مؤسس الوضعية
وأفضل سبيل إلى فهم وجهة نظر فلسفة كونت الوضعية هو مقارنتها بفلسفة كانت النقدية؛ فكانت لا يقل عن كونت معارضةً للميتافيزيقا النظرية واللاهوت النظري. غير أنه لا ينكر أبدًا أن الحديث عن أشياء في ذاتها لا يصل إليها الذهن العلمي يمكن، من وجه معين، أن يكون حديثًا ذا معنًى، كما أنه لا ينكر أن هناك أنواعًا للنشاط العقلي غير تلك التي تطابق إجراءات العلم التجريبي. وبالاختصار فإن نقده للعقل لا يُمثِّل اعتراضًا أساسيًّا على الرأي التقليدي القائل إن النشاط العلمي لا يستنفد جميع أطراف حياة العقل؛ ففي رأيه أن للأخلاق والدين والفن أساسها العقلي، حتى لو لم يكن من الممكن وصف النتائج التي تُحقِّقها بأنها «معرفة».
أمَّا كونت فيرفض الخروج عن نطاق العلم في سبيل تبريره نقديًّا بوصفه الصورة الوحيدة للمعرفة البشرية؛ فمعيار المعقولية الوحيد عنده هو، منذ البداية، العلم، والأساس الوحيد لرفضه أن يعد اللاهوت أو الميتافيزيقا ميادين للمعرفة هو أن طرق البحث العلمية لا يمكن أن تُبرِّر ادعاءاتها المعرفية. وبالاختصار فإن موقف كونت من العلم ليس نقديًّا، وإنما هو «وضعي»، والعالم الذي يصفه العلم هو العالم «الوحيد» ومنهجه هو منهج المعرفة ذاتها. وهذا لا يعني، كما سنرى، أن كونت يرفض الأخلاق أو الدين تمامًا، وإنما معناه أن من الواجب الكف عن تصوُّر الأخلاق والدين على أنهما يتنافسان مع العلم في ميدانه الخاص، وأن عليهما الالتجاء إلى العلم في صدد أية ادعاءات علمية قد يُضطران إلى القيام بها.
وطالما زعم نُقاد كونت أن فلسفته مستعارة بأسرها. وهذا خطأ يتضح إذا ما قارناه بالسابقين عليه مثل لوك أو هيوم؛ فالتجريبيون الإنجليز يحاولون جميعًا أن يبرِّروا تجريبيتهم بإظهار أن من الممكن تعقُّب «أصول» جميع أفكارنا إلى انطباعات للحس وانعكاسات على الفكر أو شعور. أمَّا كونت فيرفض أي تبرير نفساني كهذا، ويكتفي بإعلان إصراره على عدم الاعتراف بإمكان تصديق أية عبارة ما لم تحقِّقها مناهج العلم التجريبي. وبالاختصار فإن تجريبيته «وضعية» وهو يستخدمها صراحةً وعلنًا بوصفها أداةً أيديولوجية للقضاء على كل المناهج غير العلمية في التفكير. وهدفه، من حيث هو فيلسوف، هو الدعوة إلى عقلية تأبى التفكير على نحو غير علمي، وترفض قضايا اللاهوت التقليدي والميتافيزيقا التقليدية لمجرد كونها غير علمية.
هذا الموقف الصارم الحازم يبدو بعيدًا كل البُعد عن فلسفة كانت المتأنية في نقدها، وعن المذهب الترنسندنتالي الرقيق اللهجة عند فشته وهيجل، وهو بالفعل بعيد عن هذه المذاهب في نواحٍ عدة. غير أن كانت يرفض إمكان الميتافيزيقا النظرية بنفس القوة التي يرفضه بها كونت، ونتيجة معارضتهما للميتافيزيقا العقلية واللاهوت العقلي تتقارب في النهاية إلى حد بعيد. ولقد كانت فلسفة كونت مشابهةً لفلسفة هيجل في تغلغل فكرة التطوُّر فيها بعمق، وقانونه المشهور «للمراحل الثلاث» للتطوُّر العقلي البشري يحمل طابعًا هيجليًّا لا يُنكَر، كما أن كونت يستخدمه، على طريقة هيجل، وسيلةً للقضاء بطريقة خفية بارعة على كل وجهات النظر السابقة عليه. ولكن هل القانون ذاته فرض تجريبي؟ لا ونعم؛ فهو ظاهريًّا لا يزيد على كونه وصفًا تاريخيًّا لتطوُّر الذهن البشري، ولكنه من وجهة نظر أعمق قانون للتقدم العقلي والحرية العقلية يفرض على نحو جامع الاتجاه الذي ينبغي أن تسير فيه البشرية إذا ما استنارت تدريجيًّا. فكونت مثل هيجل، يقف من جميع الاتجاهات الفلسفية والدينية السابقة على اتجاهه الخاص موقف الوصي إلى حد ما. وهو مثل هيجل ينظر إليها على أنها «لحظات» لا مفر منها في التطور التاريخي للفكر البشري نحو بلوغ غايته النهائية في الفلسفة الوضعية. وفضلًا عن ذلك فإن كونت يذكر بكل وضوح أن فلسفته لا تعلو على الاتجاهات الفكرية الأسبق والأدنى منها فحسب، بل تضم بين ثناياها كل ما له دلالة حقيقية فيها.
ويعترض كونت بشدة على التفكير الأسطوري، بقدر ما ينافس تقدُّم العلم أو يعترض سبيله، ويراه مميزًا للدين التقليدي. ولكن عندما تُتاح للمرء فرصة التسلُّح بالفلسفة الوضعية ضد الأوهام التي يولِّدها هذا النوع من التفكير، فمن الممكن عندئذٍ العودة إلى الأساطير الدينية لِمَا قد تحتوي عليه من شعر أو إرشاد خلقي. بل إن الوضعي قد «يقبل»، بمعنًى معين، معتقدات الكنيسة، وإن يكن هذا القَبول لا يرتبط على الإطلاق، في نظره، بالاعتقاد العقلي، وعلى هذا النحو تتجمَّع ثانيةً في فلسفة كونت بعض المواقف المعقدة ذات الاتجاه المزدوج نحو المسيحية، التي نجدها لدى هيجل. وأستطيع أن أضيف إلى ذلك أن من الممكن الاهتداء إلى هذه الاتجاهات المزدوجة في معظم المذاهب اللاهوتية «المتحرِّرة» في وقتنا هذا.
ويرى كونت أن المرحلة الأولى، أو اللاهوتية للتطور، تتميَّز بعقلية تنظر إلى الأشياء الأخرى من خلال تشبيهات بالعقل البشري ذاته إلى حد بعيد. وتعزو بالتالي إلى الظواهر الطبيعية تلك المشاعر والرغبات التي تتميَّز بها استجابتنا نحن لها. ففي هذه المرحلة يتجه كل تفكير إلى بعث ما يشبه الحياة في الظواهر الطبيعية وتشبيهها بالإنسان، وينظر المرء إلى كل شيء من خلال مقولات الغرض والإرادة والروح، ويتصوَّر أن وجود أي شيء يفسر تمامًا من خلال الغرض أو الروح الكامنة التي تُعزى إليه. وهكذا فإن الصفة المميزة للوعي اللاهوتي هي عدم إدراكه لوجود تمييز قاطع بين السؤالَين البادئَين ﺑ «كيف؟» و«لماذا؟» وبالتالي عدم تميُّزه بوضوح بين ما نسمِّيه ﺑ «التفسير» وبين «التبرير». وهكذا يتصوَّر العالم، من وجهة النظر هذه، تصوُّرًا أسطوريًّا على أنه نظام روحي ينظر فيه إلى الأغراض الحيوية للأشياء على أنها في الوقت ذاته عوامل فعالة «تسبِّب» سلوك هذه الأشياء على النحو الذي تسلكه. وبعبارة أخرى في هذه المرحلة اتجاه إلى تشخيص كل الظواهر، والنظر إلى كل عملية كما لو كانت فعلًا بشريًّا، فما يحدث ليس شيئًا يحدث فحسب، بل هو شيء يُفعل أو يُنفعل به أو يتحقق.
وتأتي بداية النهاية بالنسبة إلى الميتافيزيقا عندما تنشب الخلافات الكبرى بين من يسمَّون ﺑ «الواقعيين» و«الاسميين» حول مركز التصوُّرات الكلية. هذه الخلافات ما زالت «ميتافيزيقية»؛ إذ يظل كلا الطرفَين يعتقد أن التحليل المنطقي وحده كفيل بالبت في المسائل المتعلقة بالوجود. غير أن النظر إلى «حقيقة» الكليات، مستقلةً عن الجزئيات التي تتصف بها، على أنها مشكلة، هو في ذاته دليل على الوَهَن التدريجي لقيود الميتافيزيقا ذاتها.
أمَّا المرحلة الثالثة أو «الوضعية» فتأتي أخيرًا عندما تُترك كل هذه «المشاكل» جانبًا بسبب عُقمها، ويظل العلم الوضعي هو وحده الذي يُعترف به مصدرًا للمعرفة البشرية. في هذه المرحلة لا يُتصوَّر «التفسير» إلا من خلال فروض أو قوانين تجريبية تصف العلاقات الثابتة القائمة بين فئات من الظواهر الملاحظة، وهنا لا يُعترف «بارتباط على» غير التضايف القابل للتحقيق بين فئات من الظواهر، ويقتصر دور العقل على تتبُّع العلاقات المنطقية القائمة بين الفروض العلمية ذاتها.
ويقبل كونت، بمعنًى ما، المثل الأعلى لوحدة العلم. ولكن يبدو أن فكرة وحدة العلم لم يكن لها في ذهنه المعنى الذي كان لها في أذهان بعض الفلاسفة الآخرين من ذوي العقليات العلمية. ويظهر موقف كونت بوضوح في آرائه الطريفة حول تصنيف العلوم، وهي بهذه المناسبة، مشكلة أتاحت لفلاسفة العلم في القرن التاسع عشر ممارسة إحدى رياضاتهم المنزلية (الداخلية) المحبَّبة إلى نفوسهم. فكونت أولًا يرفض رد العلوم بعضها إلى بعض، وهو يعارض أي تصنف يسعى إلى رد علم الاجتماع إلى علم الأحياء، أو علم الأحياء إلى الفيزياء، وهو يرى أن الفارق في نطاق قوانين العلوم أو عموميتها ليس إلا سببًا جزئيًّا للاختلاف بين العلوم. وإنما يرجع هذا الاختلاف أيضًا إلى أن التجربة تكشف عن أنماط مُتميِّزة شديدة التباين من الظواهر التي يحتاج تفسيرها، لهذا السبب، إلى مجموعة متباينة من التصوُّرات المتميِّزة، وإلى كثرةٍ من النظريات التي لا يمكن رد بعضها إلى بعض. وإذن فالوحدة الوحيدة للعلم، التي تدعو إليها فلسفة كونت، هي وحدة المنهج؛ أي اشتراك كل الباحثين العلميين في التزام المنطق واختبارات الملاحظة التجريبية. ولا يعترف كونت، ثانيًا، بأن الفلسفة ذاتها علم أساسي هام، أعم من الفيزياء. تعد فروض العلوم الأقل عموميةً بالنسبة إليه نتائج منطقيةً أو تطبيقات جزئية. ومن السمات ذات الدلالة الهامة في وضعية كونت أنه يرفض أي نوع من المادية، لا لأن المادية «ميتافيزيقية» فحسب، بل أيضًا لأنها تشوِّه الفوارق الحيوية القابلة للملاحظة والقائمة بين أنواع الظواهر التي تعالجها العلوم الفيزيائية والبيولوجية والاجتماعية.
وهناك صفة أخرى تتصف بها فلسفة كونت وينبغي علينا إيضاحها؛ فقد أخذ كونت في سنواته الأخيرة يزداد إيمانًا بأن فلسفته تنطوي على أساس «لعقيدة جديدة للبشرية»، كانت هي وحدها الملائمة في نظره لعقل البشر في عصر علمي. فالأديان التقليدية تقتضي قَبول معتقدات لاهوتية غير علمية، وتحوِّل جهودنا عن مشاكل الرفاه الفردي والاجتماعي «في هذا العالم». وفي هذا كان كونت معارضًا لها، وقد حاول أن يستعيض عنها بالمثل الأعلى الديني الجديد لبشرية تزداد استنارةً بالتدريج، وتتفاني بغيرية في سبيل مبادئ الرعاية والحب. ولكن ممَّا يؤسَف له أن كونت لم يقنع بالدعوة إلى عقيدته الجديدة، وإنما اتجه أيضًا إلى تحديد طقوس مُفصَّلة لها، ممَّا كان موضوعًا لسخرية ناقديه. وفضلًا عن ذلك فقد ازداد كونت في سنواته الأخيرة إيمانًا بأنه النبي الحقيقي لدينه الجديد، وبأن عشيقته الشابة هي القديسة الحامية لهذا الدين، كما أنها رمزه. ولم يكن في هذا، بطبيعة الحال، ما يؤدِّي إلى إعلاء قيمته من حيث هو مفكِّر.
«إن الإيضاح العام لأي مذهب فلسفي قد يكون عرضًا موجزًا لمذهب يُزمَع وضعه، أو تلخيصًا لمذهب موضوع بالفعل. وإذا كانت قيمة الأخير أعظم، فإن للأول مع ذلك قيمته، من حيث إنه يوضِّح خصائص الموضوع الذي سيُعالج منذ البداية. وممَّا له أهمية خاصة، في حالة كهذه الحالة التي تُقترح فيها دراسة موضوع مُتشعِّب لم تتضح معالمه قبل الآن، أن يحدِّد ميدان البحث بكل دقة ممكنة؛ ولهذا السبب سوف أعرض لمحةً عن الدواعي التي أدَّت إلى قيام هذا البحث، والتي سوف تُعرض خلاله بإسهاب تام.
ولكي نفهم القيمة الحقيقية للفلسفة الوضعية وطابعها، ينبغي علينا أن نُلقي نظرةً عامة موجزة على التطوُّر التدريجي للذهن البشري، منظورًا إليه من حيث هو كل؛ إذ لا يمكن فهم أية فكرة إلا من خلال تاريخها.
وسوف نثبت فيما بعد أهمية تطبيق هذا القانون العام. وحسبنا الآن أن نُشير إلى بعض أسبابه:
وإن في تقدُّم الذهن الفردي لمثلا، بل دليلًا غير مباشر، على تقدُّم الذهن العام. فلمَّا كانت نقطة بداية الفرد والنوع البشري واحدة، فإن مراحل ذهن الشخص الواحد تطابق عصور ذهن النوع البشري. وإن كُلًّا منا ليدرك، إذا ما عاد بفكره إلى تاريخ حياته الخاص، أنه كان لاهوتيًّا في طفولته، ميتافيزيقيًّا في شبابه، وفيلسوفًا طبيعيًّا في نضوجه. وفي وسع كل من بلغ سن النضج فينا أن يحقِّق هذا في نفسه.
وأهم هذه الأسباب هو أن من الضروري أن توجد دائمًا نظرية ما نرد إليها وقائعنا، وأن من الأمور الواضحة الاستحالة، في الوقت ذاته، أن يكون الناس في بداية المعرفة البشرية قد كوَّنوا نظريات من ملاحظة الوقائع. فقد أكَّدت كل العقول السليمة، منذ عصر بيكون، أنه لا يمكن قيام معرفة حقيقية سوى تلك المبنية على وقائع ملاحظة.
وهذا أمر لا جدال فيه، في مرحلتنا المتقدِّمة الحالية، ولكنا إذا ما عدنا القهقرى إلى المرحلة البدائية للمعرفة البشرية، فسنرى أن الأمر كان قطعًا على خلاف هذا في ذلك الحين. فإذا كان صحيحًا أن كل نظرية ينبغي أن تُبنى على وقائع ملاحَظة، فمن الصحيح بالقدر نفسه أن من المستحيل ملاحظة الوقائع دون الاسترشاد بنظرية ما. فبغير هذا الاسترشاد تكون وقائعنا مفككةً عقيمة، ولا يكون في وسعنا الاحتفاظ بها، بل لا نستطيع إدراكها في معظم الأحيان.
وهكذا كانت الفلسفة اللاهوتية، وهي فلسفة تلقائية، هي البداية والمنهج والمذهب المؤقَّت الوحيد الممكن، والذي أمكن أن تنمو الفلسفة الوضعية منه. ومن السهل بعد ذلك أن ندرك كيف كانت المناهج والمذاهب الميتافيزيقية التي أتاحت بالضرورة وسيلة الانتقال من إحدى المرحلتَين إلى الأخرى.
فلم يكن في وسع الذهن البشري، وهو البطيء في تقدُّمه، أن يقفز دفعةً واحدة من الفلسفة اللاهوتية إلى الفلسفة الوضعية؛ إذ إن بين الاثنَين من التعارض الشديد ما حتَّم قيام مذهب فكري وسيط لإتاحة الانتقال من أحدهما إلى الآخر. والفائدة الوحيدة للأفكار الميتافيزيقية تنحصر في قيامها بهذه المهمة. وهكذا فإن الناس في تأملهم للظواهر يستبدلون بالتوجيه الصادر من كائن فوق الطبيعي كِيانًا مقابلًا له. وربما اعتُقد أن هذا الكِيان مستمَد من فعل فوق الطبيعي، ولكن الأيسر من ذلك صرف الانتباه عنه، وتركيز الاهتمام في الوقائع ذاتها، حتى لا تعود القواعد الميتافيزيقية في النهاية سوى الأسماء التجريدية للظواهر. وليس من السهل أن نحدِّد طريقةً أخرى غير هذه لانتقال أذهاننا من الأفكار فوق الطبيعية إلى الأفكار الطبيعية، ومن النظام اللاهوتي إلى النظام الوضعي.
وبعد أن حدَّدنا على هذا النحو قانون التطوُّر البشري، ينبغي أن نبحث في الطبيعة الحقة للفلسفة الوضعية.
ومن العسير تحديد تاريخ دقيق لهذا الانقلاب في العلم. ومن الممكن أن يقال عنه، كما يقال عن أي شيء آخر، إنه كان قائمًا على الدوام، ولا سيما منذ جهود أرسطو ومدرسة الإسكندرية، ثم منذ إدخال العرب للعلم الطبيعي إلى غرب أوروبا. أمَّا إذا كان علينا أن نركِّز أنظارنا على فترة محدَّدة بعينها، تعد نقطة تجمُّع، فلا بد أن تكون هي الفترة التي أدَّت فيها قواعد بيكون وأفكار ديكارت وكشوف جاليليو، منذ حوالي قرنَين من الزمان، إلى إيقاظ الذهن البشري من سُباته. ففي تلك الفترة قامت روح الفلسفة الوضعية تعارض المذاهب الخرافية والمدرسية التي كانت تشوِّه قبل ذلك الطابع الحقيقي لكل علم. ومنذ ذلك الوقت، أصبح تقدُّم الفلسفة الوضعية وتدهور المرحلتَين الأُخريَين من الوضوح بحيث لا يشك ذهن عاقل، في وقتنا هذا، في أن الثورة صائرة حتى منتهاها، حين يدخل كل فرع للمعرفة، عاجلًا أو آجلًا، في نطاق الفلسفة الوضعية. هذا هدف لم يتحقَّق بعد؛ إذ إن بعض فروع المعرفة ما زال خارجًا عن هذا النطاق، ولن تكتسب الفلسفة الوضعية طابع الشمول اللازم لإقامتها بصورة نهائية إلا إذا أصبحت كل العلوم داخلة في هذا النطاق.
والهدفان، مع تميُّز كل منهما عن الآخر، لا ينفصلان؛ إذ لا قيام، من جهة، لفلسفة وضعية دون أساس من العلم الاجتماعي، الذي لولاه لَمَا كانت شاملةً لكل شيء. وليس في وسعنا، من جهة أخرى، متابعة العلم الاجتماعي دون أن نكون قد تأهَّبنا لذلك بدراسة ظواهر أقل تعقيدًا من الظواهر الاجتماعية، وتزوَّدنا بمعرفةٍ للقوانين والوقائع السابقة التي تؤثِّر في العلم الاجتماعي. ورغم أن العلوم الأساسية لا تتساوى في درجة أهميتها للأذهان العادية، فليس فيها ما يمكن تجاهله في بحث كهذا، وكلها في نظر الفلسفة ذات قيمة متساوية لرفاه الإنسان. وحتى تلك التي تبدو أقلها أهمية، لها قيمتها الخاصة؛ إمَّا لاكتمال منهجها، وإمَّا لأنها أساس ضروري للباقين جميعًا.
مزايا الفلسفة الوضعية: الآن، وقد أوضحنا الروح العامة لهذه الدروس في الفلسفة الوضعية، فلنلقِ نظرةً على المزايا الرئيسية التي يمكن استخلاصها لصالح التقدُّم البشري من دراسة هذه الفلسفة. ولنُشِر بوجه خاص إلى أربع من هذه المزايا:
الفلسفة الوضعية تُلقي ضوءًا على الوظيفة العقلية. تتمثَّل في دراسة الفلسفة الوضعية الوسيلة المعقولة الوحيدة لعرض القوانين المنطقية للذهن البشري، وهي القوانين التي كانت تُلتمس من قبلُ بوسائل غير سليمة.
إذا ما نظرنا إلى هذه الوظائف من الناحية السكونية — أي إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الظروف التي تخضع لها في وجودها — لوجب علينا أن نُحدِّد الظروف العضوية لهذه الحالة، وهو مبحث ينقُلنا إلى مجال التشريح وعلم وظائف الأعضاء. أمَّا إذا تأملنا الناحية الحركية، فسيكون علينا أن نكتفي بدراسة ممارسة القوى العقلية للجنس البشري ونتائجها، وهي دراسة لا تزيد ولا تنقص عن الموضوع العام للفلسفة الوضعية. وبالاختصار، فعلينا أن ننظر إلى جميع النظريات العلمية على أنها وقائع منطقية هامة بنفس مقدار هذه النظريات. وعندئذٍ لا يكون علينا، لكي نصل إلى معرفة القوانين المنطقية، إلا أن نقوم بملاحظة دقيقة لهذه الوقائع. ولمَّا كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة الظواهر العقلية، فسوف يؤدِّي هذا إلى استبعاد علم النفس المزيَّف، الذي هو المرحلة الأخيرة للاهوت. ذلك لأن علم النفس هذا يزعم لنفسه القدرة على تحقيق كشف قوانين الذهن البشري بتأمُّله في ذاته؛ أي بفصله عن العلل والمعلولات. ومثل هذه المحاولة، التي تنطوي على تحدٍّ للدراسة الفيسيولوجية لأعضائنا العقلية، وخروج على مناهج البحث العقلي، لا يمكن أن تنجح في أيامنا هذه.
إن الفلسفة الوضعية، التي ظلَّت في صعود منذ أيام بيكون، قد اكتسبت الآن مكانةً بلغت من العلو حدًّا جعل الميتافيزيقيين أنفسهم يدَّعون أنهم يبنون علمهم المزعوم على ملاحظة للوقائع؛ فهم يتحدَّثون عن وقائع ظاهرة وباطنة، ويزعمون أن الأخيرة هي موضوع بحثهم. وما أشبه هذا بالقول إن الإبصار يُفسَّر بطبع الأشياء المضيئة لصورها على حدقة العين! وهو زعم يرد عليه علماء وظائف الأعضاء بقولهم إنه لا بد عندئذٍ من عين أخرى ترى الصورة. وعلى هذا النحو ذاته قد يلاحظ الذهن جميع الظواهر ما عدا ظواهره الخاصة. وقد يقال إن في استطاعة عقل الإنسان ملاحظة انفعالاته؛ لأن مركز العقل بعيد، إلى حد ما، عن مركز الانفعالات في المخ، ولكن لا يمكن وجود ما يماثل الملاحظة العلمية للانفعالات إلا من الخارج؛ إذ إن ثورة الانفعالات تبعث الاضطراب في ملكات الملاحظة إلى حد ما. أمَّا القيام بملاحظة عقلية للعمليات العقلية، فأمر أكثر من ذلك استحالة. فهنا يكون العضو الملاحِظ والملاحَظ واحدًا، ولا يمكن أن يكون عمله طبيعيًّا خالصًا. فلا بد لعقلنا، لكي يلاحظ، أن يكف عن نشاطه، غير أن هذا النشاط بعينه هو ما نود ملاحظته؛ فلو لم توقِف هذا النشاط، لَمَا استطعت أن تلاحظ، ولو أوقفته لَمَا وجدت شيئًا تلاحظه. وإن نتائج هذا المنهج لتتناسب مع مقدار امتناعه؛ فبعد ألفَي عام من البحث النفساني لم توضع قضية واحدة يرضى عنها أتباع هذا العلم، بل إنهم لينقسمون حتى يومنا هذا إلى مدارس متعدِّدة، ما زالت تختلف على المبادئ الأولى لمبحثها. ويبدو أن هذه الملاحظة الباطنة تؤدِّي إلى نظريات تبلغ في كثرتها مبلغ عدد الملاحظين. ومن العبث أن نتساءل عن كشف واحد، عظيم أو ضئيل، تمَّ من خلال هذا المنهج.
ولقد أدَّى الباحثون النفسانيون بعض الخير إذ أبقوا على فاعلية أذهاننا، في وقتٍ لم يكن أمام ملكاتنا أن تفعل فيه ما هو أفضل من ذلك، وربما كانوا قد أضافوا شيئًا إلى ذخيرتنا من المعرفة. وإذا كانوا قد فعلوا ذلك فإنما كان هذا بفضل ممارسة المنهج الوضعي؛ أعني بملاحظة تقدُّم الذهن البشري في ضوء العلم؛ أي بأن يكفوا مؤقتًا عن أن يكونوا باحثين نفسانيين.
وإن الرأي الذي قلنا به الآن فيما يتعلَّق بالعلم المنطقي ليتجلَّى بوضوح أعظم إذا ما تأمَّلنا الفن المنطقي.
فالمنهج الوضعي لا يمكن الحكم عليه إلا مُطبَّقًا. ولا يمكن تأمُّله في ذاته، بمعزل عن العمل الذي يُطبَّق عليه. وعلى أية حال فمثل هذا التأمل لن يكون إلا دراسةً مجدبة، لا تنتج شيئًا في العقل الذي يبدِّد وقته فيها. وقد نتحدَّث ما شاء لنا الحديث عن المنهج، ونصفه بعبارات غاية في الدقة، ومع ذلك لا نكون قد عرفنا عنه نصف ما يعرفه ذلك الذي طبَّقه مرةً واحدة على حالة واحدة من حالات البحث الفعلي، حتى لو لم تكن له أية غاية فلسفية. وهكذا فإن قراءة الباحثين النفسانيين لقواعد بيكون ومقالات ديكارت قد أدَّت بهم إلى الخلط بين أحلامهم وبين العلم الصحيح.
ورغم أنني لا أجزم بإمكان وضع منهج صحيح للبحث أوليًّا، على نحو مستقل عن الدراسة الفلسفية للعلوم، فمن الواضح أن أحدًا لم يقم بهذه المحاولة بعد، وإننا لا نستطيع القيام بها الآن؛ فنحن لا نستطيع حتى الآن أن نفسِّر العمليات المنطقية الكبرى، بمعزل عن تطبيقاتها. ولو حدث أن أصبح هذا ممكنًا، فسيظل من الضروري عندئذ، مثلما هو ضروري الآن، أن نُكوِّن عادات عقليةً مفيدة بدراسة التطبيق المنظَّم للمناهج العلمية التي سنكون قد توصَّلنا إليها.
تلك إذن هي النتيجة الهامة الأولى للفلسفة الوضعية؛ الكشف، بالتجربة، عن القوانين التي يخضع لها العقل في البحث عن الحقيقة، وبالتالي معرفة القواعد العامة المناسبة لهذا الغرض.
إحياء التعليم: ثانيًا: وللفلسفة الوضعية تأثير ثانٍ لا يقل أهميةً عن الأول، وإن تكن الحاجة إليه أشد إلحاحًا؛ وأعني به إحياء التعليم.
فأفضل العقول تتفق على أن تعليمنا الأوروبي، الذي لا يزال لاهوتيًّا وميتافيزيقيًّا وأدبيًّا في أساسه، ينبغي أن يُستبدل به تعليم وضعي، ملائم لعصرنا وحاجاتنا. بل إن حكومات هذه الأيام قد بدأت هي ذاتها في بذل محاولات لإيجاد تعليم وضعي، أو ساهمت بنصيب في مثل هذه المحاولات، وهذا دليل واضح على الشعور العام بما نحن في حاجة إليه. ومع ذلك، فمع تشجيعنا هذه الجهود إلى أقصى حد، ينبغي ألَّا نُخفي عن أنفسنا أن كل ما بُذل حتى الآن لا يفي بالغرض؛ فالتخصُّص الحالي الشديد في أبحاثنا، وما ينجم عنه من انفصال بين العلوم، يُفسد تعليمنا. ومن الممكن أن يستمر في بحث الأوجه الخاصة للعلوم أولئك الذين تخصَّصوا في مثل هذه الأوجه، وهم أناس لا غنى لنا عنهم، وليس لنا أن نهملهم، ولكن ليس في وسع هؤلاء أنفسهم أن يجدِّدوا نظامنا التعليمي، ولا بد لكي ينتفع منهم على الوجه الأكمل من أن يرتكزوا على أساس ذلك التعليم العام الذي هو نتيجة مباشرة للفلسفة الوضعية.
•••
إعادة تنظيم المجتمع: رابعًا: تكوِّن الفلسفة الوضعية الأساس المتين الوحيد لإعادة التنظيم الاجتماعي التي ينبغي أن تعقب المرحلة الحرجة التي تمر بها الآن معظم الأمم المتمدينة.
ولا حاجة بنا إلى أن نثبت لكل من يقرأ هذا الكتاب أن الأفكار تحكم العالم، أو تلقي به في براثن الفوضى، أو بعبارة أخرى أن كل العمليات الاجتماعية ترتكز على آراء؛ فالتحليل الدقيق يثبت أن الأزمة السياسية والأخلاقية الكبرى التي تمر بها المجتمعات الآن ناشئة عن الفوضى العقلية. وعلى حين أن الاستقرار في المبادئ الأساسية هو الشرط الأول للنظام الاجتماعي الأصيل، فإنا نعاني خلافًا أساسيًّا نستطيع أن نعده شاملًا. وإلى أن يتسنَّى الاعتراف بعدد معين من الأفكار العامة على أنها نقطة التلاقي في المذهب الاجتماعي، ستظل الأمم في حاله ثورية، مهما وُضعت لها من المسكِّنات، ولن تزيد نظمها على أن تكون مؤقَّتة. أمَّا حين يتسنَّى الاتفاق الضروري على المبادئ الأولى، فسوف تظهر منها نظم مناسبة، دون اصطدام أو مقاومة؛ إذ سيكون الاتفاق وحده عاملًا على القضاء على أسباب الاضطراب. وفي هذا الاتجاه ينبغي أن تتجه أنظار أولئك الذين يتطلَّعون إلى حالة طبيعية منظمة سوية للمجتمع.
ولا شك في أن الاضطراب القائم يفسِّره على أكمل وجه وجود الفلسفات المتضاربة الثلاث في آنٍ واحد؛ أعني الفلسفة اللاهوتية والميتافيزيقية والوضعية. ففي وسع أيٍّ من هذه الفلسفات وحدها أن تضمن نوعًا من النظام الاجتماعي، أمَّا إذا وجدت الثلاث معًا فمن المستحيل علينا أن نتفاهم على أية نقطة أساسية. فإذا صحَّ هذا، فكل ما علينا هو أن نعرف أيًّا من هذه الفلسفات هي التي ينبغي، حسب طبيعة الأشياء، أن تسود، فإذا ما عرفنا ذلك، فلن يملك كل شخص، أيًّا ما كانت آراؤه السابقة، إلا أن يُقر بانتصارها. وما إن ندرك طبيعة المشكلة حتى يغدو حلها قريب المنال؛ إذ إن كل الشواهد تُشير إلى أن الفلسفة الوضعية هي التي سيكون مآلها إلى الانتصار؛ فهي وحدها التي ظلَّت في تقدُّم خلال قرون من الزمان، كانت الفلسفتان الأخريان خلالها في تدهور. وهذه حقيقة لا شك فيها، وقد يأسف لها البعض، ولكن ليس في وسع أحد أن يقضي عليها، وليس في وسعه بالتالي أن يتجاهلها إلا إذا انخدع بالتأملات الباطلة. ولقد أوشك هذا الانقلاب العام للذهن البشري أن يتم، وكل ما علينا هو أن نُكمل الفلسفة الوضعية بإدخال الظواهر الاجتماعية ضمن مفهومها، ثم بالتوحيد بين الكل في مذهب واحد متجانس. وإن التفضيل الواضح الذي تُبديه جميع الأذهان، من أرفعها إلى أبسطها، للمعرفة الوضعية على الأفكار الصوفية الغامضة، ليُبشِّر بالقَبول الذي ستلقاه هذه الفلسفة عندما تكتسب الصفة الوحيدة التي تفتقر إليها الآن؛ صفة العمومية اللازمة. فعندما تصبح كاملة، ستتحقَّق سيادتها تلقائيًّا، وستعيد إشاعة النظام في كل أرجاء المجتمع. والتعارض الوحيد القائم حاليًا هو التعارض بين الفلسفتَين اللاهوتية والميتافيزيقية؛ فهما تتنافسان على مهمة إعادة تنظيم المجتمع، غير أن هذا عمل يتجاوز كثيرًا نطاق قدرة كل منهما. ولقد اقتصر تدخُّل الفلسفة الوضعية حتى الآن على اختبارهما، وهو اختبار لم تصمدا فيه على الإطلاق. والآن حان وقت القيام بعمل أكثر فعالية، دون تبديد لقوانا في جدل عقيم. حان وقت إتمام العمل العقلي الضخم الذي بدأه بيكون وديكارت وجاليليو، ببناء نظام من الأفكار الهامة التي ينبغي من الآن فصاعدًا أن تسود الجنس البشري. وعلى هذا النحو يمكن أن يوضع حد للأزمة الثورية التي تُمزِّق الأمم المتمدينة في العالم.
والآن، وقد ذكرنا هذه المزايا الأربع، ينبغي أن نتنبه إلى هذا التحذير.
لا أمل في الرد إلى قانون واحد:
ليس معنى دعوتنا إلى الجمع بين معارفنا المكتسبة كلها في نسق واحد متجانس، أننا نعتزم دراسة هذه المعارف الشديدة التنوُّع كما لو كانت صادرةً عن مبدأ واحد، وخاضعةً لقانون واحد؛ ففي المحاولات التي تُبذل لتفسير كل الأشياء عن طريق قانون واحد من البطلان ما يدعونا إلى استبعاد أي زعم من هذا القبيل عن كتابنا هذا، وإن يكن سيتضح خلال فصوله مدى افتراء هذا الزعم. فعتادنا العقلي يبلغ من الهزال، كما يبلغ الكون من التعقُّد حدًّا لا يدع مجالًا لأي أمل في أن يكون في مقدورنا المُضي في الكمال العلمي حتى أقصى درجاته في البساطة. ويبدو فضلًا عن ذلك، أن قيمة هذه النتيجة، على فرض بلوغها، قد بولغ فيها إلى حد بعيد.
وليس النظر إلى جميع الظواهر على أنها قابلة للرد إلى أصل واحد، ضروريًّا على الإطلاق لتكوين العلم بطريقة مُنظَّمة، ولا لإدراك النتائج الهائلة الماهرة التي نتوقعها من الفلسفة الوضعية. والوحدة الضرورية الوحيدة هي وحدة المنهج، وهي وحدة ثبَّتت دعائمها بالفعل إلى حد بعيد. أمَّا المذهب ذاته فلا يتعيَّن أن يكون واحدًا، بل يكفي أن يكون متجانسًا. وإذن فسوف ننظر في هذا الكتاب إلى مختلِف فئات النظريات الوضعية من هاتَين الزاويتَين؛ وحدة المنهج وتجانس المذهب. ومع استهدافنا الغاية الفلسفية لكل العلوم؛ أعني الإقلال من عدد القوانين العامة اللازمة لتفسير الظواهر الطبيعية، فسوف ننظر إلى كل محاولة تُبذل في أي وقت مقبل لردها جميعها إلى قانون واحد على أنها محاولة دعيَّة مغرورة.