العالم إرادةً وتمثُّلًا
يصعب على المرء، وهو يشق طريقه بصعوبة خلال مؤلفات هيجل المعقَّدة، أن يتجنَّب الشعور بأن هيجل يَعد نفسه، في تواضع محمود، مجرد وسيط شاءَ «المطلقُ» ذاتُه، بمحض إرادته، أن يتحدَّث من خلاله. ومن هنا فإن المرء يتنفَّس الصُّعَداء عندما ينتقل أخيرًا إلى كتابات عدوه اللدود شوبنهور، الذي يشعر المرء على التو بأن فلسفته إن هي إلا فكرة شديدة التواضع لكائن بشري واحد عن عالم لم يصنعه قط، ولا يُعجَب به إلا قليلًا.
ولقد لمح شوبنهور على التو، بذهنه الثاقب كعادته، الدلالة الأيديولوجية الأساسية لفلسفتَي هيجل وفشته. وها هي ذي الكلمات التي يستخدمها في التعبير عن الأهمية السياسية والاجتماعية لمذهب هيجل:
ولقد كان من أسباب كراهية شوبنهور لفشته وهيجل اعتقاده أنهما قد شوَّها ما هو صحيح وعميق في فلسفة كانت؛ فشوبنهور كان واحدًا من أوائل المجموعة الكبيرة من الفلاسفة الذين نادوا، في عصر ساد فيه المذهب الهيجلي بالشعار «عودًا إلى كانت!» واستخدموه في الاحتجاج على الاتجاهات السائدة؛ وهذا يعني في حالة شوبنهور، أنه يَعد نفسه قبل كل شيء فيلسوفًا نقديًّا ينبغي أن ينقد العقل أولًا قبل أن يستخدمه فلسفيًّا. والحق أن شوبنهور وإن لم يكن قد اشتهر بفضل مساهماته في نظرية المعرفة، فإن كتابه الأشهر «العالم إرادةً وتمثيلًا» يبدأ، لا على نحو توكيدي ببيان مبادئ ميتافيزيقية، بل بتقدير لطبيعة الذهن وحدوده. ويعتقد شوبنهور، مثل كانت، أن الذهن عاجز عن معرفة كُنه الأشياء في ذاتها. فهو يرى أن أفكارنا لا توصلنا إلى أي عالم يتجاوز نطاق مدركاتنا الحسية. والواقع أن شوبنهور يقترب كثيرًا من مذهب لوك التجريبي؛ إذ يُصر على أن يستخدم كل التصوُّرات ممَّا يوجد في التجربة. ومع ذلك فهو يرى أننا نستطيع الوصول بطريقة أخرى، غير عقلية، إلى حقيقة تُتيحها لنا الإرادة. ونستطيع أن نُدرك مدى ابتعاده عن كانت في هذا الصدد إذا تأمَّلنا الفارق بين تفسير كل منهما لهذا التصوُّر. فإلى كانت ترجع بلا شك، من الوجهة التاريخية، تلك الفلسفات الإرادية التي طالما تردَّد ظهورها طوال القرن التاسع عشر. غير أنه نظر إلى الإرادة أساسًا من خلال الأخلاق. أمَّا عند شوبنهور فالإرادة هي المقولة الميتافيزيقية الرئيسية، وهي أصل كل ما نسمِّيه ﺑ «الحقيقي». فهو يرى أننا لا نحقِّق أنفسنا بوصفنا كائنات موجودةً إلا في أفعالنا الإرادية، ولا نشعر بالعالم الحقيقي على أنه أكثر من نسَق من الأفكار المترابطة إلا لشعورنا بأنفسنا من حيث نحن نريد شيئًا.
ومن الواضح، رغم كل عداء شوبنهور لفشته، أن في هذا الجزء من فلسفته تشابهًا قويًّا بينهما. ولم يكن الفارق الرئيسي بينهما في هذا الصدد فارقًا نظريًّا بقدر ما كان اختلافًا في المزاج؛ ففشته يمجِّد الإرادة في آخر الأمر، أمَّا شوبنهور، فهو وإن يكن يتجه إلى إضفاء صبغة شخصية عليها، فإنه يعدها قوةً شريرة تُحبط من كل وجه حياة الإنسان الروحية.
ومع ذلك فإن شوبنهور ليس مجرد ميتافيزيقي شيطاني يشوِّه «عالم الواقع» الذي وصفه معاصروه بأنه «معقول» و«حقيقي» في آنٍ واحد. بل إن فيه أيضًا شيئًا من النزعة الطبيعية، بحيث إن نظرته إلى الحياة الواعية للإنسان على أنها ناتج عرضي للإرادة فيها قطعًا استباق لفرويد. ولقد كان شوبنهور يستخدم على الدوام معلومات بيولوجيةً وتاريخية تجريبية لضرب أمثلة لرأيه القائل إن إرادة الحياة هي القانون الأساسي للحياة ذاتها. وإذا كانت فكرة الإرادة عنده قد حُمِّلت ما لا تحتمل، واكتسبت صفات شبه خرافيةً لا شأن للعلم التجريبي بها، فإن الكثيرين من شُراح شوبنهور قد نوَّهوا بحساسيته العميقة في ميدان علم النفس.
ويمكن القول، بمعنًى ما، إن أوصاف شوبنهور التجريبية غير المتكلفة للإرادة، تبعث قدرًا كبيرًا من الحرج في نفس أي فيلسوف يتخذ نقطة بدايته من ثورة كانت الكبرنيكية في الفلسفة. إذ إنه يربط فهمه للإرادة بأوصافه للسلوك الملحوظ للكائنات العضوية ربطًا يبلغ من الوثوق حدًّا يجعل مشكلة الاحتفاظ بالتمييز الأساسي بين الإرادة من حيث هي شيء في ذاته يعلو على التجربة وبين الجسم البشري بوصفه فكرة، أو ظاهرةً صُبغت بصبغة موضوعية، واحدةً من مشاكله الأساسية. ورغم تحمُّس شوبنهور الهائل لكانت، فإنه لم يتعلَّم تمامًا درس الفلسفية النقدية؛ إذ يبدو، من وصفه للإرادة أو مظاهرها مثل هذا التفصيل، أنه يحوِّلها إلى مجرد «فكرة» أخرى ليس لها، بالنسبة إلى مقدماته هو، أن تدَّعي لنفسها حقيقةً تزيد على حقيقة أية فكرة أخرى مستمدة من التجربة. وبالاختصار، فليس في وسع شوبنهور أن يجمع بين الأمرَين معًا؛ فهو لا يستطيع أن يعد السلوك الملحوظ للكائنات العضوية البشرية مظهرًا لحقيقة الإرادة الكامنة من ورائه بوصفها شيئًا في ذاته، وأن يؤكِّد، في الوقت ذاته، أن مجال الملاحظة التجريبية منفصل تمامًا عن الأشياء كما هي في حقيقتها.
ولكن ماذا يكون الأمر إذا أمكن تحويل الإرادة، وهي مصدر كل شقاء، ضد ذاتها؟ إذا كانت الإرادة هي الشر، فشفاؤنا منها يكون في إخمادها. وهنا يبدو أن الحل الواضح هو الانتحار. غير أن شوبنهور يرفض الانتحار بوصفة آخر أفعال الإرادة وأكثرها يأسًا فحسب؛ فالانتحار يقضي على الجسم من حيث هو ظاهرة، ولكنه لا يقضي على الإرادة ذاتها. والحل الوحيد الآخر، في رأيه، هو تحويل الإرادة ضد ذاتها، وإخماد رغباتنا الخاصة عن طريق سلسلة من أفعال العزوف. وهكذا لا تكون النتيجة عنده هي الموت، وإنما التأمل.
وكثيرًا ما قيل إن فلسفة شوبنهور تتأثر بأفلاطون وبصوفية الهنود معًا. وهذا صحيح، غير أن نظرته إلى حياة التأمل تختلف إلى حد عن نظرة هؤلاء إليها؛ فالتحرُّر من الرغبة يتم، عند شوبنهور، عن طريق التأمل الجمالي، وعن طريق تأمل الفن بوجه خاص. ففي التجاوب مع الفن الرفيع، ولا سيما الموسيقى، تنزُّه واضح، وخروج عن التصديق والتكذيب، والأمل واليأس، يتركنا أحرارًا في تأمل صور الأشياء دون انشغال، بل في تأمل مظاهر الإرادة ذاتها دون اندماج أو اهتمام شخصي.
وإنه ليكون من الخطأ أن ننظر إلى فلسفة شوبنهور على أنها مجرد تعبير عن شخصيته التي كانت عصابيةً شاذة المزاج إلى حد بعيد؛ فهذه الفلسفة ما هي إلا صورة واحدة من صور خيبة الأمل الدائمة التي تشعر بها النفوس الحساسة إزاء أنواع الخلاص الجماعي التي تقدِّمها النظم الاجتماعية. وفضلًا عن ذلك، فقد كان شوبنهور صادق التنبؤ في اعترافه بأعماق «اللامعقول» البشري. وكثيرًا ما يصادف المرءُ في كتاباته إدراكًا يدعو إلى الدهشة لحياة الإرادة على المستوى دون العقلي واللاشعوري، وهي أمور أصبحت لها في عمرنا أهمية كبرى بفضل أتباع فرويد.
ولقد أدرك شوبنهور خطورة العقل وعُقم الوقوف في وجه الإرادة بوساطة مجرد «أفكار»، ولكنه، على خلاف الكثيرين من «اللاعقليين» الآخرين، لم يمجِّد اللامعقولية أبدًا. فهو مثل فرويد، قد اعترف بعصر الحيوانية في الطبيعة البشرية كاملًا، دون أن يحاول تأليه هذا العنصر. بل إنه لم يكن في النهاية يخشاه حقيقة؛ إذ كان يعلم أن ثمة مخرجًا منه، عن طريق الفهم والإبداع الفني، والتأمل الجمالي. ولَكم في فلسفة هذا المتشائم الأكبر من عناصر حكيمة! إنه ليس مجرد «مرحلة» في تاريخ الفكر في القرن التاسع عشر؛ بل إنه يقف من هيجل، في نواحٍ معينة، موقفًا يشبه كثيرًا موقف فرويد من كارل ماركس. ولو أغفله المرء لكان في ذلك إغفال لحقيقة هامة، هي أن العصر الذي قدَّس التقدم كان أيضًا عصر يأس فردي.
وعنوان الكتاب الأول هو «العالم تمثُّلًا. الوجه الأول: الفكرة خاضعة لمبدأ السبب الكافي: موضوع التجربة والعلم.»
وعنوان الكتاب الثاني: «العالم إرادة. الوجه الأول: الصبغة الموضوعية للإرادة.»
•••
وهكذا فإنا ننظر إلى العالم في هذا الكتاب الأول من هذا الوجه فحسب؛ أعني من حيث كونه تمثُّلًا. غير أن التردد الباطن الذي يشعر به أي شخص في قَبوله للفكرة القائلة إن العالم تمثُّله هو فحسب، لكفيل بتنبيهه إلى أن هذا الرأي عن العالم، مهما كان من صحته، هو مع ذلك تعبير عن وجه واحد من أوجه المسألة، وأنه ينجم عن نوع من التجريد المتعمَّد. ولكنه من جهة أخرى رأي لا يستطيع أن يجد منه مهربًا. وعلى أية حال فسوف يعالج الكتاب المقبل أوجه النقص في هذا الرأي، عن طريق حقيقة ليس لها مثل اليقين المباشر الذي تتصف تلك الحقيقة التي نتخذها ها هنا نقطة بداية لنا، وهي حقيقة لا يمكننا الوصول إليها إلا ببحث أعمق وتجريد أشق، وبالفصل بين ما هو مختلف والتأليف بين ما هو متماثل. وهذه الحقيقية، التي ينبغي أن تكون شديدة الخطورة والتأثير، إن لم تكن حقيقةً مخيفة لكل شخص، هي أن الإنسان يستطيع أيضًا، بل ينبغي عليه، أن يقول: «العالم إرادتي.»
ومع ذلك فعلينا في هذا الكتاب الأول أن نبحث على حدة في ذلك الوجه الذي نبدأ به من أوجه العالم؛ أعني في الوجه الذي يكون فيه قابلًا للمعرفة، وبالتالي أن ننظر دون تحفُّظ إلى جميع الأشياء الموجودة، حتى أجسامنا ذاتها (كما سنرى بمزيد من التفصيل بعد قليل) على أنها مجرد تمثُّل، وأن نسميها مجرد تمثُّلات. وعلى هذا النحو نجرِّد هذه الموضوعات دائمًا (كما نأمل أن نوضِّح للجميع فيما بعد) من الإرادة التي تؤلِّف في ذاتها الوجه الآخر للعالم. فكما أن العالم هو، في واحد من أوجهه، تمثُّل كله، فإنه كذلك في وجه آخر إرادة كله. أمَّا القول بوجود حقيقة ليست واحدًا من هذَين، وإنما هي موضوع في ذاته (هو الذي تدهور إليه الشيء في ذاته، للأسف، على يد كانت) فهو خيال حالم، وقَبوله إنما هو السراب الخادع في الفلسفة.
وهكذا نرى بالفعل أننا لا نستطيع أبدًا الوصول إلى الطبيعة الحقة للأشياء من الخارج، ومهما بحثنا، فلن يكون في وسعنا أبدًا أن نصل إلى شيء سوى الصور والأسماء؛ فنحن أشبه برجل يدور حول قلعة باحثًا، دون جدوى، عن مدخل، ويقوم أحيانًا برسم الوجه الظاهري لهذه القلعة. ومع ذلك فهذه هي الطريقة التي اتبعها جميع الفلاسفة من قبلي.
وأخيرًا فإن المعرفة التي لديَّ عن إرادتي، وإن تكن مباشرة، لا يمكن أن تفرق عن معرفتي بجسمي. فأنا أعرف إرادتي، لا بوصفها كلًّا أو وحدة، ولا أعرفها معرفةً كاملة حسب طبيعتها، بل أعرفها في أفعالها الخاصة فحسب، وبالتالي في الزمان، الذي هو صورة لظاهرة جسمي، ولكل موضوع كذلك. وإذن فالجسم شرط لمعرفة إرادتي. وهكذا لا يمكنني بالفعل أن أتصوَّر هذه الإرادة دون جسمي. ولقد عالجت الإرادة، أو بالأحرى الذات المريدة، على أنها فئة خاصة من التمثُّلات أو الموضوعات. ولكنا حتى في تلك الحالة قد رأينا هذا الموضوع يصبح هو والذات شيئًا واحدًا؛ أي رأيناه لا يعود موضوعًا؛ فبقدر ما أعرف إرادتي حقًّا على أنها موضوع، أعرفها بوصفها جسمًا، ولكني في هذه الحالة أعود ثانيةً إلى الفئة الأولى من التمثُّلات التي عرضتها في ذلك البحث؛ أي إلى الموضوعات الفعلية. وسنرى بوضوح متزايد، كلما سرنا قُدمًا، أن تمثُّلات الفئة الأولى هذه لا تجد تفسيرها وحلها إلا في تمثُّلات الفئة الرابعة التي عرضناها في ذلك البحث، والتي لا يعود من الممكن وضعها مقابل الذات بوصفها موضوعًا، وأن علينا بالتالي أن نتعلَّم فهم الطبيعة الباطنة لمبدأ العِلِّية الذي يصح على الفئة الأولى، ولكل ما يحدث وفقًا لهذا المبدأ، من خلال مبدأ تحكُّم الدوافع، الذي يسري على الفئة الرابعة.
ومن المحال إثبات هُوية الإرادة والجسم، التي قدَّمنا لها الآن تفسيرًا مؤقتًا، إلا على النحو الذي قلنا به ها هنا. ولقد كان هذا أول إثبات لهذه الهُوية. وسوف يزداد إثباتنا هذا عمقًا خلال هذا الكتاب، وبعبارة أخرى فقد أخرجنا هذه الهُوية من نطاق الوعي المباشر، ومن المعرفة العينية، ونقلناها إلى مجال المعرفة العقلية أو المعرفة المجرَّدة. ومن جهة أخرى، فإن طبيعة هذه الهُوية ذاتها تجعل من المحال البرهنة عليها؛ أي استخلاصها بوصفها معرفةً غير مباشرة من معرفة أخرى أقرب إلى الطابع المباشر، لا لشيء إلا لأنها هي ذاتها أقرب المعارف إلى الطابع المباشر. فإذا لم ندركها أو نتمسَّك بها على هذا النحو، فسيكون من العبث أن نتوقع تلقِّيها مرةً أخرى على نحو غير مباشر بوصفها معرفةً مشتقة؛ فهي معرفة من نوع خاص إلى أبعد حد، وبالتالي لا يمكن أن تُدرَج حقيقتها تحت واحدة من الفئات الأربع التي صُنفت بها كل الحقائق المنطقية، والتجريبية، والميتافيزيقية، وما بعد المنطقية؛ إذ إنها تختلف عن هذه كلها في أنها ليست مثلها ربطًا لتمثُّلٍ مجرد بتمثُّل آخر، أو بالصورة الضرورية لتمثُّل الحدسي أو المجرد، وإنما هي ربط لحكم بالعلاقة التي تجمع بين تمثُّل إدراكي، هو الجسم، وبين ما ليس بالتمثُّل على الإطلاق، وإنما يختلف عن ذلك كل الاختلاف؛ أعني بالإرادة.
ولا تكون الذات العارفة فردًا إلا بفضل هذه العلاقة الخاصة بجسم بعينه، فإذا ما نُظر إلى هذا الجسم بمعزل عن هذه العلاقة، لَمَا غدا سوى تمثُّل كسائر التمثُّلات. غير أن العلاقة التي تكون الذات العارفة بفضلها فردًا هي لهذا السبب عينه علاقة لا تقوم إلا بينها وبين تمثُّل واحد بعينه من بين جميع ما لديها من التمثُّلات، ومن ثم فإنها تشعر بهذا التمثُّل الخاص، لا بوصفه تمثُّلًا فحسب، بل في الوقت ذاته على نحو مخالف تمامًا، بوصفه إرادة. أمَّا إذا تجرد عن هذه العلاقة الخاصة، وعن هذه المعرفة المزدوجة والمتباينة تمامًا لِمَا هو موضوع واحد لا يتغيَّر، فإن هذا الواحد؛ أي الجسم، يغدو تمثُّلًا كسائر التمثُّلات. وإذن فلا بد لفهم المسألة من أحد أمرين؛ إمَّا أن يفترض الفرد العارف أن ما يميِّز هذا التمثُّل الواحد من غيره هو مجرد كون معرفته ترتبط به هو وحده في هذه العلاقة المزدوجة، وأن التبصر في اتجاهَين مختلفَين في آنٍ واحد لا يُتاح له إلا في حالة موضوع الإدراك هذا وحده، وإن مردَّ هذا ليس إلى الفرق بين هذا الموضوع وجميع الموضوعات الأخرى، وإنما إلى الفرق بين علاقة معرفته بهذا الموضوع الواحد وعلاقتها بجميع الموضوعات الأخرى فحسب. وإمَّا أن يفترض أن هذا الموضوع يختلف عن الباقين جميعهم اختلافًا أساسيًّا، وأنه هو وحده دونها جميعًا، إرادة وتمثُّل معًا، في حين أن بقية الموضوعات تمثُّلات؛ أي أشباح، فحسب. وهكذا يكون عليه أن يفترض أن جسمه هو الفرد الحقيقي الوحيد في العالم؛ أي إنه هو الظاهرة الوحيدة للإرادة، والموضوع المباشر الوحيد للذات. أمَّا كون الموضوعات الأخرى، من حيث هي مجرد أفكار، تُشبه جسمه؛ أي تشغل مثله مكانًا (لا يتمثَّل بدوره إلا بوصفه تمثُّلًا)، ولها مثله فاعلية إيجابية في المكان، فذلك ما يُثبته بجلاءٍ قانون العِلِّية الذي يصدق أوليًّا على الأفكار، والذي لا يسمح بوجود أي معلول دون علة. ولكن بالإضافة إلى كوننا لا نستطيع أن نستدل من المعلول إلا على علة بوجه عام، لا على علة مماثلة، فإنا ما زلنا في مجال التمثُّل وحده، وهو المجال الذي لا يصدق قانون العِلِّية إلا عليه، والذي لا يمكنه أن يسري على ما هو خارج عنه. أمَّا كون الموضوعات المعروفة للفرد بوصفها تمثُّلات فحسب، هي، مثل جسمه، مظاهر لإرادة، فذلك، كما قلنا في الكتاب الأول، هو المعنى الصحيح للسؤال المتعلق بحقيقة العالم الخارجي. ومن ينكر ذلك يقع في الأنانية النظرية التي ترى، على هذا النحو، أن جميع الظواهر الواقعة خارج إرادتها هي أشباح، مثلما تؤدِّي الأنانية العملية إلى النتيجة ذاتها في المجال العملي: حيث ينظر فيها الإنسان إلى ذاته وحدها على أنها شخص حقيقي، ويرى في جميع الأشخاص الآخرين بمجرد أشباح. ولا جدال في أن من المحال تفنيد الأنانية النظرية بالبرهان، غير أن استخدامها الوحيد في الفلسفة كان استخدامها بوصفها مغالطةً شكاكة؛ أي لغرض الادِّعاء الظاهري. أمَّا من حيث هي اعتقاد جدي، فمن المحال أن يكون لها قيام إلا وسط المجانين، ومن ثم فإنها بهذا المعنى تحتاج إلى علاج أكثر ممَّا تحتاج إلى تفنيد؛ ولذا فلن نمضي في محاربتها أبعد من ذلك، بل سننظر إليها على أنها آخر معاقل الشكاك فحسب، وهو معقل جدلي على الدوام. وهكذا فإن معرفتنا، التي تتقيَّد وتُحد دائمًا بالفردية، تقتضي بالضرورة أن يكون كلٌّ منا واحدًا فحسب، في حين أنه يستطيع أن يعرف كل شيء؛ وهذا التحدُّد ذاته هو الذي يخلق الحاجة إلى الفلسفة. وإذن فنحن؛ إذ نسعى لهذا السبب بعينه إلى توسيع حدود معرفتنا بالفلسفة، فإننا سننظر إلى حجة الشكاك هذه؛ أعني حجة الأنانية النظرية، مثلما ينظر الجيش إلى قلعة صغيرة على الحدود. حقًّا إن من المحال اقتحام القلعة، غير أن من المستحيل على حاميتها أن تغادرها؛ ولذا ففي وسعنا أن نتجاوزها دون خطر، وأن نتركها في مؤخرة صفوفنا دون أن نخشى شيئًا.
وهكذا أوضحنا بجلاء تلك المعرفة المزدوجة التي لدينا بطبيعة جسمنا وفاعليته، والتي تُعطَى على نحوَين مختلفَين تمامًا، ومن ثم فسوف ننتفع منها على نحو آخر إذ نتخذها مفتاحًا للماهية الباطنية لكل ظاهرة في الطبيعة، وسوف نحكم على جميع الموضوعات المغايرة لأجسامنا، والتي لا تُعطى لوعينا بالتالي على نحو مزدوج، وإنما بوصفها تمثُّلات فحسب، على أساس تشبيهها بأجسامنا. وهكذا فسوف نفترض أنه لمَّا كانت هذه الموضوعات في أحد أوجهها تمثُّلًا، كأجسامنا، ولمَّا كانت متجانسةً مع أجسامنا في هذا الوجه، فإن ما يتبقَّى منها عندما ندع جانبًا وجودها بوصفها تمثُّلًا للذات، لا بد أن يكون في طبيعته الباطنة مماثلًا لِمَا نسمِّيه بالإرادة فينا. إذ ما هو النوع الآخر من الوجود أو الحقيقة الذي ينبغي أن نعزوه إلى بقية العالم المادي؟ ومن أين نستمد العناصر التي نشيد منها مثل هذا العالم؟ ليس ثمة شيء معروف لنا أو يمكننا التفكير فيه، سوى الإرادة والتمثُّل، فإذا شئنا أن نعزو أكبر قدر من الحقيقة المعروفة إلى العالم المادي الذي لا يوجد مباشرةً إلا في تمثُّلنا، فإنا نعزو إليه الحقيقة التي تكون لجسمنا في نظر كل منا؛ إذ إن الجسم هو أكثر الأشياء حقيقةً بالنسبة إلى كل منا. ولكنا إذا ما قُمنا بتحليل لحقيقة هذا الجسم وأفعاله، خلاف كونه تمثُّلًا، فلن نجد فيه سوى الإرادة؛ فبالإرادة تُستنفد حقيقته. وإذن فليس في وسعنا أن نجد نوعًا آخر من الحقيقة نعزوه إلى العالم المادي. فإذا قلنا إن العالم المادي يزيد على كونه مجرد تمثُّل لنا، فينبغي أن نقول إنه، إلى جانب كونه تمثُّلًا؛ أعني في ذاته وفي أعماق طبيعته الباطنة، هو ما نهتدي إليه في أنفسنا مباشرةً بوصفه إرادة.