يمكن البرهنة على المبدأ الأساسي الثاني؛ لنفس السبب الذي لم يمكن من أجله البرهنة على المبدأ الأول. وعلى ذلك فنحن نبدأ في هذه الحالة أيضًا من واقعة للوعي التجريبي على النحو ذاته.
ومع ذلك، فإذا كان مثل هذا البرهان ممكنًا، فلا بد في مذهبنا هذا … أن يُستنبط من القضية أ = أ.
فالعكس عامةً لا يعدو أن يكون مؤكَّدًا من خلال الأنا.
ونحن إلى الآن لم نتحدَّث إلا عن الفعل من حيث هو مجرد فعل؛ أي عن «نوع» الفعل، فلنختبر الآن ناتجه، وأعني به «لا أ».
والأصل أن الأنا وحده هو الذي يؤكد، وهو وحده الذي يؤكد على نحو مطلق (القسم الأول). ومن ثم فإن أي تأكيد عكسي مطلق لا يمكن إلا أن يشير إلى الأنا. ونحن نطلق على عكس الأنا اسم «اللاأنا».
وكما يُسلم بالقضية «لا أ ليست هي أ» على نحو غير مشروط بوصفها واقعةً في الوعي التجريبي، فكذلك يؤكد اللاأنا بوصفه العكس المطلق للأنا. وكل ما قلناه من قبلُ بشأن التأكيد العكسي عامة، يُستنبط من هذا التأكيد العكسي الأصلي، ومن ثم فهو يسري عليه، وإذن فهو غير مشروط في صورته ولكنه مشروط في مادته. وهكذا نجد المبدأ الثاني لكل المعرفة البشرية:
فكل ما ينتمي إلى الأنا، لا بد أن ينتمي ضده إلى اللاأنا.
•••
وبإجراء نفس التجريد الذي أجريناه على القضية الأولى، على هذه القضية، نحصل على القضية المنطقية لا أ ليست هي أ، التي ينبغي أن أسمِّيها قضية التأكيد العكسي. هذه القضية، أولًا، لا يمكن حتى الآن تحديدها على النحو الصحيح، أو التعبير عنها في صيغة، وذلك لسبب سنذكره في القسم المقبل.
وبالتجريد من الفعل المحدد للحكم المتضمَّن في هذه القضية، والنظر المجرَّد إلى صورة استخلاص اللاوجود من الوجود المؤكد عكسيًّا، نحصل على «مقولة السلب»، وهذا أيضًا لا يمكن إيضاحه بإسهاب حتى القسم المقبل.
إن كل خطوة نسيرها في علمنا تُقرِّبنا من النقطة التي يصبح فيها كل شيء مبرهنًا عليه؛ ففي المبدأ الأول كان ينبغي ألَّا يبرهَن، أو أن يتسنَّى البرهنة، على شيء. وفي الثاني، كان فعل التأكيد العكسي هو وحده غير القابل للبرهنة. ولكن ما إن أُكد هذا الفعل العكسي بصورته المجرَّدة تأكيدًا مطلقًا، فقد برهن بدقة على أن العكس ينبغي أن يكون لا أنا. أمَّا المبدأ الثالث فكله تقريبًا قابل للبرهان؛ إذ إنه ليس مشروطًا في مادته، كالثاني، وإنما في صورته فحسب، وهو فضلًا عن ذلك مشروط في صورته بالقضيتَين السابقتَين.
ومعنى كونه مشروطًا في صورته، هو أن القضيتَين السابقتَين هما اللتان تكونان مشكلة الفعل التي يثيرها ذلك المبدأ، ولكنهما لا تأتيان بحل لهذه المشكلة؛ إذ الحل ناتج عن فعل مطلق غير مشروط للعقل.
فنحن إذن نبدأ باستنباط، ثم نمضي أبعد ما يمكننا المضي. فإذا ما بلغنا نقطةً لا نستطيع المُضي بعدها، فسوف يكون علينا أن نهيب بهذا الفعل المطلق.
-
(١)
فبقدر ما يؤكد اللاأنا، لا يؤكد الأنا؛ إذ إن اللاأنا يلغي الأنا تمامًا.
على أن اللاأنا يؤكد في الأنا؛ لأنه يؤكد عكسيًّا في مقابله، وكل تأكيد عكسي يفترض مقدمًا هُوية الأنا.
وإذن فالأنا لا يؤكد في الأنا بقدر ما يؤكد فيه اللاأنا.
-
(٢)
ولكن لا يمكن تأكيد اللاأنا إلا بقدر ما يؤكد في الأنا (أي في الوعي القائم على الهُوية) أنا يكون اللاأنا هو تأكيده العكسي المقابل.
-
(٣)
وإذن فبقدر ما يؤكد اللاأنا في الأنا، لا بد أن يؤكد الأنا بدوره فيه.
-
(٤)
ومع أن كلا من نتيجتَي القضيتين ١ و٢ عكس الأخرى، فإن كلتَيهما مستمدة من المبدأ الأساسي الثاني، وعلى ذلك فهذا المبدأ الثاني معاكس لذاته ويلغي ذاته.
-
(٥)
ولكنه يلغي ويرفع ذاته بقدر ما يعمل المؤكد عكسيًّا على إلغاء المؤكد؛ أي بقدر ما يكون هذا المبدأ صحيحًا.
وإذن، فهو لا يلغي ذاته؛ فالمبدأ الأساسي الثاني يلغي ذاته ولا يلغي ذاته.
-
(٦)
فإذا كان هذا حال المبدأ الثاني، فلا بد أن يكون أيضًا حال المبدأ الأول. فهذا المبدأ الأول يلغي ذاته ولا يلغي ذاته؛ إذ إنه:
إذا كان الأنا = الأنا، فكل ما يؤكد في الأنا يؤكد.
ولكن المبدأ الثاني يتعيَّن أن يؤكد وألَّا يؤكد في الأنا.
وإذن فالأنا ليس هو الأنا، وإنما الأنا هو اللاأنا واللاأنا هو الأنا.
- (١)
ولمَّا كانت الأضداد الواجب توحيدها موجودةً في الأنا بوصفه وعيًا، فلا بد أن تكون س بدورها في الوعي.
- (٢)
والأنا واللاأنا معًا ناتجان عن أفعال أصيلة للأنا، والوعي ذاته ناتج عن هذا النوع للفعل الأصيل الأول للأنا؛ أي لتأكيد الأنا لذاته.
- (٣)
ولكن نتيجتَينا السابقتَين تدلان على أن الفعل الذي يكون اللاأنا ناتجه؛ أي التأكيد العكسي، ليس ممكنًا على الإطلاق دون س. وإذن فلا بد أن تكون س ذاتها ناتجةً عن فعل أصيل للأنا؛ أي لا بد أن يكون هناك فعل للذهن البشري = ص، يكون ناتجه هو س.
- (٤)
وتتحدَّد صورة هذا الفعل ص على أساس المشكلة السابقة، فعليه أن يكون توحيدًا للضدَّين (الأنا واللاأنا) دون أن يلغي أحدهما الآخر؛ أي إن من الواجب جلب الضدَّين معًا في هُوية الوعي.
- (٥)
ولكن المشكلة لا تُحدِّد كيف؛ أي بأية طريقة، يتحدان، بل لا توحي بها على الإطلاق. فعلينا إذن أن نجري تجربة، ونتساءل: كيف يمكن التفكير في أ ولا أ؛ أي في الوجود واللاوجود، والإيجاب والسلب معًا، دون أن يُلغي كلٌّ منهما الآخر؟
- (٦) لا يُتوقَّع من أحد أن يجيب عن هذا السؤال إلا على النحو الآتي: لا بد أن يحد (einschränken) كل منهما الآخر. فإذا كان هذا الجواب صحيحًا، فإن الفعل ص هو حد الضدَّين كل عن طريق الآخر، ويكون معنى س هو الحدود (die Schränken).
- (٧)
على أن فكرة الحدود تتضمَّن أكثر من س المطلوبة؛ «إذ هي تنطوي أيضًا على مفهومَي الإيجاب والسلب، الواجب التوحيد بينهما». وإذن، فلكي نصل إلى س خالصة، ينبغي أن نقوم بتجريد آخر.
- (٨)
ومعنى أن يحد شيء هو إلغاء إيجابيته بالسلب لا إلغاءً تامًّا، وإنما إلغاء جزئي. وإذن ففكرة الحدود تتضمَّن، إلى جانب فكرتَي الإيجاب والسلب، فكرة القابلية للانقسام (أي القابلية للإنصاف بصفة الكم عامة، لا الحكم المحدد). وهذه الفكرة هي س المطلوبة، ومن هنا، فعن طريق الفعل ص، يؤكد الأنا وكذلك اللاأنا بوصفهما قابلَين للانقسام.
- (٩)
إن الأنا، وكذلك اللاأنا، يؤكدان بوصفهما قابلَين للانقسام؛ إذ لا يمكن أن يعقب الفعل ص فعل التأكيد العكسي؛ إذ تبيَّن أن فعل التأكيد العكسي هو في ذاته مستحيل، كما لا يمكنه أن يسبق هذا الفعل؛ إذ إن الفعل ص لا يحدث إلا لكي يجعل فعل التأكيد العكسي ممكنًا؛ والقابلية للانقسام ليست سوى شيء قابل للانقسام. ومن ثم فإن الفعل ص وفعل التأكيد العكسي يحدثان كل منهما في الآخر ومع الآخر، وكلاهما نفس الفعل، وهما لا يتميَّزان إلا بالفكر. وإذن فعن طريق تأكيد لا أنا في مقابل الأنا، يؤكد الأنا واللاأنا معًا بوصفهما منقسمَين.
فلنرَ الآن إن كان الفعل الذي وصلنا إليه ها هنا قد حلَّ المشكلة بالفعل ووحَّد الأضداد.
إن النتيجة الأولى تتحدَّد الآن على النحو التالي؛ فالأنا لا يؤكد في الأنا عن طريق تلك الأجزاء من الواقع التي يؤكد بها اللاأنا؛ فذلك الجزء من الواقع الذي يُعزى إلى اللاأنا، يُلغى في الأنا.
هذه القضية، في صورتها الحالية، لا تناقض النتيجة الثانية؛ فبقدر ما يؤكد اللاأنا، ينبغي أيضًا أن يؤكد الأنا؛ إذ إنهما معًا يؤكدان بوصفهما منقسمَين من حيث حقيقتهما.
وهكذا يتعيَّن على الأنا أن يكون مساويًا لذاته، وأن يكون مع ذلك مضادًّا لذاته. ولكنه مساوٍ لذاته فيما يتعلق بالوعي، وفي هذا الوعي يؤكد الأنا المطلق بوصفه غير منقسم، ويؤكد الأنا، الذي يقابله اللاأنا، بوصفه منقسمًا. وهكذا تتحد كل الأضداد في وحدة الوعي؛ إذ إن الأنا ذاته، بقدر ما يكون هناك لا أنا مقابل له، يكون فيها مقابلا للأنا المطلق، وذلك هو الاختيار الذي يدل على أن مفهوم القابلية للانقسام، الذي تمَّ وضعه، هو المفهوم الصحيح.
وعلى أساس افتراضنا الأول، الذي لا يمكن إثباته إلا بالانتهاء من المعرفة، لا يمكن أن يكون هناك سوى مبدأ واحد مطلق غير مشروط ومبدأ واحد مشروط في محتواه، ومبدأ واحد مشروط في صورته. وإذن فلا يمكن أن يكون ثمة مبدأ آخر؛ فقد استنفد كل ما هو مؤكد على نحو مطلق غير مشروط، وأستطيع أن أعبِّر عن الكل بهذه الصيغة:
«أنا أؤكد في الأنا لا أنا قابلًا للانقسام مقابل أنا قابلٍ للانقسام».
وليس في وسع أية فلسفة أن تمضي إلى ما وراء هذه المعرفة، وإنما ينبغي أن تصل إليها كل فلسفة دقيقة، فتصبح بذلك نظريةً للعلم. وكل ما يمكن أن يحدث بعد ذلك في نسق الذهن البشري ينبغي أن يكون قابلًا للاستنباط ممَّا أثبتناه ها هنا.