نبي التطوُّر
ظلَّت النظرة التطوُّرية إلى دراسة الظواهر العضوية، حتى عهد قريب نسبيًّا، تسيطر لا على علوم الحياة فحسب، بل على علوم الإنسان أيضًا. وقد كان لوجهة النظر هذه تأثير عميق كذلك في مجرى التفكير الفلسفي في القرن التاسع عشر؛ ولذا تعيَّن علينا أن نقول في هذه الصفحات شيئًا عن نظريات تشارلس دارون؛ ذلك لأن موقع هذه النظريات من الفلسفات العلمية في القرن التاسع عشر، يشبه إلى حد معين موقع النظريات الفلكية والفيزيائية لكبرنك وكيلر وجاليليو ونيوتن من التأملات الفلسفية في العصر السابق.
ولم يكن دارون يقصد من «الصراع من أجل الحياة» نظريةً غائية تُنسب إلى كل الكائنات العضوية غرضًا أو إرادةً للحياة، وإنما كان ذلك في نظره تعبيرًا مجازيًّا لا يقصد منه إلا الإشارة إلى الحقائق الملاحَظة التي تدل على أن كل حياة تعتمد دومًا على البيئة الطبيعية، وعلى أن الأشياء الحية تتجه في مثل هذه البيئة إلى التنافس من أجل البقاء. وفضلًا عن ذلك فالصراع من أجل الحياة إنما هو وجه واحد فقط من أوجه ظاهرة عضوية عامة، هي التكيف العضوي مع بيئة تتضمن ظروفًا مادية متغيرة، وكذلك تكيُّفًا متنافسًا للأنواع. أمَّا «الانتقاء الطبيعي» فلم يقصد منه دارون إلا الطريقة التي تشجِّع بها البيئة في مجموعها صفات معينة، وتُحبط صفات أخرى، بحيث تحفظ التغيرات النوعية المؤدية إلى البقاء، بينما تختفي تلك التي تعرض البقاء للخطر.
أمَّا الشعار المشهور «البقاء للأصلح»، فلم يقل به دارون، وإنما قال به هربرت سبنسر. فلقد كان دارون ذاته حريصًا على تجنُّب أية نتائج أخلاقية مزعومة لنظرياته، ولم يكن ممَّا سعى دارون ذاته إلى إثباته ذلك الرأي الشائع المنسوب إلى من يسمون ﺑ «الداروينيين الاجتماعيين»، والقائل إن الأقدر على البقاء هم الذين يستحقون البقاء. كذلك كان دارون حريصًا كل الحرص على التزام حدود فرضه؛ فهو لم يدَّع لنفسه القدرة على تفسير أصل الحياة ذاتها، ولم يقل إنه يعرف بدقة أسباب تلك التنوعات التي تكون هي العامل الأصلي في تحديد مختلِف الأنواع العضوية. ولقد رفض تلك النتيجة التي حاول البعض استخلاصها من نظريته، ألَا وهي أن الأنواع «العليا» أفضل تكيفًا مع بيئتها من الأنواع «الدنيا». وكانت مهمة معاصره هربرت سبنسر هي أن يستخلص النتائج الفلسفية الرئيسية للنظرية التطورية؛ فعلى يدَيه تحوَّلت تلك النظرية إلى مركب ضخم للمعرفة البشرية، له فلسفته الخاصة في الكونيات والأخلاق والسياسة.
ولا يكفي لتحديد موقع فلسفة سبنسر أن نبحث في صِلاته بدارون، بل ينبغي أيضًا أن نضع هذه الفلسفة مقابل الفلسفات السابقة عليها، ولا سيما فلسفة هيجل وكونت؛ فقد وضع كلٌّ من هيجل وكونت نظريات عن مسار التاريخ، غير أن اهتمامهما كان منصبًّا في المحل الأول على مسار الأفكار والنظم البشرية. ولم يُبدِ أي منهما اهتمامًا جديًّا بالمسائل الكونية، كما لم يبذل أي منهما محاولةً جدية لوضع قوانين شاملة لمسار التاريخ، لا تنطبق على تقدم الأفكار والنظم البشرية فحسب، وإنما تنطبق أيضًا على الحياة في مجموعها، بل على الكون المادي بأسره. والواقع أن معظم فلاسفة القرن التاسع عشر قبل سبنسر، لم يكونوا يكترثون بالمسائل الكونية التي طالما اهتمَّ بها الفلاسفة في القرن السابع عشر. وكانت النظرية التطورية هي التي حفَّزت مرةً أخرى خيال الفلاسفة إلى الانطلاق بحرية خلال الكون في مجموعه، وإلى وضع نظرة شاملة إلى العالم من خلال مفهوم المسار التطوري.
ويُشير التقابل بين سبنسر وكونت بكل وضوح إلى طريقتَين مختلفتَين أثَّر بهما العلم الحديث في الفلسفة؛ ففي نظر كونت، وكذلك معظم الوضعيين، كان أهم ما في العلم من الوجهة الفلسفية هو المنهج، وكما رأينا من قبل، فقد كانت الوحدة الوحيدة للعلم، التي دافع عنها كونت، هي وحدة المنهج.
أمَّا سبنسر، الذي وصف نفسه بأنه فيلسوف علمي أيضًا، فقد كان موقفه من العلم مختلفًا؛ فهو يرى، مثل كونت، أن المنهج العلمي هو، بمعنًى واسع، المنهج الوحيد للمعرفة البشرية. وبين فلسفته وبين الوضعية والتجريبية أوجه شبه كثيرة، غير أن ما أعجبه في العالم لم يكن منهجه فحسب، وإنما صورة العالم ومركز الإنسان فيه كما توحي بهما الفروض الأساسية في العلوم الفيزيائية وفي العلوم البيولوجية على وجه أخص. وربما كانت «فلسفته التركيبية» منظورًا إليها في مجموعها، أعظم جهد بذله واحد من فلاسفة القرن التاسع عشر لتنظيم وتشكيل المعرفة العلمية الموجودة في عصره في مُركَّب فكري ضخم يسعى إلى تقديم وصف شامل للعالم الطبيعي بأسره.
ومن الممكن أن يقال إن سبنسر حين ذكر أن الدين يختص ﺑ «اللامعروف» الغامض، لم يكن يقول، أو على الأقل لم يكن يقول بالضرورة، إن الدين يختص ﺑ «كِيان» حَدَث أننا لا نستطيع أن نعرفه، وإنما قال إنه لا يصح أن يختص ﺑ «المعروفات» على الإطلاق، وأن اهتمامه «بما هو موجود» مُركَّز في اتجاه مختلف تمامًا. وفي هذا المعنى لا يكون الدين على الإطلاق علمًا بدائيًّا فاشلًا يعجز بطبيعته عن تحقيق هدفه، وإنما يكون شيئًا يختلف عن ذلك كل الاختلاف، تعثَّر خلال التاريخ، لسوء حظه، في مشاكل تفسيرية لا شأن له بها، وينبغي من الآن فصاعدًا أن يتخلَّى عنها إذا شاء أن يؤدي مهمته التي يختص بها.
غير أن سبنسر كان يعتقد أن لعملية المسار التطوري الشامل هذه وجهًا آخر بالإضافة إلى ذلك؛ فهناك اتجاه آخر يُعوِّض تأثير عملية التنوع أو التفاضل، هو اتجاه إلى التكامل، وإلى إعادة تشكيل العمليات المتفاضلة بالتدريج في مجموعات كلية جديدة ذات طابع أشمل. فهو يرى أن التعقد والتفرد المتزايد للأنواع العضوية، الذي يبلغ مداه في الإنسان، يُعوِّضه اتجاه آخر في الحياة البشرية نحو التكامل المتزايد للسلوك عن طريق العقل. كما أن التنوع أو التفاضل التطوري الذي يتمثل على المستوى الاجتماعي في التقسيم المتزايد للعمل البشري، يعوِّضه، كلما تقدمت المجتمعات، ذلك التكامل التدريجي للأفراد في تجمُّعات بشرية أشمل وأوثق في ترابطها العضوي. فإذا كان هذا كله يدخل في باب الميتافيزيقا، فإنه على أية حال من قبيل المتافيزيقا ذات الاتجاه التجريبي، التي تُبنى بطبيعتها على أدلة مستمدة من العلوم التجريبية. وهي تبدو، من وجهة نظر معينة، أشبه بقصة نجاح كبرى في ميدان الكونيات، وتوجد مُبرِّرات للنظرة الذائعة إلى سبنسر على أنه مجرد رسول يدعو إلى ذلك الوهم الهائل الذي عرف به القرن التاسع عشر، ألَا وهو «التقدم». وما أسهل أن نتصوَّر ناقدًا معاديًا يطلق على تفسيره لفلسفة سبنسر عنوان «من الفوضى الشاملة إلى الكون المنظم، أو إنجيل التقدم الشامل». غير أن في مثل هذا التفسير إجحافًا؛ فسبنسر كان يماثل معظم زملائه من مفكري العصر الفيكتوري في أنه لم يُغفل ما للمسار التطوري للتاريخ من أوجه منفِّرة. ولقد أدرك جيدًا أن التغير عملية تحلُّل مثلما هو عملية تطور، وعملية تفكك مثلما هو عملية تكامل. وفي هذا لم يكن سبنسر وحيدًا؛ فيبدو أن جميع فلاسفة الارتقاء والتطور والتقدم، الذين ينظرون إلى الحياة والنظم البشرية من خلال صورة التاريخ لا الأزل، يأتي عليهم وقت ينادون بنفس نغمة العرضية والتحولية والصراع الكامل في كل ما هو إنساني. فمن وراء التباهي والتفاؤل الظاهريَّين، والوثوق الساذج، الذي نُضفيه عادةً على العقلية الفكتورية، يوجد دائمًا شيء قريب جدًّا من الخوف، وهذا أمر لا ينبغي أن يعجب له أحد؛ إذ إن الصورة الرائعة للمسار التطوري هي أيضًا صورة للصراع العنيف من أجل البقاء.
وفي وسع فلسفة سبنسر أن تدَّعي على الأقل بأن عيوبها مقترنة بمزايا معينة، فإذا بدت تلك الفلسفة «متصنعة»، بالمعنى المجازي، فإنها تكشف أيضًا عن الاهتمام الجدي الأكبر للفيلسوف، بالتنظيم المنهجي. والواقع أن من أروع سمات فلسفة سبنسر محاولته المنهجية لتطبيق نظريته العامة في المسار التطوري، وإثبات خصبها بطريق غير مباشر، في ميدانَي النظرية الاجتماعية والأخلاق. فهنا أيضًا نجد سبنسر يقوم بدوره المميز، دور الوسيط بين وجهتَي نظر متعارضتَين؛ ولذلك فإنه يقف في هذه المجالات موقفًا وسطًا إلى حد ما، بين النزعة النفسية والفردية المتحرِّرة عند مِل، والنزعة الجماعية والاجتماعية عند كونت وهيجل.
ويقترح سبنسر قانونًا ذا مراحل ثلاث للتطور الاجتماعي، مثله في ذلك مثل كونت، وإن كان قد أدخل تعديلات طريفةً خاصة به؛ في المرحلة الأولى لا توجد أنماط أو طبقات اجتماعية محدودة المعالم، وإنما تكون المجتمعات ما زالت صغيرة، ويكون نمط التنظيم الاجتماعي متجانسًا وغير متنوع نسبيًّا، حيث يؤدِّي كل فرد أو كل أسرة كل شيء لنفسه أو لنفسها. والمرحلة الثانية ذات طابع «عسكري»، تكون الحكومة فيها فائقة التركيز ومَلَكيةً في العادة، ويكون العرف صارمًا والفروق الطبقية واضحة والعقيدة متسلطة. وأخيرًا تأتي مرحلة تتميَّز بها المجتمعات الصناعية الحديثة، يتزايد فيها تقسيم العمل، ويزداد الاهتمام بالتجارة والإنتاج، ويتضاءل دور الحكومات المركزية، وتضعف بالتدريج النظم الاجتماعية التقليدية المتسلِّطة. وقد رأى سبنسر أن حضارة إنجلترا في القرن التاسع عشر تقترب تدريجيًّا من هذا النظام، بما فيه من تقدم علمي وتكنولوجي سريع، ومن تجارة حرة عالمية، ونظم سياسية واجتماعية متزايدة التحرر، تُحدَّد فيها العلاقات البشرية بالاتفاق أو التعاقد، لا بالمركز الموروث أو الوظيفة.
وقد سخر الكثيرون في عصر اتسم بالممارسة العملية للماركسية، فضلًا عن التفكير النظري فيها، من نظرية سبنسر المضادة للماركسية في أصل الاشتراكية وطبيعتها، ووُصفت بأنها «غير تاريخية» أو برجوازية فحسب. غير أن وجهات النظر تتغير، ومن الممكن افتراض أن أعداء الماركسية سيكتشفون من جديد في سبنسر مفكرًا ذا قدرة فائقة على التنبؤ، وطبيبًا شخَّص التطورات التالية للحضارة الغربية ببراعة.
ولم تكن عيوب مجتمع القرن التاسع عشر لتفوت سبنسر، ولكن من الصفات المميزة لسبنسر، شأنه في ذلك شأن معظم الأذهان المصقولة الأصيلة، أنه كان يبني تفكيره على أساس «الدرجات»؛ فهو لم يكن محافظًا، ولم يكن ثوريًّا، وإنما كان من أنصار التدرج، فرأى أن الانتقال من أية مرحلة للمجتمع إلى أخرى ينطوي على فترة من المسار التطوري. وفضلًا عن ذلك فإنه يترك المجال مفتوحًا لحدوث تطور أخلاقي يعلو على تلك الجنة الضئيلة الشأن، التي وعدت بها الديمقراطية الصناعية في القرن التاسع عشر، وهو يرى أن من الضروري، لكي نتصور ما سيكون عليه هذا التطور، أن ننتقل من علم الاجتماع والتاريخ إلى علم الأخلاق؛ فكل قانون أخلاقي مرتبط بنظام اجتماعي معين، وهو حتمًا يستهدف حفظ وإنهاض نوع الحياة الموجود في ظل هذا النظام الخاص. وعلى ذلك فإن قانونه الخاص يرمي إلى تحقيق أعظم امتلاء ممكن للحياة كما يتصورها ممثِّل مستنير للمجتمع الذي عاش هو ذاته فيه. ومن المحتم على كل نشاط أخلاقي في هذا المجتمع أن يكون شاملًا تكامليًّا، متجهًا إلى السعادة العامة. أمَّا في المجتمع الفاضل، الذي هو إسقاط مثالي لميول وأمانٍ موجودة بالفعل، فإن الواجبات الإلزامية تُخلي مكانها بالتدريج لغيرية حرة متعاطفة، لا ترتكز على «الضمير» الذي قال به كانت، أو على الشعور بالواجب، وإنما على دوافع غيرية تلقائية ترضينا على الفور.
ولكن من سوء الحظ، كما يدرك سبنسر، أن المجتمع الفاضل لم يوجد بعد؛ فالغيرية، في ظل الأوضاع الحالية، ما زالت واهنةً تفتقر إلى الانتشار. وفي رأيه أن التقدم الأخلاقي لن يتحقق إلا بازدياد تقدم النظام الاجتماعي في مجموعه. ولقد كانت واقعية سبنسر، في مذهبه الأخلاقي، مرتبطةً بالنزعتَين التطورية والبيئية عنده؛ فالسلوك الأخلاقي، شأنه شأن أي نوع آخر من السلوك، هو نوع من التكيف، تتحكم فيه الظروف الخاصة التي يجد فيها الفرد نفسه وجميع الأفراد مندمجين، طوعًا أو كرهًا، في الصراع من أجل العيش. وتتوقف مدى استجابتهم للصراع على الوضع الاجتماعي الذي يتحتَّم عليهم أن يسلكوا فيه بوصفهم كائنات عضويةً مكيفة اجتماعيًّا، أكثر ممَّا يتوقف على «دوافع» تجريدية معينة كالأنانية أو الحب. فالغيرية، من حيث هي صورة فعلية للسلوك الاجتماعي، لا تكون ممكنة إلا في مجتمع تلزمه الغيرية ليضمن بقاءه. وهكذا يكون ما يعنيه سبنسر بالفعل هو أننا لا نقترب من المجتمع الفاضل إلا إذا ازداد كمال التوافق بين مصالح الفرد الشخصية وبين التزاماته الاجتماعية، أو تضمَّن سعيه وراء سعادته الشخصية تحقيق مواقفه المتجهة إلى الغير؛ أي مواقفه «الأخلاقية».
ولا يسعني، في ختام هذه الملاحظات الخاصة بفلسفة سبنسر، إلا أن أُوجِّه كلمةً فيها ثناء متحفظ، وربما كانت فيها نبوءة أيضًا؛ فعندما نقارن مذهبه، في عمومه، بالمذاهب الفلسفية المفرطة الادعاء في القرن التاسع عشر، نجدها أكثر اتزانًا وجدية من معظم هذه الفلسفات. صحيح أن أخطاءه كانت كثيرة، ولكنها لم تكن راجعةً إلى افتقار إلى الاجتهاد، أو إلى أي تجاهل متعمد للوقائع، أو اجتهاد في تعقُّبها، وتلك فضيلة عظيمة الشأن. وإذا كان سبنسر قد تعجَّل في التعميم أكثر ممَّا ينبغي، فقد كان ذلك على الأقل تعميمًا من وقائع ملاحظة، ومن الممكن تصحيح أخطائه بنفس عملية الملاحظة والتعميم الاستقرائي. ولكن هذا لا يمكن أن يقال على كثير من معاصريه. ولقد كان أسلوب سبنسر في الكتابة مفرطًا في واقعيته وجموده، ولكن إذا كانت كلماته ثقيلةً غير شاعرية، فإن لخياله الذي اصطبغ في أساسه بصبغة كونية وتاريخية، نواحيه الشعرية الخاصة، وهكذا كان هو بطريقته الثقيلة الخاصة، الشاعر الفلسفي لمسرحية التطور الهزلية الجادة. وعلى أية حال فإن للقارئ العادي أن يقرأ فلسفته حسب معانيها الظاهرة، لا بوصفها أسطوريةً خفية يكمن معناها الأساسي في موضع آخر. فللمرء أن يُقبل عليه أو يعرض عنه، ولكنه على الأقل سيعلم في معظم الأحيان ما هو مقبل عليه أو معرض عنه. والمشكلة هي أنه، مع كثرة ما يوجَّه إليه من انتقاد، قليلًا ما يقرأ. ولو كان يقرأ، لارتفعت أسهمه الفلسفية في رأيي إلى حد ما؛ فسبنسر على خلاف هيجل، مفكر بلا أسرار. ولكن إذا لم تكن فلسفته غامضةً على الإطلاق، فإنه أقوى من بعض نقاده شعورًا بالسر الكامن الذي ينبض به قلب الوجود. وأنا على العموم، رغم تحفظاتي الكثيرة، أماثل سانتايانا في أنني «من معسكر سبنسر».
أمَّا نبوءتي فهي أن الاهتمام بسبنسر سيُبعث مرةً أخرى. فإذا كان عصره قد بالغ في قيمته، فإن عصرنا قد قلَّل من قدره. والواقع أن مُثله العليا لا تختلف أساسًا عن مثل ذلك النصف من العالم، الذي يسمي نفسه، بشيء من البلاهة، باسم «العالم الحر». وفي وقت كهذا يكون لعقلية سبنسر المعتدلة، بما فيها من جمود وصرامة، مزاياها العديدة.
«… تنطوي المعرفة المتسقة على أكثر من إيجاد الارتباطات، فعلينا ألَّا نقنع برؤية كل مجموعة صغيرة من الحقائق تحتل مكانها وسط مجموعة أكبر منها، وبرؤية المجموعات الكبرى تتسق فيما بينها، وإنما الواجب أن نبتعد مسافةً ما، فننظر إلى التركيب العام من بُعد تغيب فيه التفاصيل الصغيرة عن الأنظار، لنلاحظ طابعه العام.
فهدفنا في هذا الفصل يتجاوز نطاق تلخيص ما سبق، بل يتجاوز نطاق العرض المنظَّم له؛ إذ إننا سنجد أن الحقائق العامة التي توصَّلنا إليها من قبلُ تكشف في مجموعها، من نواحٍ معينة، عن وحدة لم نلاحظها من قبل.
وهناك أيضًا سبب خاص لملاحظة الطريقة التي تترابط بها مختلِف الأقسام والفروع التي عرضنا فيها وجهة نظرنا، ذلك هو أن النظرية العامة التي عرضناها تجد لها ها هنا مثلًا أخيرًا يؤيِّدها.
فالجمع بين التعميمات التي عرضناها من قبلُ متفرقة، في صورة تامة التكامل، يزوِّدنا بمثل آخر لعملية التطور، وفيه دعم آخر للنسيج العام لنتائجنا.
فعندما تساءلنا عن كنه الفلسفة، وعندما قارنا مختلِف آراء الناس في الفلسفة؛ رغبةً في الاهتداء إلى العنصر المشترك بينها بعد حذف العناصر المختلِف عليها، وجدنا فيها كلها ذلك الرأي الضمني القائل إن الفلسفة معرفة تامة التوحيد. فبغض النظر عن كل نظام خاص من المعرفة الموحَّدة، وعن المناهج المقترحة التي يفترض أن التوحيد يتم بها، وجدنا في كل حالة اعتقادًا بأن التوحيد ممكن، وبأن غاية الفلسفة هي الوصول إليه.
وبعد أن توصَّلنا إلى هذه النتيجة، نظرنا في المعطيات التي ينبغي أن تبدأ بها الفلسفة، فوجدنا أن القضايا الأساسية؛ أي القضايا التي لا تُستنبط من قضايا أخرى أكثر منها أولية، لا تُحدَّد إلا إذا بَيَّنا أن كل النتائج التي نبلغها على أساس افتراض هذه القضايا متوافقة تمامًا، وهكذا بدأنا بالمقدمة القائلة إن هذه القضايا ستظل تُفترض حتى تثبت على هذا النحو، فاستمددنا معطياتنا من العناصر المكوِّنة لعقلنا، والتي يستحيل دونها أن تستمر العمليات العقلية التي ينطوي عليها التفلسف.
وبعد تحديد هذه القضايا الخاصة، انتقلنا إلى بعض الحقائق الأولية؛ «عدم فناء المادة»، و«استمرار الحركة»، و«دوام القوة»، وهي حقائق تُعد الأخيرة منها هي الأساسية، والأخريان مشتقتَين. ولمَّا كان قد تبيَّن لنا من قبلُ أن تجاربنا المتعلقة بالمادة والحركة ترتد إلى تجارب متعلقة بالقوة، فقد اتضح لنا أيضًا أن الحقيقتَين القائلتَين إن المادة والحركة لا تتغيران كمًّا، إنما هما نتيجتان متضمَّنتان في الحقيقة القائلة إن القوة لا تتغير كمًّا. وانتهينا إلى أن هذه هي الحقيقة التي يتعيَّن إثبات جميع الحقائق الأخرى بالاشتقاق منها.
وكان الاستنباط الثاني هو أن القوى التي تبدو مفقودةً تتحول إلى ما يعادلها من القوى الأخرى، أو على العكس من ذلك، أن القوى التي تظهر بعد أن لم تكن ظاهرة، هي نتيجة اختفاء قوى معادلة كانت موجودةً من قبل. وقد وجدنا أمثلةً لهذه الحقائق في حركات الأجرام السماوية، وفي التغيرات الحادثة على سطح الأرض، وفي جميع الأفعال العضوية وفوق العضوية.
وقد بَيَّنا أيضًا أن الأمر كذلك في القانون القائل إن كل شيء يتحرك في الاتجاه الأقل مقاومة، أو الأقوى جذبًا، أو حاصلهما. وبَيَّنا أن الأمر كذلك في جميع أنواع الحركات، من حركات النجوم حتى حركات الشِّحنات العصبية والرياح التجارية، وأن فكرة دوام القوة تُحتِّم أن يكون الأمر كذلك.
•••
كما انتهينا إلى نتيجة أخرى هي أن الفلسفة، كما نفهمها، ينبغي ألَّا تقتصر على توحيد التغيرات المتمثِّلة في ظواهر عينية منفردة فحسب، كما ينبغي ألَّا تقف عند حد توحيد التغيرات المتمثِّلة في فئات منفردة من الظواهر العينية، بل ينبغي أن توحَّد التغيرات المتمثِّلة في جميع الظواهر العينية. فإذا كان قانون عمل كل عامل يصح على الكون بأسره، فلا بد أن يكون الحال كذلك في القانون الجامع بين هذه القوانين. وعلى ذلك فإن أعلى توحيد تسعى إليه الفلسفة ينبغي أن يكون في فهم الكون من حيث هو مطابق لهذا القانون الجامع.
وعندما نظرنا إلى الأمر من زاوية أكثر عينية، رأينا أن القانون الذي نسعى إليه لا بد أن يكون قانون إعادة التوزيع الدائمة للمادة والحركة؛ فكل مما يحدث من تغيرات، ابتداءً من تلك التي تُغيِّر ببطء تركيب مجرَّتنا الفلكية، حتى تلك التي تكوِّن تحللًا كيميائيًّا، هي تغيرات في المواقع النسبية للأجزاء المكوِّنة، وهي كلها تتضمَّن بالضرورة ظهور تنظيم جديد للحركة مقترن بتنظيم جديد للمادة، ويترتَّب على ذلك أنه لا بد من وجود قانون لإعادة التوزيع المتلازمة للمادة والحركة، وهو قانون يسري على كل تغير، ولا بد، لكونه عاملًا على توحيد جميع التغيرات، أن يكون هو أساس الفلسفة.
وعندما بدأنا في البحث عن هذا القانون الشامل لإعادة التوزيع، تأملنا مشكلة الفلسفة من وجهة نظر أخرى، ورأينا أن حلَّها لا يمكن إلا أن يكون على النحو الموضح. وقد بَيَّنا أن أية فلسفة تبلغ الحد المنشود من الاكتمال لا بد أن تصوغ السلسلة الكاملة للتغيرات التي تمر بها الموجودات فُرادى وجماعات عند انتقالها من غير المدرَك إلى المدرَك، وكذلك من المدرك إلى غير المدرك. ولو بدأت الفلسفة تفسيرها بموجودات لها بالفعل صور عينية، أو انتهت وما زالت لهذه الموجودات صور عينية، لكان المعنى الواضح لذلك هو أن لهذه الموجودات سوابق ماضيةً أو تطورات مقبلة أو كلَيهما معًا، وأن تلك الفلسفة لم تقدِّم تفسيرًا لهذه السوابق أو التطورات. وهكذا رأينا أن ذلك يستتبع ضرورةً كون الصيغة التي ننشدها، والتي تنطبق على الموجودات وهي فُرادى مثلما تنطبق عليها مجتمعة، قابلة للانطباق على التاريخ الكامل لكل منها والتاريخ الكامل لها كلها. هكذا ينبغي أن تكون الصورة المثلى للفلسفة، مهما كان الواقع بعيدًا عن تحقيقها.
وهكذا تبيَّن لنا أن ذلك هو قانون الدورة الكاملة للتغيرات التي يمر بها كل موجود. وقد رأينا فضلًا عن ذلك أن هذا القانون، إلى جانب انطباقه على التاريخ الكامل لكل موجود، ينطبق أيضًا على كلٍّ من تفاصيل ذلك التاريخ؛ فالعمليتان تحدثان في كل لحظة، ولكن هناك دائمًا نتيجةً تفاضلية لصالح العملية الأولى أو الثانية. ولا بد أن يؤدي كل تغيير، حتى لو كان مجرد تبدل لمواضع الأجزاء، إلى إحداث هذه العملية أو تلك.
وقد ميَّزنا بين النوعَين المختلفَين للتطور، الناجمَين على هذا النحو، فأسمينا أحدهما بالتطور البسيط والآخر بالتطور المركَّب، ثم انتقلنا إلى بحث الظروف التي تحدث فيها إعادات التوزيع الثانوية التي تجعل التطور مركَّبًا، فوجدنا أن المجموع المتركِّز الذي يفقد بسرعة ما ينطوي عليه من حركة أو يتكامل بسرعة، لا يتكشَّف إلا عن تطور بسيط، ولكن بقدر ما يؤدي كِبره، أو التركيب الخاص لمكوناته، إلى إعاقة انتشار حركته، فإن أجزاءه، مع مرورها بإعادة التوزيع الأولية التي تُسفر عن تكامل، تمر بإعادات ثانوية تؤدي إلى درجات متباينة من التعقد.
غير أنا رأينا أن إعادات التوزيع الثانوية هذه لا تجد لها، على هذا النحو، تعبيرًا كاملًا. فعلى حين أن الأجزاء التي ينحل إليها أي كل تزداد اختلافًا بعضها عن البعض، فإنها تزداد في الوقت ذاته تميُّزًا.
كذلك أشرنا إلى أن هذا التنظيم للمادة يقترن، في كل التطورات، سواء منها غير العضوية وفوق العضوية، بتغيُّر موازٍ في تنظيم الحركة المحتواة؛ أي إن كل زيادة في التعقد التركيبي تنطوي على زيادة مقابلة في التعقد الوظيفي. وبَيَّنا أن اندماج الجزئيات في كتل، يقترن باندماج لحركة الجزئيات في حركة الكتل، وأنه بمثل السرعة التي يحدث بها تنوع في أحجام التجمعات وأشكالها وعلاقاتها بالقوى الحادثة، يحدث أيضًا تنوع في حركاتها.
ولمَّا كان التحول الذي اهتدينا إليه ها هنا على وجهَين منفصلَين لا يعدو في ذاته أن يكون تحولًا واحدًا، فقد تحتَّم توحيد هذَين الوجهَين المنفصلَين في مفهوم واحد، والنظر إلى إعادة التوزيع الأولية وإعادات التوزيع الثانوية على أنها تعمل في آنٍ واحد على حدوث نتائجها المختلفة؛ ففي كل حالة نجد أن التحول من البساطة غير الواضحة إلى التعقد الواضح المتميز، في توزيع المادة والحركة معًا، يحدث مع تركز المادة وفقدان حركتها الداخلية، ومن هنا فإن إعادة توزيع المادة وحركتها المحصورة فيها، تتم من تنظيم منتشر ومطرد ولا محدد نسبيًّا، إلى تنظيم مركز كثير الصور ومحدد نسبيًّا.
لقد نظرنا حتى الآن إلى قانون التطور على أنه يصدق على كل نوع من الموجودات على حدة، غير أن عرض الاستقراء على هذا النحو يجعله يفتقر إلى ذلك الاكتمال الذي يكتسبه عندما ننظر إلى مختلِف أنواع الموجودات هذه على أنها تكوِّن بأسرها كُلًّا طبيعيًّا واحدًا. فعندما ننظر إلى التطور على أنه ينقسم إلى تطور فلكي، وجيولوجي، وبيولوجي، ونفساني، واجتماعي … إلخ، قد يبدو أن انطباق قانون واحد للتحول على كل هذه التقسيمات إنما هو من قبيل المصادفة إلى حد ما. ولكنا إذا ما أدركنا أن هذه التقسيمات ليست إلا تجمعات مصطلح عليها، أُجريت تيسيرًا لتنظيم المعرفة واكتسابها، وإذا تذكَّرنا أن الموجودات المختلفة التي تتعلق بها هذه التقسيمات كل على حدة، إنما هي أجزاء مكوِّنة من كون واحد، لتبيِّن لنا على التو أنه ليس ثمة أنواع متعدِّدة من التطور لها سمات معينة مشتركة، وإنما هناك تطور واحد يسري على كل شيء وعلى نحو واحد. ولقد لاحظنا مرارًا أنه في الوقت الذي يتطور فيه أي كل، يحدث على الدوام تطور الأجزاء التي ينقسم إليها هذا الكل. ولكننا لم نلاحظ أن هذا يسري بنفس القدر على مجموع الأشياء، وهو المجموع المؤلَّف من أجزاء، من أعظمها إلى أصغرها. ونحن نعلم أنه في الوقت الذي يتزايد فيه كبر تجمُّع مترابط ماديًّا، كجسم الإنسان، ويكتسب شكله العام بالتدريج، يحدث نفس الأمر لكل من أعضائه، وأنه في الوقت الذي ينمو فيه كل عضو ويصبح مختلفًا عن الآخرين، يحدث تفاضل وتكامل في أنسجته وأوعيته المكوِّنة له؛ وأنه حتى مكونات هذه المكونات تتزايد كل على حدة، وتتحول إلى تركيبات يزداد لا تجانسها وضوحًا. ولكنا لم نلاحظ بما فيه الكفاية أنه في الوقت الذي يتطور فيه كل فرد، يتطور كذلك المجتمع الذي هو وحدة ضئيلة الشأن فيه، وأنه في الوقت الذي يتحول فيه مجموع السكان الذين يكوِّنون مجتمعًا إلى التكامل ويصبح لا تجانسهم أوضح، فإن المجموع الكلي، وهو الأرض، يواصل تكامله وتفاضله، وأنه في الوقت الذي تتحول فيه الأرض، التي لا تزيد في كتلتها عن جزء من المليون من النظام الشمسي إلى تركيب أكثر تركزًا، يسير النظام الشمسي ذاته على نفس النمط.
فإذا فهمنا التطور على هذا النحو، فسنجد أنه واحد لا من حيث المبدأ فقط، بل من حيث الواقع أيضًا؛ فليس ثمة تحولات كثيرة تتم على نمط متشابه، وإنما هناك تحول واحد يسري على نحو شامل، في كل الحالات التي لا يكون فيها التحول المضاد موجودًا. وفي كل مكان، كبيرًا كان أم صغيرًا، تكتسب فيه المادة التي تشغله فرديةً ملموسة أو قابلية للتمييز عن المواد الأخرى، يكون ثمة تطور حادث، أو على الأصح، يكون اكتساب هذه الفردية الملموسة بدايةً للتطور. وهذا يصح بغض النظر عن حجم المجموع وبغض النظر عن احتوائه على مجموعات أخرى.
وكانت أولى النتائج التي انتهينا إليها هي أن أي تجمُّع متجانس لا بد أن يفقد تجانسه، عن طريق تعرض أجزائه بطريقة غير متساوية للقوى الحادثة، وأن التجمع الناقص التجانس لا بد أن يتحول إلى آخر منعدم التجانس تمامًا. وقد أشرنا إلى أن قيام القوى المتباينة، والقوى التي تمارس في ظروف متباينة، بإيجاد تركيبات متباينة، يتمثل في التطور الفلكي، وأن التعديلات التي تسري على هذا الكون، كبيرها وصغيرها، يتمثل فيها كلها ارتباط متشابه للسبب بالنتيجة. وقد تجلَّى في التغيرات المبكرة للجراثيم العضوية دليل آخر على أن تغاير التركيب ينجم عن تغاير العلاقات بالعوامل المحيطة، وهو دليل يدعمه ما يطرأ على أفراد النوع الواحد من تنوع فرعي حين تختلف بيئاتهم. ورأينا أن التضاد السياسي والمهني الذي ينشأ بين أجزاء المجتمعات، يُعد دليلًا آخر على المبدأ ذاته. ووجدنا أن عدم الاستقرار الذي يتميز به دائمًا ما هو متجانس نسبيًّا، يسري أيضًا على كلٍّ من الأجزاء المميزة التي يتحول إليها الكل، بحيث يزداد اللاتجانس على الدوام.
وقد كشفت خطوة أخرى في البحث عن سبب ثانوي لتزايد تنوع الصور؛ فكل جزء متفاضل ليس مركزًا لتفاضلات أخرى فحسب، بل إنه أيضًا يخلق مزيدًا من التفاضلات؛ إذ إن نموه على نحو مخالف للأجزاء الأخرى يجعله مركزًا لردود أفعال مختلفة للقوى الحادثة، وبهذا تؤدي إضافته لقوًى عاملة متباينة، إلى تباين التأثيرات الناتجة. وقد تبيَّن أن من الممكن تتبُّع تعديد التأثيرات هذا في كل شيء في الطبيعة في الأفعال — وردود الأفعال — التي تحدث في جميع أرجاء النظام الشمسي، وفي التعقدات الجيولوجية التي لا تتوقف أبدًا، وفي التغيرات الكامنة التي تُنتجها المؤثرات الجديدة في الكائنات العضوية، وفي كثرة الأفكار والمشاعر التي تولِّدها انطباعات واحدة، وفي النتائج الدائمة التشعُّب التي يُحدثها كل مؤثر زائد يضاف إلى المجتمع، وقد أضفنا إلى ذلك نتيجةً هي أن كثرة المؤثرات تسير في متوالية هندسية مع سير اللاتجانس.
ولكي نفسِّر التغيرات التركيبية التي تُكوِّن التطور تفسيرًا كاملًا، بقي علينا إيجاد سبب لذلك التميز المتزايد الوضوح بين الأجزاء، الذي يقترن بحدوث فروق بينها. وقد تبيَّن لنا أن هذا السبب هو انفصال الوحدات المختلفة بفعل قوًى قادرة على تحريكها، ووجدنا أنه عندما تؤدي قوًى حادثة متغايرة إلى جعل أجزاء تجمُّع ما، متغايرةً في طبائع وحداتها المكوِّنة، يظهر بالضرورة ميل إلى انفصال الوحدات المتباينة كل عن الأخرى، وتكدُّس الوحدات المتشابهة. وتبيَّن أن سبب وضوح معالم التكاملات المحلية التي تقترن بتفاضلات محلية، يتمثَّل بدوره في جميع أنواع التطور؛ في تكوين الأجرام السماوية، وتشكيل القشرة الأرضية والتعديلات العضوية، وإيجاد تمييزات ذهنية، ونشوء انقسامات اجتماعية.
وأخيرًا، فقد أجبنا على السؤال عمَّا إذا كان لهذه العمليات أي حد بأنها لا بد أن تنتهي إلى التوازن؛ فذلك الانقسام والانقسام الفرعي المستمر للقوى، الذي يُغيِّر ما هو وحيد الصورة إلى شيء كثير الصور، وما هو كثير الصور إلى شيء أكثر صورًا، هو عملية تنتشر بها القوى دوامًا. وانتشارها هذا، الذي يستمر طالما ظلت هناك قوًى لا توازنها قوًى أخرى، لا بد أن ينتهي إلى السكون. وبَيَّنا أنه عندما تحدث عدة حركات سويًّا، كما هي الحال في التجمعات المختلفة الأنواع، فإن التبدُّد الأول للحركات الأصغر والتي تلقى مقاومةً أشد، يوجِد توازنات متحركةً من أنواع مختلفة، فيكوِّن بذلك مراحل انتقاليةً في الطريق إلى التوازن التام. وقد كشف لنا البحث التالي على أن هذا السبب ذاته يجعل لهذه التوازنات المتحرِّكة قدرات معينةً على حفظ ذاتها، ويتضح ذلك في تعادل الانحرافات وفي التكيف مع الظروف الجديدة. وقد تعقَّبنا هذا المبدأ العام المتعلق بالتوازن، كما فعلنا في المبادئ العامة السابقة، في جميع صور التطور — الفلكي منه والجيولوجي والبيولوجي والذهني والاجتماعي. وكان استنتاجنا النهائي هو أن المرحلة الأخيرة للتوازن في العالم العضوي، وهي المرحلة التي تستقر فيها أشد حالات كثرة الصور تطرفًا، وكذلك يستقر أعقد توازن متحرك، لا بد أن تكون مرحلة تنطوي على أعلى حالات البشرية.
•••
فقد رأينا أن التحلل لا بد أن يحلَّ بمضي الزمن.
أمَّا إذا كُنا ميالين إلى الاعتقاد بأن ما يحدث للأجزاء سيحدث بمضي الوقت للكل، فإن هذا يؤدِّي بنا إلى الرأي القائل بوجود تطورات دارت في ماضٍ سحيق وتطورات ستدور في مستقبل بعيد، وعندئذٍ لا يعود في وسعنا أن نتأمل العالم المنظور على أنه ذو بداية أو نهاية محددة، أو على أنه منعزل، وإنما يصبح متحدًا بكل الموجودات السابقة واللاحقة، وتسري على القوة المتمثلة في الكون نفس ما يسري على المكان والزمان، من حيث إنها لا تقبل أي تحدُّد في الفكر.
فقد بَيَّنا في ذلك الجزء، من خلال تحليل الأفكار الدينية والعلمية معًا، أنه مع استحالة معرفة العلة التي تُحدث تأثيرات في الوعي، فإن وجود «علة» لهذه التأثيرات هو من معطيات الوعي. والإيمان ﺑ «قوة» تعلو على المعرفة هو ذلك العنصر الأساسي في الدين، الذي يبقى من وراء كل تغيرات صوره. وقد ثبت أن هذا الإيمان القاهر هو بالمثل ما يُبنى عليه كل علم دقيق. وهذه بدورها هي النتيجة التي تؤدِّي بنا إليها تلك النظرة التركيبية الشاملة التي نقدِّمها الآن؛ فالاعتراف بقوة دائمة، تتغيَّر مظاهرها أبدًا ولكن لا تتغيَّر كميتها في كل وقت مضى وكل وقت مقبل، هو في اعتقادنا الأساس الوحيد لإمكان كل تفسير عيني، وهو في نهاية الأمر ما يوحِّد كل التفسيرات العينية.
ومن الواضح أن كل بحث علمي أو ميتافيزيقي أو لاهوتي كان، ولا يزال، يسير نحو الوصول إلى نتيجة كهذه. ويظهر هذا التقدم بوضوح في تبلور النظرات التعددية إلى الآلهة في نظرة موحَّدة، وتحوُّل النظرة الموحدة بالتدريج إلى صورة تزداد شمولًا، يندمج فيها العلو التشخيصي في الكمون الكوني، كذلك يظهر في تواري النظريات القديمة عن «الماهيات» و«الإمكانيات» و«الفضائل الخفية» … إلخ، وفي التخلي عن مذاهب ﮐ «المُثل الأفلاطونية» و«الانسجام المقدَّر»، وما شابهها، وفي الاتجاه إلى التوحيد بين «الوجود» كما يتمثَّل في الوعي، وبين «الوجود» كما يتحدَّد على نحو آخر خارج الوعي، بل إنه لأوضح من ذلك في تقدم العلم، الذي كان منذ البداية يعمل على جمع وقائع متفرقة في قوانين، والتوحيد بين قوانين خاصة في قوانين أعم، وبذلك يصل إلى قوانين تزداد عموميةً بالتدريج، إلى أن أصبح تصور القوانين الكلية الشاملة مألوفًا لدينا.
ولمَّا كان التوحيد هو الصفة المميزة لتطور جميع أنواع الفكر، ولمَّا كان من حقنا أن نستنتج أنه سيتم التوصل إلى الوحدة بمضي الوقت، فإنا نجد في ذلك تأييدًا آخر للنتيجة التي توصَّلنا إليها؛ إذ إن الوحدة التي وصلنا إليها ينبغي أن تكون هي الوحيدة التي يتجه إليها التفكير المتطور، ما لم تكن هناك وحدة أخرى أعلى منها.
•••
ذلك لأنه، مع اعترافنا بأن جميع تغيرات الظواهر قد تكون نتائج مباشرةً أو غير مباشرة لبقاء القوة، فلا يمكن الإتيان بدليل على ذلك إلا جزئيًّا. وما التقدم العلمي إلا تقدم في هذا التكيف للفكر مع الأشياء، الذي رأيناه واقعًا، ولا بد أن يستمر في الوقوع، وإن لم يكن يصل في أي وقت إلى ما يقرب من الكمال. ومع ذلك، فرغم أن العلم لا يصل أبدًا إلى هذه الصورة، ورغم أنه لن يستطيع الاقتراب منها، ولو من بعيد، إلا بعد زمن طويل جدًّا، فإن من الممكن، حتى في وقتنا الحالي، تحقيق الكثير في سبيل هذا التقريب.
ومن الطبيعي أن ما يمكن عمله الآن لا يمكن أن يتم على يد أي فرد واحد بعينه؛ فليس ثمة شخص واحد يملك المعلومات الموسوعية اللازمة للتنظيم الصحيح للمعلومات، حتى تلك التي سبق إثباتها. ومع ذلك، فلمَّا كان كل تنظيم، بعد أن يبدأ بخطوط عامة خافتة غامضة، يتم عن طريق تعديلات وإضافات متعاقبة، فقد يتحقَّق النفع من أية محاولة (مهما كانت بساطتها) لجمع الحقائق المتراكمة حاليًّا — أو على الأصح فئات معينة منها — فيما يشبه النَّسَق المنظم.