الديالكتيك والتاريخ
يُنظر إلى فلسفة هيجل عادةً على أنها القمة التي بلغها تطوُّر المثالية التالية لكانت في ألمانيا. وهذه الفلسفة هي قطعًا من أقوى المذاهب الفكرية تأثيرًا في القرن التاسع عشر؛ فمن غير هيجل، يستحيل تصوُّر ماركس، وعلى ذلك فمن الصعب بدونه تخيُّل الخلافات الأيديولوجية السائدة في عصرنا الحالي. ولكن هيجل كانت له آثار أخرى عديدة بعيدة المدى في الفكر الحديث، وهي آثار لا تقتصر على ميدان الفلسفة، بل تشمل النظريات الاجتماعية والتاريخ والتشريع. ولقد كُنا على وشك القول بأن الميدان الوحيد الذي لم يكن لتفكير هيجل فيه أثر هو ميدان العلوم الفيزيائية، ولكن هذا غير صحيح؛ إذ إن علماء الفيزياء أنفسهم في روسيا ينبغي عليهم أن يشيدوا بالديالكتيك الهيجلي كما صاغه ماركس.
وليس من السهل أن يقدر المرء فلسفة هيجل حق قدرها؛ إذ إن الآراء لم تختلف حول فلسفة رئيسية بقدر ما اختلفت حول فلسفته؛ فالبعض ينظر إليه كما نظر القديس توما الأكويني إلى أرسطو، على أنه هو «الفيلسوف» الذي أتى بمذهب رحب يسع في داخله كل الفلسفات السابقة الضيقة النطاق. والبعض الآخر يعده «الخطأ الأكبر» الذي ارتُكب في تاريخ الفلسفة. وفي هذا غرابة بحق؛ إذ إن كتابة هيجل تتصف بأسلوب لا شخصي لا يقل في جفافه عن أي كتاب في التقويم الفلكي. وليس في هيجل، من حيث هو إنسان، أي جانب طريف؛ إذ يبدو أن الهدف الوحيد لحياته كان القيام بدور كاتم سر «المطلق». ولكن إذا لم يكن في الرجل ذاته من الصفات ما يجذب المرء إليه كثيرًا أو ينفِّره منه كثيرًا، فإن ضخامة تأثيره كانت أمرًا لا شك فيه. وقد ينفر المرء من فلسفته، ولكن أحدًا لا يملك أن يتجاهلها.
ولقد وصف هيجل كتاباته بأنها «محاولة لجعل الفلسفة تنطق بالألمانية.» ولو صحَّ هذا، لكانت تلك لغةً ألمانية لم ينطق بها أحد قبله. ولقد وصف البعض كتابة هيجل بأنها «حبلى»، وهو وصف لا بأس به؛ فهيجل لا يقدِّم إلينا النتيجة النهائية قط، بل يظل دائمًا ثمة وصف آخر ينبغي إطلاقه، ومنظور جديد ما ينبغي النظر إلى أية فكرة من خلاله. والنتيجة هي أن قراءة هذه الكتابات ليست هينة؛ فكتابة هيجل مركزة، مدققة، متقنة، مُثقَلة بالمعاني، ونادرًا ما يقول ما يعنيه، أو يعني ما يبدو أنه يقول. فالوصف هو في رأيه ماهية الحقيقة. والنتيجة هي أن الناقد المجهد ييأس آخر الأمر من أن يقول عنه شيئًا لا يكون باطلًا، أو لا يكون مضلِّلًا — والصفة الثانية لا تختلف كثيرًا في رأي هيجل عن الأولى. ومع ذلك فإن أسلوبه الذي يغلب عليه اللون الرمادي الباهت، له سحره الغريب، وعندما ننتهي من قراءته، يكون قد فتح أمامنا، على نحو ما، آفاق عالم فلسفي. وإذا كانت الأشياء في ذلك العالم لا تتحرَّك على طريقتها المعتادة، فإنها مع ذلك تتحرَّك، والبراعة إنما تكون في تعلُّم طريقة رؤيتها.
وتظهر في فلسفة هيجل أول محاولة كاملة للنظر إلى جميع المشاكل والتصوُّرات الفلسفية، ومنها تصوُّر العقل ذاته، من خلال منظور تاريخي في أساسه. فليس لأية فكرة، في نظر هيجل، معنًى ثابت، وليس لصورة الذهن صحة أزلية ثابتة. ولقد نظر معظم الفلاسفة السابقين، وضمنهم كانت، إلى الطبيعة والذهن من وجهة نظر المقولات والقوانين السكونية التي تُفرَض أزلًا، ويعاد فرضها، على الكثرة المتغيِّرة من الأشياء الجزئية. وتصوَّر كانت الذهن على أنه قوة فاعلة إيجابية مشكلة، غير أن مقولات الذهن وأوامر العقل العملي ليست في رأيه معرَّضةً للتغيُّر. أمَّا هيجل فينظر إلى كل شيء — ما عدا فلسفته هو، على الأرجح — من منظور التاريخ. ولقد نظر الفلاسفة السابقون عليه إلى ما هو جزئي على أنه، بما هو جزئي، غير قابل للفهم. وكانت كل معرفة في نظرهم متعلقةً بالكليات، والمعرفة الفلسفية هي أعم المعارف كلها. أمَّا هيجل فقد نظر إلى الخاص أو الجزئي وحده على أنه هو الذي ينبغي أن يُفهم، وإن كان قد رأى أنه لا يمكن أن يُفهم فهمًا كاملًا إلا إذا تأمَّلناه في علاقته بكل شيء آخر. وكل ما هو جزئي هو، من غير علاقاته، «مجرد جزئي»، وبالتالي مجرد تجريد آخر. وإذا تأمَّلنا الجزئي عينيًّا كما هو في حقيقته، لَمَا كان له وجود إلا في علاقاته بكل ما يحيط به. وفي مثل هذا الفهم للجزئي، لا يعود منظورًا إليه على أنه «جوهر» أو «شيء»، ويصبح عمليةً حادثة دائمة التغيُّر. ولهذا السبب كان «الوعي التاريخي» هو وحده الذي يدرك الواقع كما هو؛ أي من حيث هو عملية صيرورة.
ففلسفة هيجل إذن فلسفة تغيُّر، شأنها شأن تفكير هرقليطس، الفيلسوف القديم السابق على سقراط، والذي كان هيجل شديد الإعجاب به. ومع ذلك فبين الاثنَين فوارق هامة؛ فهرقليطس يرى أن «الدُّوامة هي السائدة»، غير أن الاستعارة توحي بأن هرقليطس، مثله مثل معظم الفلاسفة اليونانيين الآخرين، قد اعتقد بأن التغيُّر خاضع لمبدأ عاقل (لوجوس) أو قانون هو ذاته ثابت لا يتغيَّر. أمَّا هيجل فقد نظر إلى التاريخ على أنه يعني التطور، وكل عملية تاريخية هي شيء جديد تحت الشمس، وليس ثمة شيء مشابه تمامًا لأي شيء سابق عليه. وعلى كل قانون صحيح للتغيُّر التاريخي أن ينظر إلى هذا التغيُّر، لا على أنه تعاقب لدورات من التغيُّر أزلية العَود، بل على أنه تطوُّر تدريجي تُعد كل مرحلة أو «لحظة» فيه (حسب تعبير هيجل) نتيجةً ضرورية لِمَا قبلها ومختلفةً أساسًا عنه.
ومن المؤسف أن نظرية هيجل في التطوُّر التاريخي لا يمكن أن تُفهم فهمًا كاملًا دون إشارة إلى ديالكتيكه أو «منطقه» الشاذ، ولعلنا نذكر أن كانت قد رأى أن العقل الخالص عندما يحاول أن يمد تطبيق مقولات كالعلة والمعلول إلى ما وراء التجربة، ينتهي حتمًا إلى تناقضات لا سبيل إلى رفعها. ولذا رأى أن النظر الميتافيزيقي في العلة النهائية للأشياء هو بحث عقيم تمامًا. ومع ذلك فقد كان في وسعه أن يسير في الطريق الأكثر جسارة، والأكثر تسرُّعًا في نظر معظم الفلاسفة، ألَا وهو قَبول هذه المتناقضات بوصفها معبِّرة، بذاتها، عن طبيعة الأشياء. وذلك في الحق هو الطريق الذي سار فيه هيجل؛ فقد استعان هيجل بفشته إلى حدٍّ ما في تحويل مذهب كانت في التعارض الديالكتيكي المحتوم للقضايا الميتافيزيقية — وهو التعارض الذي عدَّه كانت علامةً لا تخيب على خداع الميتافيزيقا — إلى منطق جديد للحقيقة الفلسفية. فالتقابل الديالكتيكي عند هيجل يميِّز كل تفكير صحيح عن الواقع. وكل قضية، كما رأى كانت، تولِّد قضيتها المضادة. والأمر الذي غاب عن ذهن كانت هو أن من الممكن النظر إلى القضية والقضية المضادة على أنهما صحيحتان إذا ما فُهمت الاثنتان، في ضوء جديد، على أنهما تعبيران ناقصان عن قضية أعلى وأشمل، تضم ما له أهمية في كلٍّ منهما. مثل هذه القضية هي ما يُطلِق عليه هيجل اسم «القضية المركَّبة».
وربما لن يُدهش القارئ إذ يعلم بعد هذا كله أن هيجل يُتهم في كثير من الأحيان بمناقضة نفسه في كل مناسبة. ولا شك في أن هذا يحدث بالفعل، ولكنه يستطيع على الأقل أن يؤكِّد المزايا الكامنة في عيوبه هذه؛ فالتناقض عنده ليس علامةً على التخبُّط العقلي، وإنما علامة على القدرة الإبداعية والبصيرة. وعلى الفيلسوف الحق أن يرحِّب به بوصفه حافزًا على تكوين مركب جديد يكون أصدق تمثيلًا لموضوعه. وليس للتناقض الذاتي، بالنسبة إلى البشر، نهاية، وبالتالي فلا نهاية للتطوُّر العقلي. فإذا لم يكن أمام الذهن البشري مكان نهائي يسكن إليه، ففي وسعنا أن نُعزِّي أنفسنا إذ نتذكَّر، على الأقل، أن أفكارنا تتسع في نطاقها وترتفع في مستواها. ولا شك أن هناك ذلك المطلق الذي نظر إليه هيجل، بطريقته الشاذة، على أنه الحقيقة العينية الوحيدة، ولكنا لا نستطيع الوصول إليه إلا على نحو مجرد، بوصفه مثلًا أعلى لا يُتوصَّل إليه.
ولكن لهذه الفكرة وجهًا آخر؛ ذلك لأنه إذا كان في وسعنا فهم «فكرة» اليونان أو المسيحية أفضل من اليونانيين القدماء والمسيحيين أنفسهم (نظرًا إلى موقعنا في التاريخ)، فليس في استطاعتنا أن نحيا حياتهم من جديد، أو أن نعيد إقامة الظروف الحضارية للمجتمعات التي عاشوا فيها. وهكذا فإن هيجل، رغم إعجابه الشديد باليونانيين، لم تكن تشوب فكره أية شائبة من تلك «العقلية العتيقة» كما أسماها المؤرخ توينبي، وهي العقلية التي تميِز أولئك الذين يرجعون القَهقَرى، بفكرهم، إلى حضارة سابقة ما يعدونها العصر الذهبي. كذلك عدَّ هيجل نفسه «مسيحيًّا»، ولكن فلسفته لم يكن فيها أثر لذلك التعلُّق بالعصور الوسطى، الذي تميَّز به كثير من رومانتيكيي عصره.
والتاريخ عند هيجل عملية ديالكتيكية وروحية معًا، وهكذا نظر إليه على أنه التكشُّف أو التطور الذاتي الديالكتيكي لِمَا هو غير مشروط على الإطلاق؛ أي للمطلق ذاته، وهذا يعني، بتعبير أكثر عبثية، أن من الواجب النظر إلى التغيُّر التاريخي على أنه صراع مستمر نحو الحرية الروحية للبشر. وكل مرحلة في هذه العملية هي مرحلة (أعلى) بالنسبة إلى ما سيتلوها. ولو نظرنا إلى الأمور من وجهة نظر ما سيحدث، فإن أي شيء يبدو أنه يقاوم التغيُّر هو، بهذا المعنى، شر، ولكنه، من حيث هو تحقيق واكتمال لِمَا سبقه، هو، بهذا المعنى، خير. ومن الشائع أن يُنظر إلى هيجل على أنه محافظ متطرِّف، وهو بالفعل قد أخذ في سنواته الأخيرة يزداد تأكيدًا لأهمية التراث والنظم الثابتة بوصفها نواقل للحضارة. غير أن تفكيره، كما رأى ماركس فيما بعد، ينطوي أيضًا على جانب ثوري، ومذهبه ذاته يرى في حتمية تغيُّر كل تراث وكل نظام مجرَّدَ حقيقة من حقائق الحياة. والواقع أن فلسفة هيجل محافظة وثورية في آنٍ واحد. ولقد كان هيجل نفسه يميل شخصيًّا إلى الجانب المحافظ، غير أنه كان في الوقت ذاته شاعرًا بأن العصر الذي كان يمثِّل روحه كان موشكًا على الزوال.
ومع ذلك فإننا إذا فهمنا الطابع الديالكتيكي للتطوُّر التاريخي، فلن يؤدي هذا الوعي التاريخي إلى حرماننا من الشعور بفرديتنا أو بالفوارق بين أحوالنا وأحوال من سبقونا. وليست الدلالات الروحية للسِّجل التاريخي شيئًا «معطًى»، وإنما هي نتيجة نظر فلسفي. وبالمثل فإن «الضرورة» المنسوبة إلى التقدُّم الديالكتيكي للبشر خلال العصور ليست مجرد واقعة «اعتباطية» أخرى نجدها هناك على نفس النحو الذي نكتشف به أن قيصر كان أصلع. بل إن من المحال عندما نقرأ التاريخ قراءةً «آلية» على أنه مجرد حوادث جزئية متعاقبة، أن ندرك أية ضرورة فيه. «فالضرورة»، كما لاحظ كانت، هي تصوُّر عقلي ينبغي أن نقرأه نحن أنفسنا في هذا السجل. وكما قال فشته، فليس من الممكن أن يُعزى إلى التاريخ أي مقصد أو أية ضرورة إلا لأننا نريد أن ننظر إلى التاريخ من خلال صورة الروح أو العقل. وإذا كُنا ننسب إلى هذا التفسير الروحي «واقعية»، فينبغي أن نذكر أن الواقعية عند هيجل ليست شيئًا في ذاته نهتدي إليه بمجرَّد التطلُّع، وإنما هو تركيب مثالي للروح ذاتها.
وفي فلسفة هيجل فكرتان هامتان أخريان تستحقان التنويه؛ إحداهما هي فهمه للحرية. فكثيرًا ما انتُقد هيجل لتغييره مفهوم الحرية تغييرًا أساسيًّا؛ إذ إنه عندما يختم وصفه لها، لا يكون قد تبقَّى من معناها المعتاد إلا النزر اليسير. ولكن مرد ذلك إلى أنه قد نظر إلى هذا التصوُّر، كما نظر إلى غيره، نظرةً ديالكتيكية، وهي نظرة تتجه فيها أية فكرة، إذا ما فُهمت فهمًا كافيًا، إلى ضدها. وينظر هيجل إلى المسألة على النحو الآتي؛ فالمرء ينظر في البداية إلى الحرية على أنها فعل لِمَا يحلو له. ويعتقد هيجل أن هذا الفهم للحرية هو أكثر التجريدات هزالًا، وهو خالٍ من أي معنًى أخلاقي. وإنما الحرية عنده قدرة المرء على تحقيق ذاته، وليست الذات أنا محضًا، وإنما هي من الوجهة العينية، شخصية ذات ميول وقدرات مُحدَّدة. ويتوقَّف كُنه هذه الميول والقدرات تمامًا على ما يتلقَّاه الفرد من المجتمع الذي يعيش فيه من تدريب وتعليم. وإذن فأول خطوة نحو معرفة المرء لذاته وتثقيفه لذاته هي اعتراف المرء بانتمائه إلى مجتمع متطوِّر تاريخيًّا، وعلى هذا النحو وحده يهتدي المرء إلى ذاته بوصفه كائنًا بشريًّا متكاملًا؛ فالشخص الحر هو ذلك الذي يعرف كيف يفرض بنفسه على نفسه تلك الواجبات والمسئوليات التي تُحمِّلها إياه الدولة، وهي في نظر هيجل أعلى النظم الاجتماعية.
وفي فلسفة هيجل شواهد تدل على أن عقليته كانت بيروقراطيةً إلى حد بعيد، غير أن خصومه من النقاد قد بالغوا دون شك في صبغ مذهبه في الحرية بالصبغة المضادة للفردية والتحرُّرية، وكذلك في إضفاء طابع مطلق على مذهب الدولة لديه. صحيح أن هيجل قد نظر إلى الدولة على أنها تُجسِّد للحرية العاقلة، كما تُحقِّق ذاتها وتعرف ذاتها في صورة موضوعية. فالدولة كما يقول هي فكرة الروح في التجلِّي الخارجي للإرادة البشرية وحريتها، غير أن هذه الصور «الموضوعية» للحرية ليست هي صورها الوحيدة. ولا يمكن بلوغ أعلى صور الحضارة البشرية إلا في الفن والدين والفلسفة، التي وصفها هيجل بأنها المظاهر البشرية «للروح المطلقة»؛ فتلك مجالات للحياة الروحية تضع قوانينها لذاتها. وليس لأي نظام سياسي محض أي سلطان على تطوُّرها الباطن.
بقيت لنا كلمة عن فلسفة الدين عند هيجل؛ فقد وُلد هيجل لوثريًّا، وكان في نيته، كما قال ذات مرة، أن يموت كذلك. غير أن مسيحيته لا شأن لها بالنزعة إلى التمسُّك بأصول الدين؛ ذلك لأن هيجل، شأنه شأن كثير من المسيحيين «المتحرِّرين» الذين كان تأثيره عليهم هائلًا، لم ينظر إلى الإنجيل على أنه سِجل لحقائق تاريخية، وإنما على أنه كتاب من الرموز لا يمكن فهم معناه الباطن على النحو الصحيح إلا بعد قدر كبير من التفسير الفلسفي. وليست مسألة وجود الله، كما تُفهم عادة، بالمشكلة في نظره. وهذا لا يعني أن على الذهن العقلي أن يتخلَّى عن الدين عامةً أو عن المسيحية خاصة، بل إن الدين عند هيجل «يستبق الفلسفة»، «وما الفلسفة إلا دين واعٍ»، وعلى ذلك فهو ينظر إلى فكرة التجسد المسيحية على أنها تعبير أسطوري متقدِّم عن فلسفته هو، وهي الفلسفة التي ترى في التاريخ تجسُّدًا تدريجيًّا للروح المطلقة. وهكذا فإن ما يعرفه الإنجيل في صورة مجازية على أنه «وحي»، هو بعينه ما يحاول هيجل تبريره في صورة أكثر نقدية أو معقولية. والعنصر المشترك بين الاثنَين هو الحاجة الدينية إلى تبرير التاريخ البشري في مجموعه، والنظر إليه على أنه يزيد عن كونه «أسطورةً لا معنى لها يرويها مخبول».
على أن هناك فلاسفةً مسيحيين آخرين في القرن التاسع عشر لم يتمكنوا، كما سنرى فيما بعد، من السير في الطريق الذي مهَّده هيجل؛ فقد نظر بعضهم إلى تفسيره العقلي لفكرة المسيح في الكتب المقدسة على أنه مجرد خطوة أخرى نحو صبغها بصبغة دنيوية، ومن ثم نحو القضاء على الحضارة المسيحية بعد ذلك. ففي رأيهم أن طريقة تفسير الإنجيل تتجاوز تمامًا تلك الادعاءات الوجودية الجدية التي ينطوي عليها ذلك الكتاب. ولقد اتهمه خصمه الأكبر، كيركجورد، صراحةً بأنه كان في قرارة نفسه ملحدًا يُخفي تجديفه وراء قناع من الرموز. ﻓ «مسيحية» هيجل كانت في نظر كيركجورد نموذجًا لمسيحية الدنيوي البرجوازي، الذي يسعى إلى التمتع بصفة مسيحية غامضة، بينما يرفض في الوقت ذاته التقيُّد بأيٍّ من التزامات العقيدة المسيحية.
ويمكن القول، دفاعًا عن هيجل، إن نظرة المسيحية الأولى إلى العالم لم تعد، في رأيه اختيارًا حيًّا للأذهان المفكِّرة التي ظهرت بعد عصرَي العقل والتنوير. والسبيل الوحيد إلى بقاء هذه الأذهان مسيحية، هو الأخذ بتلك المبادئ التي تنطوي عليها فلسفته الدينية. فاستحالة العودة إلى المنظور الديني للمسيحية الأولى لا تقل، من وجهة نظر هيجل، عن استحالة إحياء النظم السياسية اليونانية القديمة. وعلى الرغم من كل ما قاله هيجل عن المطلق، فقد كان عمق وعيه التاريخي — وبالتالي النسبي — من أكبر العوامل المنفردة التي أدَّت في القرن التاسع عشر إلى تدهور النزعة المطلقة الدينية والفلسفية. ولقد بلغ من سخرية الأقدار من نوايا هيجل، أن القضاء على المطلق قد تم، إلى حد بعيد، على يدَيه هو ذاته.
•••
وسأكتفي هنا بذكر صورتَين ووجهتَي نظر تتعلقان بالاعتقاد المنتشر عامةً بأن العقل قد ساد العالم وما زال يسوده، وبالتالي ساد تاريخ العالم؛ ذلك لأنهما يتيحان لنا في آنٍ واحد فرصةً للقيام باختبار أدق للمسألة الرئيسية التي تتمثَّل فيها أعظم صعوبة، ولإيضاح ما سيكون علينا التوسع فيه فيما بعد.
•••
أمَّا الصورة الأخرى التي ظهرت فيها هذه الفكرة القائلة إن العقل يوجِّه العالم — في صدد تطبيقٍ آخر لها، معروف لنا جيدًا — فهي صورة الحقيقة الدينية، القائلة إن العالم ليس متروكًا للاتفاق وللعلل العَرَضية الخارجية، وإنما تتحكَّم فيه عناية إلهية.
•••
غير أننا في تاريخ العالم نتعامل مع أفراد هم شعوب أو مجموعات كلية، هي دول؛ ولذلك فليس لنا أن نقنع بما يمكننا أن نسميه هذه النظرة المحدودة إلى العناية، التي يقتصر عليها الاعتقاد المشار إليه. كذلك لا يمكن الاكتفاء بالاعتقاد البحت، المجرد، غير المحدد، في عناية، بالمعنى العام، دون ربط بين ذلك الاعتقاد وبين تفصيلات الفعل الذي تقوم به هذه العناية. بل إن حماستنا ينبغي أن تتجه إلى التعرُّف على الطرق التي تسلكها العناية، والوسائل التي تستخدمها، والظواهر التاريخية التي تتبدَّى فيها، وعلينا أن نوضِّح ارتباط هذا كله بالمبدأ العام الذي أشرنا إليه. ولكني، إذ أشرت إلى الاعتراف بخطة العناية الإلهية عامة، قد عرضت ضمنًا لمسألة هامة من مسائل اليوم؛ أي مسألة إمكان معرفة الله، أو على الأصح — طالما أن الرأي العام لم يعد يسمح بجعلها موضوع سؤال — المذهب القائل إن من المستحيل معرفة الله. فعلى العكس تمامًا ممَّا يقول الكتاب المقدس إنه الواجب الأسمى — أي إننا ينبغي أن نعرف الله، لا أن نحبَّه فحسب — فإن الفكرة السائدة الآن تنطوي على إنكار ما يُقال في ذلك الكتاب من أن «الروح» هي التي توصل إلى «الحقيقة»، وهي التي تعرف كل الأشياء، وتتغلغل حتى في أعماق الألوهية. وبينما يؤدِّي هذا إلى وضع الوجود الإلهي فوق معرفتنا، وخارج حدود الأمور البشرية، فإن المرء يتمتع في هذه الحالة بحرية التنقُّل كما يشاء، في الاتجاه الذي تشاؤه تخيُّلاته. وهكذا يتحرَّر المرء من الالتزام بربط معرفته بما هو إلهي وحقيقي. ومن جهة أخرى، فإن الغرور والأنانية اللذَين يميِّزان هذه المعرفة، يجدان في هذا الموقف الباطل مبرِّرًا قويًّا، كما أن التواضع التقي الذي يجعل معرفة الله بعيدةً عنها، يستطيع حقًّا أن يُقدِّر مدى الكسب الذي سيعود من ذلك على مطامحه الباطلة الغريرة. والواقع أني لم أشأ أن أترك الكلام عن الارتباط بين رأينا القائل بأن العقل كان وما يزال يحكم العالم، وبين مسألة إمكان معرفة الله، وذلك، قبل كل شيء، حتى لا أُفوِّت فرصة ذكر ذلك الادعاء الموجَّه إلى الفلسفة بأنها مُقصِّرة أو مضطرة إلى التقصير عن إدراك الحقائق الدينية، أو لا تملك فرصة إدراك هذه الحقائق، وهو ادعاء ينطوي على إيعاز بالشك في حسن نية الفلسفة إزاء هذه الحقائق. على أن حقيقة الأمر غير ذلك تمامًا، بل إن الفلسفة قد اضطُرت في الآونة الأخيرة إلى الدفاع عن ميدان الدين ضد هجمات عدة مذاهب لاهوتية، ففي العقيدة المسيحية تكشَّف الله — أي جعل الإنسان يفهم ما هو الله، بحيث لم يعد وجوده محتجبًا أو خفيًّا. وهذه القدرة المتاحة لنا لمعرفته، تجعل مثل هذه المعرفة واجبة؛ فالله لا يريد لخلقه أن يكونوا من ذوي النفوس الواهنة أو الرءوس الفارغة، بل يريد أُناسًا تكون نفوسهم فقيرةً بذاتها، ولكنها غنية بمعرفته، أُناسًا يعدون معرفة الله ذخيرتهم الوحيدة. هذا التطوُّر للروح المفكرة، الذي نشأ من تكشُّف للوجود الإلهي بوصفه أساسه الأصلي، لا بد أن يمتد آخر الأمر إلى الفهم الفكري لِمَا كان ماثلًا أول الأمر، للروح الشاعرة المتخيَّلة، ولا بد أن يأتي وقت يفهم فيه هذا الناتج الزاخر للعقل الإيجابي، الذي يُتيحه لنا تاريخ العالم. ولقد كان الشائع في وقت من الأوقات إبداء الإعجاب بحكمة الله كما تتبَّدى في الحيوانات والنباتات والحوادث المنفردة. ولكن، إذا سلَّمنا بأن العناية تتمثَّل في مثل موضوعات الوجود وصوره هذه، فلماذا لا نسلِّم بوجودها أيضًا في التاريخ العالمي؟ إن هذا الأخير يُعد أضخم من أن يخضع للعناية. غير أن الحكمة الإلهية؛ أي العقل، هي بعينها فيما هو كبير وما هو صغير، وعلينا ألَّا نتصوَّر الله على أنه أضعف من أن يمارس حكمته على النطاق الضخم. والغاية التي تستهدفها معرفتنا هي تحقيق الاعتقاد بأن ما قصدَته الحكمة الأزلية، قد تحقَّق فعلًا في مجال الروح الإيجابية الفعالة في العالم، مثلما تحقَّق في مجال الطبيعة الخالصة؛ فبحثنا في هذا الموضوع هو، من هذه الناحية، «ثيوديسية»؛ أي تبرير للمسالك الإلهية، مماثل لذلك الذي حاول ليبنتس القيام به، بطريقة ميتافيزيقية، في منهجه؛ أي بمقولات مجردة غير مُحدَّدة؛ لكي يستطيع عن طريقه فهم الشر الموجود في العالم، والتوفيق بين الروح المفكِّرة وبين وجود الشر. والواقع أن مثل هذه النظرة التوفيقية هي ألزم ما تكون في مجال التاريخ العالمي، ولا يمكن الوصول إليها إلا بالاعتراف بالوجود الإيجابي الذي يخضع له، ويتلاشى فيه، هذا العنصر السلبي. فلا بد من جهةٍ أن يدرك أن هذا القصد النهائي من العالم، ولا بد من جهة أخرى أن يدرك أن هذا القصد قد تحقَّق فيه بالفعل، وأن الشر لم يتمكَّن من أن يضمن لنفسه على الدوام مركزًا يسمح له بمزاحمته.
إن السؤال عن مصير العقل في ذاته يعادل — بقدر ما يكون ذلك العقل مرتبطًا بالعالم — السؤال عن الغاية القصوى للعالم. وهذا التعبير الأخير ينطوي على القول بأن هذا الغرض مقصود منه أن يتحقَّق. وهنا تعرض لنا مسألتان للبحث؛ أولاهما هي دلالة هذه الغاية القصوى؛ أي تعريفها بما هي كذلك. وثانيها هو تحقيقها.
فأولًا ينبغي أن يلاحظ أن موضوع بحثنا — أي التاريخ العالمي — ينتمي إلى مجال الروح، ويشمل لفظُ «العالم» الطبيعة المادية والنفسية؛ فللطبيعة المادية هي الأخرى دَور تقوم به في تاريخ العالم، ولا بد من توجيه الاهتمام منذ البداية إلى العلاقات الطبيعية الأساسية التي ينطوي عليها مثل هذا الدور. غير أن الروح، ومجرى تطوُّرها، هي الأساسية. ومهمتنا لا تقتضي منا تأمُّل الطبيعة بوصفها نسقًا عاقلًا في ذاته — وإن تكن تُثبت في مجالها الخاص أنها بالفعل كذلك — من حيث علاقتها بالروح فحسب. والروح تتكشَّف على حقيقتها الأكثر عينيةً في ذلك المسرح الذي نلاحظها منه؛ أي في التاريخ العالمي. ورغم ذلك (أو بالأحرى، من أجل فهم المبادئ العامة التي تتضمَّنها فاعليتها العينية هذه) ينبغي علينا أن نفترض مُقدَّمًا بعض الخصائص المجردة عن طبيعة الروح. على أن من المحال أن يتخذ هذا الشرح هنا أية صورة سوى صورة التأكيد المحض. فليس هنا مجال للكشف نظريًّا عن فكرة الروح؛ إذ إن الموضوع الذي يحتل مكانًا في مقدمة ينبغي، كما لاحظنا من قبل، أن يُنظر إليه على أنه تاريخي فحسب؛ أي أن يؤخذ على أنه شيء شُرح وأُثبت في موضع آخر، أو سيثبت إثباتًا لاحقًا في علم التاريخ ذاته.
- (١)
الخصائص المجردة لطبيعة الروح.
- (٢)
والوسائل التي تستخدمها الروح لتحقيق فكرتها.
- (٣)
وأخيرًا، ينبغي أن ننظر في الشكل الذي يتخذه التحقُّق الكامل للروح؛ أي الدولة.
-
(١)
يمكن إدراك طبيعة الروح بتأمُّل ضدها التام، وهو المادة. وكما أن ماهية المادة هي الثقل (الجاذبية)، فعلينا أن نقول إن جوهر الروح وماهيتها هي الحرية. وإن كل شخص ليوافق دون عناء على الرأي القائل بأن الحرية صفة من صفات الروح، غير أن الفلسفة تذكر أن جميع خصائص. الروح لا توجد إلا من خلال الحرية، وأن هذه الخصائص لا تعدو أن تكون وسيلةً لبلوغ الحرية، وأنها كلها تسعى إلى بلوغ الحرية، والحرية وحدها. فالنظر الفلسفي يُفضي إلى القول إن الحرية هي الحقيقة الوحيدة للروح. والمادة تتصف بالثقل نظرًا إلى اتجاهها نحو نقطة مركزية. وهي مُركَّبة بالضرورة، تتألَّف من أجزاء يستبعد كل منها الآخر. وهي تسعى إلى وحدتها، وبالتالي تتبدَّى قاضيةً على ذاتها، وساعيةً إلى ضدها (أي النقطة غير المنقسمة). ولو أمكنها أن تصل إلى ضدها هذا، لَمَا عادت مادة، ولقضت على ذاتها؛ فهي تسعى إلى تحقيق حالتها الفكرية أو المثالية؛ ففي الوحدة يكون وجودها فكريًّا أو مثاليًّا.
أمَّا الروح فيمكن تعريفها بأنها ما يوجد مركزه في ذاته. فليست لها وحدة خارجها، بل إنها تملك بالفعل وحدتها، وهي توجد في ذاتها ومع ذاتها. وعلى حين أن ماهية المادة توجد خارجها، فإن الروح وجود مع ذاته. وهذه هي الحرية بعينها؛ إذ إنني عندما أكون غير مستقل، يكون وجودي مرتبطًا بشيء آخر مختلف عني، ولا أستطيع أن أوجَد مستقلًّا عن شيء خارجي. وعلى العكس من ذلك، فإني أكون حرًّا عندما يتوقَّف وجودي على ذاتي. وما وجود الروح المنطوي على ذاته هذا سوى الشعور بالذات؛ أي شعور المرء بوجوده. وعلينا أن نميِّز بين أمرَين في الشعور:
أولهما كوني أعرف، وثانيهما ما أعرفه. أمَّا في الشعور بالذات، فالأمر أن يندمجان في شيء واحد؛ إذ تعرف الروح ذاتها، ويكون في ذلك حكم لها على طبيعتها الخاصة، كما أن فيه فاعليةً تُتيح لها تحقيق ذاتها، وجعلها بالفعل ما تكونه بالقوة. ويمكن القول، على أساس هذا التعريف المجرَّد، إن التاريخ العالمي عرضٌ للروح وهي تستخلص معرفة ذلك الذي تكونه في ذاتها. وكما تنطوي البذرة في ذاتها على طبيعة الشجرة بأسرها، وعلى طعم ثمارها وشكلها، فكذلك تنطوي أول آثار الروح بالقوة على ذلك التاريخ بأسره؛ فالشرقيون لم يصلوا إلى المعرفة القائلة إن الروح — أي الإنسان بما هو كذلك — حرة، ولعدم توافر هذه المعرفة لديهم، فإنهم لم يكونوا أحرارًا، وكل ما عرفوه هو أن فردًا مُعيَّنًا حر. غير أن حرية هذا الفرد تغدو؛ لهذا السبب ذاته، مجرد نزوة، وهمجية، واندفاع وحشي للانفعال، أو اعتدال وكبح للرغبات، هو في ذاته عَرَض من أعراض الطبيعة، وبالتالي فهو نزوة كسابقه. وإذن فهذا الفرد ليس إلا طاغية، لا إنسانًا حرًّا. ولم يظهر الشعور بالحرية لأول مرة إلا لدى اليونانيين؛ ولذا كانوا أحرارًا، غير أنهم، كالرومان، لم يدركوا إلا أن البعض وحدهم هم الأحرار، لا الإنسان بما هو كذلك. بل إن أفلاطون وأرسطو ذاتهما لم يدركا ذلك؛ ولذا كان لدى اليونانيين رقيق، وكانت حياتهم بأسرها، وكذلك كان الاحتفاظ بحريتهم الرائعة، مرتبطَين بنظام الرِّق، وهي حقيقة أدَّت فضلًا عن ذلك، إلى جعل تلك الحرية نموًّا عرضيًّا عابرًا محدودًا من جهة، وجعلت منها من جهة أخرى، عبوديةً صارمة لِما هو بشري؛ أي إنساني. ولقد كانت الأمم الألمانية، بتأثير المسيحية، أول من وصلت إلى الشعور بأن الإنسان، بما هو إنسان، حر، وإلى أن حرية الروح هي التي تكون ماهيتها. وقد ظهر هذا الشعور، أول ما ظهر، في الدين، وهو أشد مجالات الروح تغلغلًا، غير أن إدخال هذا المبدأ في مختلِف علاقات العالم الفعلي ينطوي على مشكلة أوسع نطاقًا من مجرد تنفيذ هذا المبدأ، فتلك مشكلة يحتاج حلها وتطبيقها إلى عملية حضارية شاقة طويلة الأمد. والدليل على ذلك، مثلًا، أن الرِّق لم ينتهِ بعد قَبول المسيحية مباشرة، كما لم تسُد الحرية بين الدول، ولم تتخذ الحكومات ولا الدساتير تنظيمًا عقليًّا، أو تعترف بالحرية أساسًا لها. بل إن هذا التطبيق للمبدأ على العلاقات السياسية، وتشكيل هذا المبدأ لتركيب المجتمع وتغلغله فيه، هو ذاته ذلك المسار الطويل الأمد، الذي يكوِّن التاريخ ذاته. ولقد سبق لي التنبيه إلى التمييز المتضمَّن هنا، بين المبدأ في ذاته وبين تطبيقه؛ أي الأخذ به وتنفيذه في الظواهر الفعلية للروح والحياة. وتلك نقطة لها أهميتها الكبرى في علمنا، وينبغي أن نذكر على الدوام أنها أساسية. وكما أن هذا التمييز قد استرعى الانتباه في صدد المبدأ المسيحي القائل إن الشعور بالذات والحرية شيء واحد، فإنه يتمثَّل أيضًا بصورة أساسية في صدد مبدأ الحرية بوجه عام. وما تاريخ العالم إلا تقدُّم الشعور بالحرية، وهو التقدُّم الذي يتعيَّن علينا هنا تتبُّعه في ضرورته الكامنة.
•••
في رأينا أن مصير العالم الروحي، بل الغاية القصوى للعالم بأسره — إذ إن العالم الروحي هو العالم الأهم، في حين يظل العالم المادي خاضعًا له، أو بلغة النظر الفلسفي، لا تكون له حقيقة في مقابل الروحي — إنما هو شعور الروح بحريتها، وبالتالي حقيقة هذه الحرية. غير أن العصور الحديثة قد أدركت بوضوح يفوق إدراك كل ما عداها من العصور، أن لفظ «الحرية» هذا، إن لم يلحقه وصف آخر، يظل لفظًا غامضًا، غير محدد، ولا يُعوَّل عليه. وأنه، في حين أن مدلوله هو أقصى ما يُطمح في الوصول إليه، فإنه مُعرَّض لشتى أنواع سوء الفهم والخلط والخطأ، ومُعرَّض لأن يكون موضوعًا لجميع أنواع التطرُّف الخيالي. ومع ذلك فلِزام علينا، في الوقت الحالي، أن نقنع باللفظ ذاته دون مزيد من التعريف. ولقد نبَّهنا أيضًا إلى أهمية الفارق الهائل بين المبدأ مجردًا، وبين تحقيقه عينيًّا. وفي مجالنا هذا سوف تُعرض الطبيعة الأساسية للحرية — التي تنطوي في ذاتها على ضرورة مطلقة — على أنها الوصول إلى شعور بالذات (إذ إنها تبعًا لتصوُّرها ذاته معرفة بذاتها)، وعلى أنها تُحقِّق بذلك وجودها؛ فهي ذاتها الهدف الذي تسعى إلى بلوغه والهدف الوحيد للروح. وتلك هي النتيجة التي ظلَّت عمليةُ التاريخ العالمي تستهدفها على الدوام، والتي قُدِّم من أجلها من القرابين ما ظل يوضع دون انقطاع على مذبح الأرض الواسعة، طوال الأحقاب التاريخية الطويلة.
وهذا هو الهدف الوحيد الذي يرى ذاته متحققًا ومنفذًا، وهو القطب الوحيد الساكن وسط التغيُّر الدائم للحوادث والظروف، والمبدأ الوحيد الفعال الذي يسودها.
وهذه الغاية القصوى هي مقصد الله من العالم، غير أن الله موجود مطلق الكمال، ولا يمكن بالتالي أن يرغب في شيء سوى ذاته، وإرادته؛ فطبيعة إرادته؛ أي طبيعته ذاتها، هي ما نسميه هنا بفكرة الحرية، هذا إذا ترجمنا لغة الدين إلى لغة الفكر.
وإذن فالسؤال الذي يحق لنا أن نُوجِّهه بعد ذلك مباشرةً هو:
ما هي الوسائل التي يستخدمها مبدأ الحرية هذا لتحقيق ذاته؟ تلك هي النقطة الثانية التي يتعيَّن علينا بحثها.
-
(٢)
هذا السؤال عن الوسيلة التي تكشف بها الحريةُ عن ذاتها في العالم يؤدِّي بنا إلى ظاهرة التاريخ ذاته. ورغم أن الحرية ذاتها تصوُّر منطوٍ على ذاته، فإن الوسائل التي تستخدمها خارجية وظاهرية، تتكشَّف وتتجلَّى لأعيننا مباشرةً في التاريخ. وإن النظرة الأولى إلى التاريخ لتقنعنا بأن أفعال الناس مبعثها حاجاتهم وعواطفهم وطباعهم ومواهبهم؛ وتبعث فينا الاعتقاد بأن هذه الحاجات والعواطف والاهتمامات هي المصادر الوحيدة للفعل؛ فهي العلل الفاعلة على مسرح الفاعلية هذا. وربما وُجدت ضمن هذه أهداف عامة مُتحرِّرة، كالخيرية أو الوطنية النبيلة، غير أن مثل هذه الفضائل والمواقف العامة ضئيلة القيمة بالقياس إلى العالم ونواتجه، وربما أمكننا أن نُدرك المثل الأعلى للعقل مُتحقِّقًا فيمن يستهدفون مثل هذه الأهداف، وفي مجال تأثيرهم، غير أن نسبتهم في الحق إلى مجموع البشر ضئيلة، وبهذا القدر نفسه يكون تأثيرهم محدودًا. أمَّا العواطف والغايات الشخصية، وإرضاء الرغبات الأنانية؛ فهي أقوى الدوافع إلى الفعل. وتكمن قوتها في أنها لا تتقيَّد بواحد من القيود التي تفرضها عليها العدالة والأخلاقية وفي أن لهذه الدوافع الطبيعية تأثيرًا أقرب إلى الإنسان من تأثير النظام الشاق المصطنع، الذي يُوجِّه الإنسان إلى الطاعة وضبط النفس والقانون والأخلاقية. وعندما نتأمَّل معرض مسرح الانفعالات هذا، ونتائج عنفها، واللاعقلية التي ترتبط، لا بها فحسب، بل بالمقاصد الحسنة والنوايا الطيبة ذاتها (أو بالأحرى ترتبط بهذه الأخيرة بوجه خاص)، وعندما نتأمَّل الشر والرذيلة والدمار الذي لحق أكثر مجالات الروح البشرية ازدهارًا؛ عندئذٍ لا يسع نفوسَنا إلا أن تفيض أسفًا على لطخة الفساد الشامل هذه. ولمَّا كان إحداث هذا الفساد لا يقتصر على الطبيعة وحدها، بل تشترك فيه الإرادة البشرية أيضًا، فإن النتيجة التي يُفضي إليها تفكيرنا قد تكون شعورًا بالمرارة الأخلاقية وثورةً من الروح الخيِّرة (إن كان لا يزال لها فينا وجود). ويمكن القول، دون أية مبالغة بلاغية، إن مجرد الجمع بين مظاهر البؤس التي قهرت أقل الأمم والمدن، وأفضل أمثلة الفضيلة الشخصية، يؤلِّف صورة مخيفة إلى أقصى حد، ويثير انفعالات الحزن الذي لا يعادله حزن آخر في عمقه ويأسه، ولا تعوِّضه أية نتيجة مواسية. وهكذا نتحمَّل عند تأمُّلنا لهذه الصورة عذابًا عقليًّا لا يقبل دفاعًا أو مهربًا سوى القول بأن ما حدث قد حدث على هذا النحو وانتهى الأمر، وأنه قَدَر، وأنه ما كان في الإمكان رده، وينتهي بنا الأمر إلى الارتداد من ذلك الاشمئزاز الذي لا يطاق، والذي تُهدِّدنا به هذه الأفكار، إلى مجال حياتنا الفردية الحبيب إلى نفوسنا، إلى «الحاضر» الذي تكوِّنه غاياتنا ومصالحنا الشخصية. ولكن حتى لو نظرنا إلى التاريخ على أنه المذبح الذي ضُحِّيت من أجله سعادة الشعوب وحكمة الدول وفضيلة الأفراد، فلا بد أن يُثار، رغمًا عنا، السؤال التالي: لأي مبدأ، ولأي هدف نهائي، قُدِّمت هذه التضحيات الهائلة؟ من هذه النقطة ينتقل البحث عادةً إلى ذلك الذي جعلنا منه بدايةً عامة لمعالجتنا للموضوع؛ فقد بدأنا من هذه النقطة، وأشرنا إلى تلك الظواهر التي تكوِّن صورةً توحي بقدر كبير من الانفعالات الكئيبة والتأملات الفكرية، بوصفها عين الميدان الذي نعتقد أنه يكشف عن وسيلة تحقيق ما نؤكِّد أنه المصير الأساسي، والهدف المطلق، أو — بنفس المعنى — النتيجة الصحيحة لتاريخ العالم. ولقد تعمَّدنا خلال هذا كله اتخاذ «التأملات الأخلاقية» منهجًا للارتقاء من مجال الحوادث التاريخية الخاصة إلى المبادئ العامة التي تنطوي عليها هذه الحوادث. وفضلًا عن ذلك فمثل هذه التأملات العاطفية لا تهتم فعلًا بالارتفاع فوق مستوى تلك الانفعالات المحزنة، وبحل ألغاز العناية الإلهية التي أثارتها هذه التأملات؛ فمن طابعها الأساسي أن تجد رضاءً كئيبًا في ذلك التسامي الخاوي العقيم الذي تنطوي عليه تلك النتيجة السلبية. وعلى ذلك فسوف نردها إلى وجهة النظر التي اتخذناها، ملاحظين أن الخطوات المتعاقبة للتحليل الذي تؤدِّي بنا إليه، ستكشف أيضًا عن الشروط اللازمة للإجابة عن الأسئلة التي توحي بها تلك اللوحة الكبيرة الزاخرة بالرذيلة والألم، والتي يكشف عنها التاريخ.
وأول ملاحظة يتعيَّن علينا إبداؤها — وهي ملاحظة سبق إبداؤها أكثر من مرة، ولكن لا بد من تكرارها كلما بدا أن الحاجة تدعو إليها — هي أن ما نسميه بمبدأ الروح، أو هدفها أو مصيرها أو طبيعتها وتصوُّرها، ليس إلا شيئًا عامًّا جدًّا؛ فألفاظ المبدأ، والخطة الأساسية والقانون، تعبِّر عن ماهية كامنة غير متكشِّفة، ليست في ذاتها متحقِّقةً تمامًا، مهما كانت صحيحةً في ذاتها؛ فالأهداف والمبادئ … إلخ، ليس لها من مكان إلا في أفكارنا، وفي مقاصدنا الذاتية، لا في مجال الواقع ذاته. وما يوجد من أجل ذاته فحسب، إنما هو إمكانية أو قوة، لم ترقَ بعدُ إلى مرتبة الوجود. وهناك عنصر ثانٍ ينبغي إدخاله لنقلها إلى مجال الفعل — هو التحقيق والواقعية، والقوة المحركة لهذا العنصر هي الإرادة — أي فاعلية الإنسان بأوسع المعاني. فبهذه الفاعلية وحدها تتحقَّق وتنتقل إلى مجال الفعل تلك الفكرة وتلك الخصائص المجردة بوجه عام؛ إذ لا حول لهذه الأخيرة في ذاتها. فالقوة المحرِّكة التي تدفعها إلى العمل، وتكسبها وجودًا مُحددًا، هي حاجة الإنسان وغريزته وميله وانفعاله. فتحوُّل فكرة معينة لديَّ إلى فعل ووجود، هو رغبتي الجادة؛ إذ أرغب في تأكيد شخصيتي بالنسبة إليها، وفي إرضاء ذاتي بتنفيذها. ولا بد لكي أبذل جهدي في سبيل أي هدف، من أن يكون ذلك هدفي بمعنًى من المعاني. ولا بد في تحقيقي لهذا الهدف أو ذاك أن أجد في الوقت ذاته رضاءً لي، رغم أن الهدف الذي أبذل نفسي في سبيله ينطوي على نتائج معقَّدة، ليس للكثير منها أهمية بالنسبة إليَّ. فالحق اللامتناهي للذات هو أنها تجد إرضاءً لذاتها في فاعليتها وجهدها. ولو شاء الناس أن يكون لهم اهتمام بأي شيء، فلا بد (إن جاز هذا التعبير) أن يشركوا جزءًا من كِيانهم في هذا الشيء، وأن يجدوا شخصيتهم راضيةً عن بلوغه. وها هنا خطأ ينبغي تجنُّبه، فعندما نصف شخصًا بأنه «مغرض» (في اشتراكه في أمر ما)؛ أي يسعى إلى نفعه الخاص وحده، نقصد من ذلك معنى الذم، وننسب الأمر إليه — عن حق — على أنه خطأ. ونحن إذ نذم هذا الشخص، ننتقده لسعيه وراء أهدافه الشخصية دون أي اهتمام بمقصد أعم، يستغله هو لتحقيق مصلحته الخاصة، بل قد يضحِّي به لهذا الغرض. غير أن من يجتهد في سبيل تحقيق هدف، ليس مغرضًا فحسب، وإنما ينصب غرضه على هذا الهدف ذاته. وإن اللغة لتُعبِّر عن هذا التمييز تعبيرًا دقيقًا. وإذن فلا شيء يحدث، ولا شيء يتحقَّق، ما لم يسع الأفراد الذين يعنيهم الأمر إلى تحقيق رضائهم الخاص في هذا الأمر؛ فهؤلاء الأفراد وحدات جزئية في المجتمع؛ أي إن لهم حاجاتهم وغرائزهم، وبوجه عام مصالحهم الخاصة بهم وحدهم. ولا تقتصر هذه الحاجات على ما نسمِّيه عادةً بالضرورات — كمنبهات الرغبة والإرادة الفردية — بل تشمل أيضًا تلك الحاجات المرتبطة بالآراء والمعتقدات الفردية، أو إذا شئنا استخدام لفظ ينطوي على تصميم أقل، اتجاهات الرأي الفردية، هذا إذا افترضنا أن دوافع التفكير والفهم والعقل قد استيقظت. وفي هذه الحالات يود الناس، إذا لزم أن يبذلوا جهودهم في أي اتجاه، أن يكون الموضوع ذاته مقبولًا لديهم، وأن يكونوا، من حيث رأيهم في خيرية هذا الموضوع وعدالته وقيمته ومنفعته، قادرين على «الاندماج فيه».
وإذن فنحن نؤكِّد أن شيئًا لم يُنجز دون اهتمام من جانب فاعليه، فإذا أمكن تسمية الاهتمام باسم الانفعال Leidenschaft على أساس أن الشخصية بأكملها تكرِّس ذاتها للموضوع بكل ذرة في إرادتها، مركِّزةً جميع رغباتها وقواها فيه، ومتجاهلةً كل اهتمام ومطلب فعلي أو ممكن آخر، ففي وسعنا عندئذٍ أن نؤكِّد على نحو مطلق أنه لم ينجز شيء عظيم في العالم دون انفعال. وعلى ذلك فموضوع بحثنا يشتمل على عنصرين؛ أولهما «الفكرة»، وثانيهما مجموعة الانفعالات البشرية المعقَّدة. أحدهما هو لحمة النسيج الضخم لتاريخ العالم والآخر سَداه. والوسط الموحِّد بين الاثنَين هو الحرية، في ظل شروط الأخلاقية داخل دولة. ولقد تحدَّثنا عن فكرة الحرية بوصفها طبيعة الروح، والهدف المطلق للتاريخ. أمَّا الانفعال فينظر إليه على أنه شيء غير سليم، وعلى أنه قبيح بمعنى ما. وهكذا يُطلب من الإنسان ألَّا تكون لديه انفعالات. وأنا أعترف بأن لفظ الانفعال ليس هو اللفظ الذي يلائم تمامًا المعنى الذي أرمي إلى التعبير عنه؛ فأنا لا أعني هنا سوى الفاعلية البشرية من حيث هي ناتجة عن اهتمامات شخصية — أي مقاصد خاصة، أو إن شئت فسمها مقاصد مبعثُها حب الذات — موصوفة، مع ذلك، بصفة خاصة، هي أن كل طاقة الإرادة والشخصية تُكرَّس لبلوغها، وأن الاهتمامات الأخرى (التي قد تكون في ذاتها أهدافًا جذابة)، أو على الأصح كل الأشياء الأخرى، يُضحَّى بها من أجلها، وهكذا يرتبط الموضوع مدار البحث بإرادة الإنسان إلى حد يجعله هو وحده المتحكِّم تمامًا في عزيمة الشخص وغير منفصل عنها. ويغدو هو ماهية إرادة الإنسان ذاتها؛ ذلك لأن الشخص إنما هو وجود محدد؛ فهو ليس الإنسان عامة (الذي هو لفظ لا يقابله وجود فعلي)، وإنما هو كائن بشري بعينه. -
(٣)
ومن هذا الإيضاح للعنصر الأساسي الثاني في التجسد التاريخي لهدف ما، نستنتج، عندما نُلقي نظرةً عابرة على نظام الدولة، أن الدولة تكون سليمة الكِيان قوية البنيان إذا اتفقت المصلحة الخاصة لمواطنيها مع الصالح المشترك للدولة، وإذا تحقَّق الأول وأُرضي عن طريق الثاني، وهي قضية لها في ذاتها أهميتها العظمى. غير أنه لا بد في الدولة من اتخاذ أنظمة مُتعدِّدة، ومن اختراع أجهزة سياسية عديدة، تصحبها ترتيبات سياسية ملائمة — ممَّا يُحتِّم صراعًا طويلًا للذهن قبل كشف ما هو ملائم بحق — ويتضمَّن كذلك صراعًا مع المصالح والانفعالات الشخصية، وترويضًا شاقًّا لهذه الأخيرة، حتى يتحقَّق الانسجام المنشود. وتبلغ الدولة مرحلة الازدهار والفضيلة والقوة والرخاء في العصر الذي يتحقَّق فيه هذا الانسجام. غير أن التاريخ العالمي لا يبدأ بهدف واعٍ من أي نوع، كما هي الحال في المجالات البشرية الخاصة. وإن الغريزة الاجتماعية وحدها لتتضمَّن هدفًا واعيًا هو أمان الحياة وسلامة المال، وعندما يتم تكوين المجتمع، يغدو هذا الهدف أشمل. ويبدأ تاريخ العالم بهدفه العام — أي إدراك فكرة الروح — ولكن في صورة ضمنية فحسب؛ أي بوصفها طبيعة، وغريزة واعية خفية، بل هي الأشد خفاءً، وتأخذ عملية التاريخ بأسرها (كما لاحظنا من قبل) اتجاهًا يستهدف جعل هذا الدافع اللاشعوري دافعًا واعيًا. وهكذا تتبدَّى منذ البداية الأولى، ولكن في صورة مجرد وجود طبيعي الإرادة الطبيعية؛ أي ما يسمَّى بالوجه الذاتي، والميل المادي والغريزة والانفعال والمصلحة الشخصية، وكذلك الرأي الخاص والفهم الذاتي، ويكوِّن هذا المجموع الضخم للإرادات والاهتمامات والأفعال، وسائل الروح الكلية وأدواتها للوصول إلى هدفها، ونقله إلى الوعي، وتحقيقه. وما هذا الهدف سوى اهتدائها إلى ذاتها، أو عودتها إلى ذاتها، وتأملها ذاتها في تحقُّقها العيني. أمَّا القول بأن مظاهر الحيوية هذه في الأفراد والأمم، وهي المظاهر التي سعَوا فيها إلى الاهتداء إلى أهدافهم وتحقيقها، هي في الوقت ذاته وسائل وأدوات هدف أعلى وأوسع لا يعلمون عنه شيئًا، ويدركونه لا شعوريًّا، فذلك قول قد يكون موضوع تساؤل، بل لقد كان بالفعل موضوع شك، وأُنكر وانتُقد وازدُري بشتى الصور، بوصفه مجرد أضغاث أحلام و«فلسفة». غير أني قد أبديت رأيي في هذه المسألة منذ البداية، وأكَّدت فرضنا — الذي سيظهر مع ذلك فيما يعد في صورة استدلال مشروع — واعتقادنا بأن العقل يحكم العالم، وبالتالي فقد تحكَّم في تاريخه. وكل ما عدا ذلك خاضع وتابع لهذا الوجود الكلي الأساسي ووسيلة لإظهاره. والقول بأن الحقيقة الوحيدة هي اتحاد الوجود الكلي المجرد عامةً مع الفرد أو مع العنصر الذاتي، هذا القول ينتمي إلى مجال النظر، ويبحثه المنطق في هذه الصورة العامة. أمَّا في عملية تاريخ العالم ذاته، وهي عملية ما زالت غير تامة، فإن الهدف النهائي المجرد للتاريخ لا يصبح بعدُ هو الموضوع المتميِّز للرغبة والاهتمام. وفي حين أن هذه المشاعر المحدودة ما زالت غير واعية بالغرض الذي تحقِّقه، فإن المبدأ الكلي كامن فيها، ويحقِّق ذاته من خلالها. كذلك يتخذ السؤال صورة توحيد بين الحرية والضرورة؛ إذ تُعد العملية المجردة الكامنة للروح ضرورة، أمَّا الوجه الذي يتكشَّف للإرادة الواعية للناس، ويغدو موضوعًا لاهتمامهم، فإنه ينتمي إلى مجال الحرية.