قديس المذهب الحر
ولقد كانت الصفة الغالبة على مِل طوال حياته، وفي جميع مؤلفاته، هي صفة المناضل الذي شنَّ حملةً لا تكِل على شتى ألوان المذاهب الغيبية والتوكيدية واللاعقلية — التي حفل بها الفكر في القرن التاسع عشر. وكانت جميع شعاب فلسفته التي أسماها ﺑ «فلسفة التجربة» موجهةً ضد كل أنواع المطلق، سواء أتنكَّر هذا المطلق في ثوب قضايا واضحة بذاتها، أو حقائق متوارثة، أو أوامر مطلقة، أو حقوق طبيعية، أو بديهيات منطقية. ولقد فات الكثيرين من نُقاد مِل أن يُدركوا حقيقةً هامة، هي أن نظرياته المنطقية ونظريته في المعرفة، فضلًا عن فلسفته الأخلاقية والسياسية، تستهدف كلها آخر الأمر نفس الغاية الأساسية. فمثلًا كانت محاولة إيجاد أساس استقرائي بحت للمنطق الاستنباطي، هي ذاتها جزءًا من حملته الضخمة على أصحاب المذهبَين الحدسي والترنسندنتالي، الذين كانوا يستشهدون دائمًا بالطابع غير التجريبي للحقائق المنطقية والرياضية تأييدًا لمذاهبهم الأولية والتوكيدية في مجال الدين والأخلاق والسياسة. وهكذا رأى مِل أنه طالما أُعفي المنطق، والرياضة، من الخضوع لاختبار التجربة، فسوف تظل هناك حجة يرتكز عليها، من حيث المبدأ، أولئك الذين يهيبون بالحدس والوضوح الذاتي والسلطة في المجالات الأخرى التي تؤثِّر في سعادة الإنسان. وقد خطا مِل خطوةً بطولية هي إنكار وجود تمييز بين الحقائق المنطقية والحقائق الواقعية، وهو التمييز الذي كان محور المذهب التجريبي المتطرِّف عند هيوم. ومع ذلك فقد كان هدفه الرئيسي من ذلك هو تبرير الرأي القائل، إن كل معرفة على إطلاقها ينبغي أن تقوم على التجربة وتُختبر فيها، وهو رأي كان مِل يؤمن بأنه ضروري لجعل روح المذهب الفلسفي الحر تسود على الرغم من خصومه.
ومن المحال أن نعالج تفاصيل نظرية المنطق الاستقرائي في مثل هذا الحيز الضيق، وإنما ينبغي أن يقتصر بحثنا هنا على أهميتها الفلسفية الرئيسية، والمشاكل الفلسفية التي تثيرها.
لقد أدرك مِل، كما قلنا، أن جميع الفروض والتنبؤات العلمية تتجاوز «الوقائع»؛ فليس العلم على الإطلاق مجرد سجل لِمَا حدث في حالات فردية عديدة، وإنما يهتم العلم بالاطرادات العِلِّية التي تصدق بانتظام على جميع أفراد فئة معينة. ومهمته هي أن ينتقل بدقة، وعلى نحو فيه شعور بالمسئولية، من التجربة الماضية إلى مستقبل لم يُجرَّب بعد. فكيف إذن يمكن تبرير الإيمان بمثل هذه الاطرادات والتنبؤات العامة رغم أن ما تشتمل عليه يتجاوز دائمًا نطاق المعطيات المتوافرة؟ يجيب كانت، كما رأينا، عن هذا السؤال بقوله إن مبدأ العِلِّية مبدأ أولي تركيبي للذهن البشري تفترضه مقدَّمًا جميع الكائنات العاقلة عندما تفكِّر في موضوعات المكان والزمان. غير أن مثل هذا الحل لم يكن في متناول يد مِل، ومن ثم فقد اضطُر إلى افتراض أن مبدأ اطراد الطبيعة، كما أسماه، هو ذاته قائم تمامًا على التجربة. وقد عبَّر هو ذاته عن هذه المسألة تعبيرًا بلغ أقصى حدود الوضوح والدقة فقال: «علينا أن نلاحظ أولًا أن في نفس القول الذي نُعبِّر فيه عن كُنه الاستقراء، مبدأً مُتضمَّنًا، ومصادرةً بشأن مجرى الطبيعة ونظام الكون، وأعني بهما أن في الطبيعة حالات يمكن أن تُعَد حالات متوازية، وأن ما يحدث مرةً سيحدث إذا ما تشابهت الظروف بقدر كافٍ، مرةً أخرى، وليس مرةً أخرى فحسب، بل عددًا من المرات يساوي عدد مرات تكرار الظروف نفسها. فإذا ما رجعنا إلى المجرى الفعلي للطبيعة، لوجدنا فيه ما يؤيد هذا الافتراض؛ فالكون بقدر ما نعلمه، مُكوَّن بحيث إن ما يصدق على أية حالة بعينها يصدق على جميع الحالات التي تتصف بأوصاف مُعيَّنة، والصعوبة الوحيدة هي معرفة كنه هذه الأوصاف.»
غير أن المبدأ القائل إن مجرى الطبيعة مُطَّرد، وإن يكن على ما يبدو هو المبدأ الأساسي للاستقراء، لا يفسِّر، في رأي مل، العملية الاستقرائية أو يبرِّرها تبريرًا مستقلًّا. إذ إن هذا المبدأ ذاته في حاجة إلى تبرير؛ لأنه كما يعتقد مل، لا يعدو أن يكون أعمَّ فرض يمكن وضعه بشأن نظام الأشياء في الطبيعة. وفضلًا عن ذلك فهو ليس أول استقراء لنا من التجربة، بل هو واحد من أواخر استقراءاتنا. ونحن لا نصل إليه إلا بعد القيام باستقراءات وتعميمات خاصة عديدة، تتوقَّف عليها صحة هذا المبدأ إلى حد بعيد. وهكذا يبدو، بالفعل، أن مل ينظر إلى قانون اطراد الطبيعة على أنه تعميم جامع من مرتبة ثانوية، يشهد بصحته المجموع الكامل للفروض المحدودة في مجال العلم ومجال التجربة اليومية. ومعنى ذلك أن القانون في أحسن الظروف، فرض استقرائي يقتضي، ويتلقَّى بالفعل، أدلةً لا حصر لها تتجمَّع لديه من التعميمات الأضيق نطاقًا للعلوم الخاصة والتجربة المعتادة. ولكن كيف إذن يكون فيه «ضمان» لهذه الأخيرة؟ ألسنا نصادف ها هنا دورًا واضحًا، ومحاولةً عقيمة من المرء لحمل ذاته من أربطة حذائه الاستقرائية؟
ولقد أساء نُقاد مِل فهم «برهان» مِل المزعوم على مذهب المنفعة؛ فقد كان مل يدرك بكل وضوح التمييز بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون؛ أي بين الأقوال المعبِّرة عن الواقع، والأحكام التي تشير إلى ما ينبغي عمله. ويشرح مل بوضوح تام في كتابه «المنطق» — وهو كتاب أغفله الكثيرون من نقاد فلسفته الأخلاقية — فوضع التفرقة الأساسية الممكنة بين العلم والأخلاق، التي يصفها على نحو له دلالته بأنها «فن». فلم يكن في ذهنه خلط خطير حول التمييز بين المرغوب فيه والجدير بأن يكون مرغوبًا فيه، كما لم يتوهم أبدًا إمكان استنباط علم للأخلاق من القوانين النفسية أو الاجتماعية للسلوك البشري. فمِل، مثل بنتام، يرى أن من الواجب الحكم على الأفعال بنتائجها، غير أن من الواجب أن يفرض العلم تلك النتائج التي ينبغي تفصيلها. وفضلًا عن ذلك فإن مبدأ المنفعة الذي ينص على أن الأفعال لا تكون قويمةً إلا بقدر ما تؤدي إلى السعادة العامة، أو إلى أعظم سعادة لأعظم عدد من الناس، هو مبدأ سلوكي، وليس تعريفًا نوضِّح فيه الوظيفة المنطقية لكلمة «القويم». وبالاختصار، فقد كان مذهب المنفعة عند مِل، كما كانت عند بنتام، أسلوبًا للحياة، لا نظريةً في اللغة المستخدمة في الأخلاق. وعلى هذا النحو فسَّرها في القرن التاسع عشر معظم خصومها، فضلًا عن أنصارها.
ولقد أدرك مل — ربما خيرًا من أي مفكر آخر من أصحاب المذهب الحر في القرن التاسع عشر — أن الديمقراطية والعلم الفني التطبيقي ليسا بلسمًا يشفي كل العلل بطريقة آلية؛ ففي كل نظام بشري يوجد دائمًا اتجاه نحو التمسُّك بالسنن القائمة وإطاعتها دون مناقشة. وليست الديمقراطية ولا العلم المنظم بمنأًى عن هذه الاتجاهات. والوسيلة الوحيدة للقضاء على تأثيرها هي التوسيع الدائم لنطاق الحرية الفردية، والنقد الذي تتيحه الحرية. والواقع أن مِل كان أكثر فلاسفة عصره احترامًا للعلم ومناهجه. ولكنه لم يتأثر قط بإغراء فكرة التخطيط العلمي الواسع النطاق، الذي تتولاه صفوة مثقَّفة للمجتمع. بل إن تقدُّم المعرفة، الذي هو شرط التقدُّم الاجتماعي، لا يكون في رأيه ممكنًا إلا في مجتمع لا يحال فيه بين أي شخص، مهما كان بسيطًا، وبين المساهمة بدور فعلي في ذخيرتنا الشحيحة من المعرفة البشرية. فالسلطة تولِّد التعصُّب دائمًا، والتعصُّب مهما كانت «سلامته»، هو على الدوام من علائم المجتمع المغلق الذي بلغ آخر حدود القدرة على إصلاح ذاته وإنهاضها. فإذا كانت السلطة لازمةً أيضًا لإقرار القانون والنظام، كما يعلم مِل، فلا بد أيضًا أن تشعر على الدوام بأنها مقيَّدة ومسئولة، بفضل النقد الحر لأناس ذوي نفوس مطمئنة.
وأيًّا ما كانت الأخطاء التفصيلية لفلسفة مِل، فإنها ما زالت حتى اليوم نقطة البداية في تفكير معظم المؤمنين بالحرية، حول المجتمع الصالح والحياة الصالحة. وإن الكثيرين ممن لم يقتنعوا بحلوله للمشاكل المنطقية والمعرفية التي بحثها، ليشيدوا بفضله ويعتزُّون به. ولقد أُطلق عليه اسم «قديس المذهب العقلي»، غير أن مذهبه العقلي — إن كان مذهبه عقليًّا فحسب — بعيد كل البعد عن ذلك المذهب العقلي الذي قال به أسلافه في القرنَين السابع عشر والثامن عشر. وإني لأوثر أن أرى فيه «قديسًا لمذهب الحرية»، احتفظ بالمثل الأعلى للمعقولية حيًّا في عصر الأيديولوجية، دون أن تصل معقوليته أبدًا إلى حد الإفراط أو تتصف بالغرور. ومثل هذا المثل الأعلى ليس من ذلك النوع الذي يسهل المبالغة في قيمته، وهو لا يلقى استجابةً لدى معظم الباحثين وراء اليقين. غير أنه هو العلامة المميزة للذهن المتمدين، وقَبوله على نطاق عام هو الميزة للمجتمع المتمدين.
(النص)
ذلك، إذن، هو التعريف الصحيح للفظ الطبيعة. غير أن التعريف لا ينطبق إلا على واحد فقط من المعاني المتعدِّدة لهذا اللفظ.
فمن الواضح أنه لا ينطبق على بعض الأحوال التي يشيع فيها استخدام اللفظ؛ فهو مثلًا يتعارض تمامًا مع التعبير الشائع الذي يقال فيه، الطبيعة مقابل الفن (أو الصنعة)، والطبيعي مقابل الصناعي. ففي المعنى الذي عرضناه لكلمة الطبيعة، وهو المعنى العلمي الصحيح، يكون الفن (أو الصنعة) طبيعة، شأنه شأن أي شيء آخر، ويكون كل شيء صناعي طبيعيًّا؛ إذ ليست للفن قوة مستقلة خاصة به، وما هو إلا استخدام قوى الطبيعة لغاية ما؛ فالظواهر التي تُنتجها فاعلية الإنسان، مثلها مثل تلك التي تكون، من وجهة نظرنا، تلقائيًّا، تتوقَّف على خصائص القوى الأولية، أو الجواهر الأولية ومركَّباتها، ولو اجتمعت قوى الجنس البشري بأكمله لِمَا استطاعت أن تخلق صفةً جديدة للمادة بوجه عام، أو لأي نوع من أنواعها. وكل ما يمكننا هو أن ننتفع لأغراضنا الخاصة، ممَّا نجده من الخصائص.
وهكذا يبدو أن علينا الاعتراف بمعنيَين رئيسيَّين على الأقل لكلمة الطبيعة؛ فالطبيعة، بأحد المعنيَين، هي كل القوى الموجودة في العالم الخارجي أو الداخلي، وكل ما يحدث بفعل هذه القوى. وهي بالمعنى الآخر، ليست كل ما يحدث، وإنما كل ما يحدث دون تدخُّل الإنسان، أو دون تدخُّله الإرادي المقصود. وهذا التمييز لا يستنفد كل المعاني المختلفة للفظ، ولكنه مفتاح لتلك المعاني التي تتوقَّف عليها نتائج هامة.
فإذا كان هذان هما المعنيان الرئيسيان لكلمة الطبيعة، ففي أيهما، أو في أي معنًى إذن، تقال الكلمة عندما تستخدم هي ومشتقاتها للدلالة على أفكار الإطراء والاستحسان بل والإلزام الخلقي؟
•••
أمن الضروري أن نرى في هذه التعبيرات معنًى جديدًا متميِّزًا لكلمة الطبيعة؟ أم إن من الممكن ربطها، في أية وحدة معقولة، بأيٍّ من المعنيَين السابقَين؟ قد يبدو لأول وهلة أنه لا مناص لنا من الاعتراف بوجود اختلاف آخر في معنى اللفظ، فكل الأبحاث تنصَب إمَّا على ما هو كائن، أو على ما ينبغي أن يكون؛ فالعلم والتاريخ ينتميان إلى القسم الأول، والفن والأخلاق والسياسة تنتمي إلى الثاني.
غير أن المعنيَين اللذَين أوضحناهما أولًا لكلمة الطبيعة، يتفقان في الإشارة إلى ما هو كائن فحسب؛ ففي المعنى الأول تكون الطبيعة اسمًا لكل ما يوجد بذاته، دون تدخُّل بشري إرادي. غير أنه يبدو أن استخدام لفظ الطبيعة بوصفه مصطلحًا في الأخلاق يكشف عن معنًى ثالث، لا تدل فيه الطبيعة على ما هو كائن، وإنما على ما ينبغي أن يكون، أو على قاعدة أو معيار ما ينبغي أن يكون. غير أن قليلًا من التفكير كفيل بإيضاح أن هذه ليست حالة اختلاف في المعنى، وأنه ليس ثمة معنًى ثالث للكلمة ها هنا. فأولئك الذين يقولون بالطبيعة معيارًا للسلوك، لا يقصدون القول بقضية لفظية (لغوية) فحسب؛ أي إنهم لا يعنون أن المعيار، أيًّا كان، ينبغي أن يسمَّى بالطبيعة، وإنما يعتقدون أنهم يقدِّمون بعض المعلومات عمَّا يكونه معيار السلوك بالفعل؛ أي إن القائلين بوجوب سلوكنا وفقًا للطبيعة لا يعنون فقط قضية الهُوية القائلة إننا ينبغي أن نفعل ما ينبغي أن نفعل، وإنما يعتقدون أن لفظ الطبيعة يمدنا بمعيار خارجي لِمَا ينبغي أن نفعله. وإذا كانوا يختارون قاعدةً لِمَا ينبغي أن يكون، من كلمة تدل في معناها الصحيح على ما هو كائن، فإنهم يفعلون ذلك لأن لديهم فكرة، واضحةً كانت أم غامضة، مؤداها أن ما هو كائن هو قاعدة ما ينبغي أن يكون ومعياره.
وهدفنا من هذا المقال هو دراسة هذه الفكرة؛ فالمقال يعتزم البحث في حقيقة المذاهب التي تتخذ من الطبيعة مقياسًا للصواب والخطأ، وللخير والشر، أو التي تعزو فضلًا وتبدي استحسانًا، على أي نحو أو بأية درجة، لاتباع الطبيعة أو محاكاتها أو إطاعتها. ولقد كان البحث السابق الخاص بمعنى الألفاظ مقدِّمةً لا غناء عنها لهذا البحث؛ فاللغة، إن جاز هذا التعبير، هي جو البحث الفلسفي، الذي ينبغي أن يصبح أكثر صفاءً قبل أن يتسنَّى مشاهدة أي شيء من خلاله في شكله ووضعه الصحيح. ومن الضروري في هذه الحالة أن نحتاط من اختلاف آخر في المعنى، ضلَّل أحيانًا، على وضوحه، عقولًا بعضها راجح، ويحسن الإلمام به على حدة قبل المضي قدمًا في البحث. فليس ثمة كلمة ألصق ارتباطًا بلفظ الطبيعة من كلمة القانون. ولهذه الكلمة الأخيرة معنيان متلازمان، تدل في أحدهما على جزء محدد ممَّا ينبغي أن يكون؛ فحين نتحدَّث عن قانون الجاذبية، وقوانين الحركة الثلاثة، وقانون النسب المحدَّدة في التفاعلات الكيميائية، والقوانين الحيوية للكائنات العضوية، نعني أجزاءً ممَّا هو كائن. أمَّا عندما نتحدَّث عن القانون الجنائي والقانون المدني، وقانون الشرف، وقانون الصدق، وقانون العدل، فإنا نعني أجزاءً ممَّا ينبغي أن يكون، أو من افتراضات شخص ما أو مشاعره أو أوامره بشأن ما ينبغي أن يكون. فأمَّا النوع الأول من القوانين، كقوانين الحركة والجاذبية، فما هو إلا الاطرادات الملاحَظة في حدوث الظواهر؛ منها اطرادات تتعلَّق بالسابق واللاحق، ومنها اطرادات تتعلَّق بالتلازم في الحدوث. تلك هي القوانين المقصودة من كلمة «قوانين الطبيعة» في العلم، بل وفي الحديث المعتاد. أمَّا القوانين بالمعنى الآخر فهي قوانين البلاد، أو قانون الأمم، أو القوانين الأخلاقية، وهي قوانين يُقحم بينها المُشرِّعون والمتفقِّهون، كما لاحظنا من قبل، شيئًا يعتقدون أن من الصحيح تسميته بقانون الطبيعة.
وعندما يقال صراحةً أو ضمنًا إن من الواجب الاتفاق مع الطبيعة أو قوانينها، فهل يكون المقصود بالطبيعة هنا، الطبيعة بالمعنى الأول؛ أي كل ما هو كائن؛ أي قوى الأشياء كلها وخصائصها؟ من الواضح أنه لا حاجة بهذا المعنى إلى توصية للفعل وفقًا للطبيعة، ما دامت هي ما لا يملك أحد إلا أن يفعله، سواء أصاب في فعله أم أخطأ. فليس ثمة طريقة للسلوك لا تتفق مع الطبيعة بمعناها هذا، وهذا يسري بنفس القدر على كل طرق السلوك؛ فكل سلوك إنما هو ممارسة قوة طبيعية ما، وتأثيراته أيًّا كان نوعها، هي بدورها ظواهر طبيعية، تُنتجها قوى وخصائص بعض الأشياء الطبيعية، وتتبع فيها بكل دقة واحدًا أو أكثر من قوانين الطبيعة. وإنه لمن الممتنع أن نطلب إلى الناس أن يسلكوا وفقًا لقوانين الطبيعة، في الوقت الذي لا يملكون فيه من القوة إلا ما منحتهم إياه الطبيعة، وفي الوقت الذي يستحيل فيه عليهم ماديًّا أن يفعلوا أقل شيء إلا من خلال واحد من قوانين الطبيعة. والأمر الذي يلزم أن يوضَّح لهم، هو تحديد تلك القوانين الطبيعية التي ينبغي عليهم أن يطبِّقوها في حالة مُحدَّدة.
ومع ذلك، فرغم أن من الأمور العقيمة أن تدعو الناس إلى أن يفعلوا ما لا يملكون إلا أن يفعلوه، ورغم أن من الممتنع أن تضع للسلوك القويم قاعدةً تتفق تمامًا مع ما يسري على السلوك المنحرف؛ فقد يكون من الممكن وضع قاعدة عاقلة للسلوك على أساس العلاقة التي ينبغي أن تجمع بين السلوك وبين قوانين الطبيعة بأوسع معنًى لهذه الكلمة. فصحيح أن المرء يُطيع بالضرورة قوانين الطبيعة، أو بعبارة أخرى صفات الأشياء، ولكنه لا يسترشد بها بالضرورة. ورغم أن كل سلوك مُتفِق مع قوانين الطبيعة، فليس كل سلوك قائمًا على معرفة بها، وموجَّهًا على نحو عاقل إلى بلوغ أهدافه عن طريقها. ورغم أننا لا نستطيع أن نُحرِّر أنفسنا من قوانين الطبيعة في مجموعها؛ ففي وسعنا التهرُّب من أي قانون بعينه من قوانين الطبيعة، إذا ما استطعنا أن نبتعد بأنفسنا عن الظروف التي يسري فيها هذا القانون. ورغم أننا لا نفعل شيئًا إلا من خلال قوانين الطبيعة، ففي وسعنا استخدام قانون مقابل الآخر. وكما يقول بيكون في كلمته المأثورة؛ ففي وسعنا إطاعة الطبيعة على نحو نسيطر به عليها. فكل تغيير في الظروف يُغيِّر، إلى حد كثير أو قليل، قوانين الطبيعة التي نسلك بمقتضاها، وفي كل اختيار نقوم به للغايات أو الوسائل، نُخضع أنفسنا إلى حد قليل أو كثير لمجموعة من قوانين الطبيعة دون غيرها. وعلى ذلك فلو غيَّرنا الدعوة العقيمة إلى اتباع الطبيعة، إلى قاعدة لدراسة الطبيعة، وإلى معرفة خصائص الأشياء التي يتعيَّن علينا التعامل معها والاهتمام بها، بقدر ما يتسنَّى لهذه الخصائص أن تُساعد على تحقيق هدف معين أو تعوقه، فعندئذٍ يكون قد توصَّلنا إلى المبدأ الأَوَّلي لكل فعل عاقل، أو على الأصح إلى تعريف الفعل العاقل ذاته، ولا ريب عندي في أن هناك فكرةً باطنة عن هذا المبدأ الصحيح في أذهان الكثيرين ممن يقولون بالمبدأ الفارغ المشابه له سطحيًّا؛ فهم يُدركون أن الفارق الأساسي بين السلوك الحكيم والأهوج ينحصر في الاهتمام أو عدم الاهتمام بتلك القوانين الخاصة للطبيعة، والتي تتوقف عليها نتيجة هامة ما. وهم يعتقدون أن الشخص الذي يهتم بقانون للطبيعة، كما يصوغ سلوكه وفقًا له، يمكن أن يقال عنه إنه يطيعه، على حين أن الشخص الذي يُهمله عمليًّا، ويسلك كما لو لم يكن لمثل هذا القانون وجود، يمكن أن يقال عنه إنه يوصيه. وفاتهم أن ما يُسمَّى عصيانًا لقانون للطبيعة إنما هو إطاعة لقانون آخر، وربما لنفس القانون.
•••
إن كل مديح يُزجى إلى المدنية أو الفن أو العقل المبتكر، إنما هو في الآن نفسه ذم للطبيعة، واعتراف بالنقص الذي يتعيَّن على الإنسان، تحقيقًا لرسالته وبلوغًا لكماله، أن يسعى على الدوام إلى إصلاحه أو تقويمه.
ولقد أدَّى الشعور بأن كل ما يفعله الإنسان لتحسين حاله هو في الآن نفسه كبت وإحباط للنظام التلقائي للطبيعة، أدَّى هذا الشعور في كل الأزمان إلى إلقاء ظل من الشك الديني في مبدأ الأمر على المحاولات الجديدة المبتكرة لتحسين هذه الحال؛ إذ نُظر إلى هذه المحاولات على أن فيها تحديًا، وربما إهانة، للكائنات ذات القدرة (أو إلى الموجود القادر على كل شيء، عندما حلَّ التوحيد محل تعدُّد الألوهية)، التي يُفترض أنها تسيطر على مختلِف ظواهر الكون، والتي كان يُنظر إلى مجرى الطبيعة على أنه تعبير عن إرادتها. وهكذا كان من السهل أن تبدو أية محاولة لتسخير الظواهر الطبيعية من أجل راحة البشر، تدخُّلًا في تحكُّم هذه الكائنات العليا، ورغم أنه كان من المستحيل الاحتفاظ بالحياة — ناهِيَك بإعلائها — دون تدخُّل دائم من هذا النوع، فقد كان كل تدخُّل جديد يقترن حتمًا بالرعب والرعدة، حتى تُثبت التجربة أن من الممكن ممارسته دون جلب نقمة الآلهة. ومع ذلك فما زالت هناك فكرة غامضة مؤدَّاها أنه رغم أن السيطرة على هذه الظاهرة الطبيعية أو تلك أمر مستحب، فإن النظام العام للطبيعة إنما هو أنموذج لنا نحتذيه، وإننا مع ممارستنا لقدر، قلَّ أو كثر، من الحرية في التفاصيل، ينبغي علينا أن نسترشد في سلوكنا عامةً بروح السلوك الطبيعي واتجاهه العام. وإن هذه أمور من صنع الله، ومن ثم فهي كاملة، وإن الإنسان لا يستطيع منافسة كمالها المعجز، وإن أكثر ما يستطيع به أن يُظهر قدرته وتقواه، هو أن يحاول الإتيان بمثيل لها، مهما كان نقص المحاولة. وإنه إذا لم تكن إرادة الخالق تتبدَّى في نظام الطبيعة التلقائي كله، فإنها تتبدَّى على الأقل، بمعنًى خاص، في أجزاء خاصة منه، تُختار وفقًا لهوى المتحدِّث، وتكون بالنسبة إليه أشبه بإشارات الطريق تدل على الاتجاه الذي قُصد من الأشياء عامة، وبالتالي من أفعالنا الإرادية، أن تسير فيه. هذا النوع من الآراء، وإن يكن المجرى المضاد للحياة يكبته في الظروف المعتادة، يظل على استعداد للانطلاق كلما صمت العُرف، ولم تجد الهواجس الكامنة في الذهن شيئًا يعارضها سوى العقل، وهكذا نجد أهل البلاغة يستشهدون على الدوام بمثل هذه الآراء، فتكون النتيجة هي أنه إذا لم يقتنع الخصوم، فسوف تطمئن على الأقل نفوس أولئك الذين يعتنقون من الآراء ما يرغب أهل البلاغة في نشره.
فإذا كانت هذه الفكرة القائلة بمحاكاة أساليب العناية الإلهية كما تتبدَّى في الطبيعة، لا تجد إلا في أحوال نادرة تعبيرًا صريحًا مباشرًا عنها بوصفها قاعدةً للسلوك تنطبق بشكل عام، فإنها أيضًا لا تجد من يناقضها إلا في أحوال نادرة. وهكذا تجد من يصادفونها في طريقهم يفضِّلون الالتفاف حول العقبة بدلًا من مهاجمتها؛ إذ إنهم هم أنفسهم ليسوا في كثير من الأحيان متحرِّرين من هذا الرأي، وهم على أية حال يخشَون أن يجلبوا على أنفسهم تهمة الزندقة إذا ما قالوا شيئًا قد يُعد مزريًا بآثار قدرة الخالق. وهكذا تجدهم في معظم الأحيان يحاولون أن يُبيِّنوا أن لديهم من الحق في الحجة الدينية مثل ما لخصومهم، وأنه إذا كان المسلك الذي يوصون به يبدو متعارضًا مع بعض أساليب العناية الإلهية، فإنه في جزء آخر منه يتفق معها على نحو أفضل ممَّا تتفق عليه معها مزاعم خصومهم، وفي مثل هذه الطريقة في معالجة المغالطات الأولية الكبرى، يؤدِّي تقدُّم الفهم إلى محو أخطاء معينة، على حين تظل أسباب الخطأ على ما هي عليه، ولا ينالها من أي نزاع إلا أقل سوء. ومع ذلك فإن السلسلة الطويلة من هذه الانتصارات الجزئية تؤدي إلى تراكم السوابق التي يمكن الاستعانة بها ضد هذه الأفكار السابقة الراسخة، والتي تعطينا أملًا متزايدًا في أن يجيء اليوم الذي يُضطر فيه الرأي الباطل، بعد أن كثرت مرات تراجعه، إلى التسليم دون قيد ولا شرط. إذ إنه مهما بدت تلك القضية جارحةً لشعور المتدينين، فمن واجبهم أن يقبلوا دون مواربة مواجهة الحقيقة الصريحة القائلة إن نظام الطبيعة، بقدر ما تظل بمنأًى عن تدخُّل الإنسان، له صفات يستحيل معها أن يكون كائن عادل رحيم قد صنعها بقصد أن يجعل مخلوقاته العاقلة تتخذ منها مثلًا يُحتذى. فإذا كانت الطبيعة كلها من صنع مثل هذا الكائن، ولم تشترك في صنعها كائنات لها صفات مختلفة كل الاختلافات، فلا يمكن إلا أن تكون عملًا تُرك ناقصًا عن عمد، يتعيَّن على الإنسان، في مجاله المحدود، أن يمارس العدل والرحمة في تقويمه. والواقع أن أفضل الناس كانوا يرَون دائمًا أن جوهر الدين هو في أن يجعل أسمى واجب للإنسان على الأرض إصلاح ذاته، ولكنهم جميعًا، باستثناء المترهبنين السلبيين، قد أضافوا إلى ذلك، في قرارة أنفسهم (وإن لم يكونوا في معظم الأحيان على استعداد للجهر بذلك بنفس القدر من الوضوح) واجبًا دينيًّا آخر هو إصلاح العالم، لا في جزئه البشري فحسب، بل في جزئه المادي أيضًا؛ أي إصلاح الطبيعة المادية.
•••
هذا العرض الموجز يكفي كل الكفاية لإثبات أن للإنسان نفس الواجب بالنسبة إلى طبيعته الخاصة وبالنسبة إلى طبيعة كل الأشياء الأخرى؛ ألَا وهو أن يصلحها، لا أن يتبعها. ومع ذلك فإن بعض الناس، الذين لا يحاولون أن يُنكروا وجوب إخضاع الغريزة للعقل، يُذعنون للطبيعة إلى حد أنهم يقولون إن من الواجب أن يترك لكل ميل طبيعي مجال عمل ما، ومنفذًا لإشباعه، فهم يقولون إن كل الرغبات الطبيعية لا بد قد غُرزت في النفس لغرض ما، ويمضون في هذه الحجة إلى حد أنهم كثيرًا ما يقولون إن كل رغبة، يُفترض أن الشعور بها أمر طبيعي، لا بد أن يكون لها في نظام الكون مجال مقابل لإشباعها، وذلك بقدر ما يعتقد الكثيرون (مثلًا) أن الرغبة في إطالة الحياة إلى أجل غير محدَّد هي ذاتها دليل كافٍ على حقيقة الحياة الأخرى.
وفي رأيي إن كل هذه المحاولات الرامية إلى كشف مقاصد العناية الإلهية بالتفصيل من أجل إعانة هذه العناية على تحقيق هذه المقاصد بعد الاهتداء إليها، هي محاولات ممتنعة من أساسها؛ فأولئك الذين يستنتجون من دلائل معينة أن العناية الإلهية تقصد هذا الأمر أو ذاك، إمَّا أن يعتقدوا أن في استطاعة الخالق فعل ما يريد، أو أن هذا ليس في استطاعته. فإذا أخذنا بالفرض الأول، وقلنا إن العناية الإلهية قادرة على كل شيء، لكانت العناية الإلهية تقصد كل ما هو حادث، وكون الشيء حادثًا يُثبت أن العناية الإلهية قد قصدته. فإن كان الأمر كذلك، فإن كل ما يستطيع الإنسان عمله مُقدَّر من العناية الإلهية من قبل، وما هو إلا تحقيق لمقاصدها. أمَّا إذا لم تكن العناية الإلهية تقصد كل ما يحدث، وإنما تقصد الخير فقط، وهو الرأي الأقرب إلى نفوس المتدينين، فإن في وسع الإنسان عندئذٍ أن يساعد مقاصد العناية الإلهية بقدرته وأفعاله الإرادية، ولكنه لا يستطيع أن يعرف هذه المقاصد إلا بالبحث فيما يؤدِّي إلى تحقيق الخير العميم، إلا فيما يميل الإنسان إليه بطبيعته؛ إذ إنه لمَّا كان من المُحتَّم أن تتصف القدرة الإلهية، في هذا المعنى، بالقصور، نتيجةً لِمَا يعترضها من عقبات غامضة وإن تكن كأداء، فمن ذا الذي يعرف أنه كان من الممكن خلق الإنسان دون رغبات لن تُشبع أبدًا، بل ولا ينبغي أن تُشبع على الإطلاق؟ إن الميول التي وُهبت للإنسان، وكذلك أية قوًى أخرى ممَّا يشاهده في الطبيعة، قد لا تكون تعبيرًا عن الإرادة الإلهية، وإنما قد تكون هي الأغلال التي تعوق الفعل الحر لهذه الإرادة. فإذا ما استرشدنا بها في توجيه سلوكنا، فقد نقع في فخ نصبه لنا العدو. والواقع أن الافتراض القائل إن كل ما يتسنَّى للخير اللامتناهي، أن يرغبه، يحدث بالفعل في هذا الكون، أو أن علينا على الأقل ألَّا نقول أو نفترض أبدًا أنه لا يحدث، مثل هذا الافتراض لا يليق إلا بمن يؤدي بهم الخوف الذليل إلى التوسُّل بالأكاذيب إلى كائن يدَّعون أنه لا يُخدع، وأن نقمته تحل على كل زور وبهتان.
أمَّا الافتراض الخاص القائل إن الميول الطبيعية، وكل النزعات التي تبلغ من الشمول والتلقائية حدًّا يُتيح إدراجها في باب الغرائز، لا بد أن توجد لغايات طيبة، وأن كل ما ينبغي أن نفعله إزاءها هو أن ننظمها، لا أن نقمعها. أمَّا هذا الافتراض فإنه يصدق بالطبع على معظمها؛ إذ إنه ما كان يتسنَّى للنوع البشري أن يستمر في الوجود ما لم تكن معظم ميوله متجهةً إلى أمور لازمة أو مفيدة لبقائه. ولكن ينبغي — ما لم تُحدَّد الغرائز بعدد قليل جدًّا — أن نعترف بأن لدينا أيضًا غرائز فاسدةً يجب أن تستهدف التربية، لا تنظيمها، وإنما استئصالها، أو على الأصح إخمادها بعدم الاستعمال (وهو أمر يمكن تحقيقه حتى بالنسبة إلى الغرائز).
ولكن حتى لو صحَّ أن لكل ميل أوَّلي في الطبيعة البشرية جانبه الصالح، وأن من الممكن بالتدريب الصناعي الكافي أن نجعل نفعه يفوق ضرره، فما أقل ما نستخلصه من هذا، إذا كان من المعترف به على أية حال أنه لولا هذا التدريب لأدَّت كل هذه الميول، حتى الضرورية منها لبقائنا، إلى ملء العالم بؤسًا، وإحالة حياة الإنسان إلى نسخة مُكبَّرة لتلك الصورة القبيحة من العنف والإرهاب الذي يتمثَّل في بقية عالم الحيوان، إلا ما استأنسه وهذَّبه منه الإنسان. ولو شاء أولئك الذين تخيَّلوا في أنفسهم القدرة على استشفاف مقاصد الخالق في خلقه أن يكونوا منطقيين مع أنفسهم، لرأوا في ذلك دليلًا يثبت صحة النتيجة التي يتهرَّبون منها. فلو كان ثمة أي مظهر لمقصد خاص في الخلق، لكان من أوضح الأمور المقصودة أن يقضي جزء كبير من الحيوانات حياته في تعذيب والتهام غيره من الحيوانات. وإذا لم نكن مضطرين إلى الاعتقاد بأن خلق الحيوان من عمل الشيطان، فذلك لأنه لا يتعيَّن علينا افتراض أن هذا الخلق من عمل كائن لا متناهي القدرة. أمَّا لو قلنا إن قاعدة السلوك المطبقة في هذه الحالة هي محاكاة الإرادة الإلهية كما تتمثل في الطبيعة، فإن أشنع فظائع الأشرار من الناس تجد لها عندئذٍ كل مبرِّر في المقصد المزعوم للعناية الإلهية، القاضي بأن يلتهم القوي الضعيف في كل أرجاء الطبيعة الحية.
•••
•••
ومن المفيد هنا أن نوجز في كلمات قليلة أهم نتائج هذا البحث:
فلكلمة الطبيعة معنيان رئيسيان؛ فهي إمَّا أن تدل على نظام الأشياء كاملًا، ومعه مجموع خصائصها، أو على الأشياء كما تكون إذا لم يتدخَّل فيها الإنسان.
والمذهب القائل بوجوب اتباع الإنسان للطبيعة عقيم بالنسبة إلى المعنى الأول؛ إذ ليس للإنسان قدرة أن يفعل أي شيء سوى اتباع الطبيعة، وكل أفعاله تتم من خلال واحد أو أكثر من القوانين المادية أو الذهنية للطبيعة، وتطيع هذه القوانين.
أمَّا بالمعنى الثاني، فإن المذهب القائل بوجوب اتباع الإنسان للطبيعة، أو اتخاذه من المجرى التلقائي للأشياء أنموذجًا لأفعاله الإرادية، لا يقل عن ذلك افتقارًا إلى المعقولية والأخلاقية.
فهو يفتقر إلى المعقولية لأن كل فعل إنساني، أيًّا كان، قوامه تغيير المجرى التلقائي للطبيعة، وكل فعل مفيد قوامه إصلاح هذا المجرى.
وهو يفتقر إلى الأخلاقية؛ إذ إنه لمَّا كان مجرى الظواهر الطبيعية زاخرًا بكل ما يبعث على التقزُّز والنفور إذا ما ارتكبه الإنسان، فإن من يحاول محاكاة المجرى الطبيعي للأشياء في أفعاله يغدو في نظر الجميع وبإقرارهم أشر الناس جميعًا.
إن من المحال أن يكون الهدف الوحيد، أو حتى الهدف الرئيسي، لنظام الطبيعة، منظورًا إليه في سياقه الكامل، هو صالح الكائنات البشرية أو الكائنات الحاسَّة الأخرى. وكل ما يجلبه لهم من خير إنما هو ثمرة جهودهم الخاصة. وكل ما يبدو في الطبيعة دليلًا على مقصد خير، يثبت أن القدرة التي يتسلَّح بها هذا الخير محدودة، وواجب الإنسان هو أن يتعاون مع القوى الخيِّرة، لا بمحاكاة مجرى الطبيعة، بل بالسعي الدائم إلى تقويمه، وإلى التقريب المتزايد بين ذلك الجزء الذي نستطيع السيطرة عليه منها، وبين المثل الأعلى للعدل والخير.