الديالكتيك والمادية
يمكن النظر إلى فلسفة ماركس وإنجلز، من الوجهة التاريخية، على أنها نتاج مشترك للديالكتيك الهيجلي، والمادية، والتجريبية. غير أن التصنيفات التاريخية يمكن أن تكون مضللةً في الفلسفة، كما هي الحال في بقية المجالات؛ فالعناصر الأصيلة أو الجذابة في تفكير ماركس وإنجلز لا تظهر بوضوح في هذا الوصف، وإنما تضيع منه تمامًا تلك الصفة التي جعلت الماركسية رمزًا للأيديولوجية الثورية في عصرنا؛ أعني صفة الخروج القاطع المتعمَّد على كل التقاليد الاجتماعية الكبرى للحضارة الغربية. كما أن هذا الوصف لا يوضِّح الفارق الرئيسي في المنظور بين ماركس والفلاسفة الذين سبق بحثهم في هذا الكتاب. فرغم كل ما اقتبسه ماركس منهم، فإنه خالفهم جميعًا على نحو أشد ممَّا خالف به أي منهم الباقين.
إن الخلافات الرئيسية بين المثاليين والوضعيين، كما فسرتها، لا تتعلَّق بمسائل الواقع، وإنما بمسائل المنهج والقيمة. وقد ظلَّت هذه الخلافات دائمًا منحصرةً في حدود معينة؛ فنحن لا نجد مثلًا أن واحدًا من المثاليين كفشته وهيجل، أو الوضعيين مثل كونت، أو أنصار مذهب الحرية مثل مِل، أو الطبيعيين التطوريين كسبنسر، لا نجد أن واحدًا من هؤلاء قد عدَّ نفسه ثائرًا اجتماعيًّا أو مرتدًّا عن التراث الحضاري الكامن الذي ظهرت فيه فلسفاتهم ونمت، وإنما كانوا قادةً ومصلحين حاولوا فقط أن يوضِّحوا التراث وينقُّوه ويُعدِّلوه، ولم يكن في نيتهم أبدًا أن ينشقوا عليه نهائيًّا. ولقد كانوا بلا شك مندمجين في أزمة العقل التي اشتدَّت تدريجيًّا، والتي بسطت ظلها على جميع الفلسفات منذ كانت. ومع ذلك فما زال من الممكن النظر إلى الخلافات الفلسفية بين المثاليين والوضعيين، على خطورتها، على أنها مراحل لمناقشة برلمانية مستمرة بين فئتَين مهذبتَين إلى حد غير قليل؛ إحداهما محافظة والأخرى تناصر مذهب الحرية، في الوقت الذي يلتزم فيه الجميع، بدرجات متفاوتة، النظم المتطورة السائدة في العالم المسيحي البرجوازي. وفضلًا عن ذلك فقد كانت تلك مناقشة ظلت فيها الخطوط الفاصلة بين الأحزاب واضحة المعالم، وظل النظام الحربي، في المسائل الكبرى على الأقل، محفوظًا إلى حد كبير. أمَّا عندما نأتي إلى ماركس، وإلى نيتشه وكيركجورد في الفصلَين المقبلَين، فإنا نجد هذه الخطوط تصبح غامضة، ويبدأ ظهور تقابل فلسفي من نوع أشد وأجرأ، فلم يكن واحد من هؤلاء الفلاسفة ليقنع بتغيير التراث، بل حاول كل منهم، على طريقته الخاصة، أن يهدمه. ولم يكن ما سعَوا إليه، من حيث هم فلاسفة، هو مجرد الاعتداء إلى مسلك جديد للأفكار، أو نقد جديد للعقل، وإنما شيء يقرِّب من خلق نوع جديد من الإنسان. وإن كتاباتهم تختلف، شكلًا وموضوعًا، عن كتابات السابقين عليهم إلى حد جعل كثيرًا من المؤرخين المحافظين لا يعترفون بأنهم كانوا فلاسفةً على الإطلاق. ومع ذلك فإن مذاهبهم، لا النظريات «المحترمة» لمعاصريهم الأشد تمسُّكًا بالتقاليد، هي التي كان لها أكبر الأثر (سواء أكان هذا الأثر مفيدًا أم ضارًّا) في التفكير الفعلي لعصرنا الحالي.
ولقد بدا من الواضح في نظر ماركس ونيتشه وكيركجورد، وعدد آخر قليل من المفكرين، أن من المستحيل إيجاد أي مركَّب أو توافق حضاري بين المسيحية والعلم الوضعي والمذهب السياسي التحرُّري. ولم يكن هدفهم هو التمسك بمبادئ المعقولية، وإنما كان هو الخلاص أو النجاح. وهكذا قال ماركس إن المشكلة الفلسفية ليست فهم العالم وإنما تغييره. وكان لفظ «الحقيقة» ذاته في نظر نيتشه مدعاةً للسخرية، فحيثما لا تنفع الحقيقة يلجأ نيتشه صراحةً إلى الأكذوبة الرفيعة. ومع ذلك فإن رأيه يُساء فهمه عادة؛ فهو لم يكن يعترض على الحقيقة ذاتها، وإنما على الافتراضات الفلسفية الجريئة المتعلِّقة بموضوعية المعايير التقليدية للمعقولية وشمولها؛ فالمعايير من أي نوع، إمَّا أن تُقبل اختيارًا من أجل غاية معينة، أو أن يُسلَّم بها سلبيًّا نتيجةً لخوف أو تعوُّد؛ فالأسئلة الفلسفية الهامة ليست، بالنسبة إلى نيتشه، هي تلك التي تماثل أسئلةً من نوع: «ما هو الحقيقي؟» أو «ما هو المعقول؟» أو «ما هو الخير؟» وإنما هي أسئلة من نوع: «ماذا أريد أن أفعل؟» «وماذا أريد أن أصبح؟» ويتسم كيركجورد بنفس القدر من العناد؛ فهو يدير ظهره، بكل بساطة، للمذاهب اللاهوتية «العقلية» في تراثنا. وفي رأيه أن هذه ليست إلا محاولات متعددةً غير مسيحية لصبغ فكرة المسيح بصبغة عقلية، وبالتالي فهي طرق متعدِّدة، بنفس المقدار، للتوفيق بين معناها الذاتي الباطن وبين مقتضيات العالم الدنيوي الغريبة عن هذه الفكرة. وفي رأيه أن استحالة التوفيق بين فكرة الحياة المسيحية وبين مقتضيات النظم التاريخية التي جعلها هيجل مساويةً «للروح الموضوعية» أو «العقل»، لا تقل عن استحالة مساواة الحرية الروحية بالضرورة التاريخية. ولقد كان خروجه عن المعقولية اللاهوتية في الوقت ذاته خروجًا جريئًا على النظم الراسخة للحياة البرجوازية في القرن التاسع عشر، ولم يكن أقل في جرأته وقطعيته من خروج ماركس أو نيتشه عليها.
ومن الطبيعي أن ماركس، من الوجهة الشكلية، معارض للدين، وأن فلسفته في التاريخ ترتكز على ميتافيزيقا مضادة للروحية أو مادية. ومع ذلك فإن ماديته تختلف بشدة، في اتجاهها فضلًا عن مذهبها، عن نظريات الماديين والطبيعيين السابقين عليه، فمن الملاحظ أولًا أن أبحاث الماديين الأوليين، مثل ديمقريطس، كانت تهتم إلى حد بعيد بطبيعة العالم المادي، على حين أن الاهتمام الأول عند ماركس كان منصبًّا على الإنسان والمجتمع، ولقد نظر الأولون إلى التغير على أنه مسألة حركة أو تغيير في المكان فحسب، متجاهلين تلك التغيرات الكيفية التي كانت أساسيةً في نظرية ماركس في التطور التاريخي، بل إن نظرتهم الآلية، وبالتالي اللاتاريخية (من وجهة نظر ماركس) إلى التغير، قد حالت بينهم وبين إدراك أن التاريخ عملية غير متكرِّرة، تحدث فيها، في مراحل حاسمة معينة، تغيرات أساسية لا نظير لها في الأسس المادية للتنظيم الاجتماعي.
ولعله لم يكن من قبيل المصادفة أن كثيرًا من الماديين القدامى، الذين رأوا أنه لا جديد بالفعل تحت الشمس، كانوا من المسالمين الذين دعوا إلى أخلاق شخصية قوامها الاستسلام والتأمل. أمَّا ماركس فكان داعية متطرفًا إلى العمل الإيجابي، لا يستطيع لهذا السبب نفسه أن يقبل أية ميتافيزيقا تبدو قاضيةً على الأمل في حدوث تحسن أساسي في الظروف المادية لحياة الإنسان. وبعبارة أخرى، فقد كان عليه أن يأخذ التاريخ مأخذ الجد، مدفوعًا بنفس الرغبة الشديدة إلى تملكته في الانفصال الحاسم عنه. وأخيرًا فقد قال الماديون السابقون عليه بنظرية ذرية في المادة اقترنت في أغلب الأحيان — كما في حالة هبز — بنظرية اجتماعية مماثلة، ترى أن المجتمع مجرد مجموعة من الأفراد لا تتحكَّم في علاقاتهم بعضهم ببعض إلا قراراتهم أو مصالحهم الفردية. وتبعًا لهذا الرأي تتم جميع التنظيمات الاجتماعية على أساس تعاقدي، بحيث ينطوي أي خرق للعقد الاجتماعي على تحلل عاجل للمجتمع ذاته. أمَّا نظرية ماركس الاجتماعية فتقضي بتفسير السلوك الاجتماعي «الهام» للأفراد، لا من خلال القرارات الشخصية المبنية على الاهتمام العقلي بالمصالح الخاصة، وإنما من خلال الأدوار التي يقوم بها هؤلاء الأفراد من حيث هم ينتمون إلى طبقة اقتصادية معينة، وهي أدوار محددة اجتماعيًّا. ولقد كانت الحالة الطبيعية للبشر في نظر هبز هي حالة «حرب الكل ضد الكل»، وهي حالة لا يُزيلها إلا تنصيب حاكم كامل السلطة. أمَّا في نظر ماركس، فإن الصراع هو حقًّا قانون الحياة البشرية، غير أن نظرته إلى دراسة المجتمع من خلال نُظمه العامة جعلته يرى أن الصراع الأساسي اجتماعي، وأن الصورة الأساسية للصراع الاجتماعي هي حرب الطبقات؛ لذلك كان من الضروري ألَّا ينطوي أي مذهب مادي يكون مقبولًا لديه، على استبعادٍ لإمكانية النظرة الجدية إلى القضية القائلة إن المجتمع يزيد على مجرد مجموعة من الذرات البشرية، التي لا تربطها سويًّا إلا اتفاقات من صنعها هي.
ولقد وجد ماركس في فلسفة التاريخ عند هيجل إطارًا يصلح، «إذا ما قُلب رأسًا على عقب»، لإيجاد جميع الأسس اللازمة في نظره لأية مادية تاريخية أصيلة. على أنه لم يستطع أن يقبل تفسير هيجل للتاريخ، الذي كان في نهاية الأمر تفسيرًا مثاليًّا، يبدو على الأقل أنه يعزو إلى الأفكار والمثل وحدها قوةً متحكِّمة في التغير الاجتماعي. ففي رأي ماركس أن كل تغير اجتماعي هام إنما هو تغير في الطرق المادية للإنتاج الاقتصادي. ومع ذلك فإن تحليل هيجل الفعلي للتطورات الاجتماعية يلتزم دائمًا حدود النظم الاجتماعية ذاتها، ونادرًا ما كان يرتكب ما يعده ماركس الخطأ الأصيل في الفلسفة الاجتماعية، ألَا وهو تفسير دور الفرد في المجتمع على أنه يرتبط فقط بذوقه واختياره الشخصي. فهيجل كان مثاليًّا، غير أنه كان مثاليًّا موضوعيًّا مطلقًا، وقد أتاح له هذا الاحتفاظ بمسحة من الروحية في الوقت الذي استبعد فيه عمليًّا، وبطريقة منظمة، تأثير الأغراض الشخصية في تحديد مجرى التطور الاجتماعي. غير أن الأمر الذي كان له تأثير بالغ في ذهن ماركس هو إمكانية إعادة تفسير الديالكتيك. ولم يعبأ ماركس بميل هيجل إلى الخلط بين التناقض المنطقي والتضاد أو التعارض المادي؛ إذ كان ماركس أقل احتفالًا بخصائص المنطق الصوري من هيجل ذاته. وقد لا تكون هناك قيمة للقانون الديالكتيكي الخاص بالقضية ونقيضها، من حيث هو نظرية للاستدلال المنطقي، ولكن هذا القانون أمدَّ ماركس بأداة لا نظير لها لكشف خيوط التطور التاريخي؛ فهو حين فسَّر هذا القانون «ماديًّا» بدلًا من أن يعده مجرد قانون للفكر، قد كشف لأول مرة عن طريقة عمل الديالكتيك في العالم الواقعي. ولقد كان استخدام هيجل ذاته للديالكتيك يبدو دائمًا اعتباطيًّا، لا لشيء إلا لأنه لم يكن يملك الأساس المادي الغني اللازم للقول بوجود ارتباط عِلِّي بين القضية ونقيضها، أو بين النقيض والمركب الناشئ. وهكذا كان ماركس يهدف لأول مرة من إعادة تفسير هذا القانون إلى إعطائه معنًى محددًا قد ينفع في أغراض التفسير العِلِّي الجاد والتنبؤ.
وطالما ردَّد ماركس احتجاجه القائل إن استخدامه للديالكتيك كان علميًّا فحسب. وينبغي أن ننبِّه في الوقت ذاته إلى أن الديالكتيك، كما وصفه هيجل، كان يتميَّز بسمات أُعجب بها ماركس كثيرًا. ومن هذه السمات، تلك المعقولية الكامنة التي عزاها هيجل إليه؛ فقد استطاع هيجل — وربما كان في ذلك متلاعبًا بمعنيَين للفظ «المعقول» — أن يؤكد أن أية عملية معقولية ينبغي أن تكون مفهومةً وصحيحة في الوقت ذاته. ونظرًا إلى أن «المفهومية» و«الصحة» متأصلتان في معنى المعقولية ذاتها، فقد استطاع أن يستخدم اللفظ للتعبير عن الإطراء اللاشخصي في نفس عملية تأكيد الطابع المعقول أو الخاضع للقانون في أي تطور اجتماعي. ولقد كان لهذا، من الناحية الأيديولوجية، ميزة كبرى هي إعفاء هيجل من ضرورة التعبير عن موافقته الخاصة على الديالكتيك في صورة حكم قيمة صريح.
وقد استخدم ماركس نفسه، وربما دون أن يدري بالضبط ما فعل، هذا الجانب المعياري في أساسه للديالكتيك الهيجلي في أغراضه الأيديولوجية الخاصة التي كانت مختلفةً كل الاختلاف. غير أن هذا الازدواج في معنى كلمة «المعقول» هو الذي أتاح له الاحتفاظ بسمة النزاهة العلمية الرفيعة، دون أن يحرم نفسه مزايا لغة المديح اللاشخصي. وبفضله استطاع أن يترك الديالكتيك يشير إلى وجهه الأخلاقي الخاص دون أن يُقحم عليه أي حكم ذاتي، يفترض أنه دخيل، متعلِّق بالخير أو الشر.
وهكذا كانت فكرة التقدم منسوجةً ببراعة في ثنايا الديالكتيك ذاته، وعلى هذا النحو كان تفسير ماركس المادي للتاريخ ينطوي، دون أي تأكيد خاص من ناحيته، على النتيجة الضمنية التي لم يعبِّر عنها، رغم كونها أساسية، وهي أن التطور الثوري للمجتمع هو دائمًا حركة خاضعة للقانون، تتجه إلى الأحسن. غير أن الديالكتيك كان يتسم بصفة أخرى أُعجِب بها ماركس، ألَا وهي صفة «الضرورة»، فلعله كان يكفي، في نظر ماركس العالِم، أن يقتصر المرء على إيضاح شروط التغير الاجتماعي. أمَّا من حيث هو مفكر أيديولوجي، فقد كان من الضروري جدًّا لتحقيق أغراضه أن يتمكَّن من وصف رقصة التاريخ الكبرى الثلاثية الإيقاع بأنها «ضرورية» أو «حتمية». ولا جدال في أن من واجب كل من توافرت لهم النية الطيبة أن يقبلوا عن طِيب خاطر أي تطور معقول، ولكن إذا كان هذا التطور حتميًّا أيضًا كما وصف ماركس النصر النهائي للبروليتاريا، فعندئذٍ تصبح مقاومته منعدمة الجدوى. والمسألة العملية الوحيدة، في نظر أنصار ماركس، هي مسألة التوقيت. فلن يستطيع أي شيء أن يؤجِّل تغيرًا تاريخيًّا ضروريًّا إلى الأبد. غير أن الديالكتيك لا يشير إلا إلى اتجاه للتغير، لا إلى جدول تقويمي للحوادث المقبلة؛ ولذلك ينبغي أن تفعل المنظَّمات الثورية كالحزب الشيوعي شيئًا للتعجيل بالغاية المحتومة المنشودة؛ أي المجتمع اللاطبقي.
وكثيرًا ما أكَّد نُقاد ماركس أن منطق نظريته ليس بمنأًى عن النقد.
فقيل إن مناداته بالحتمية جعلته لا يترك مجالا للحرية، وبذلك تصبح الدعوة الأيديولوجية ذاتها عديمة الجدوى. ويبدو لي أن نُقاد ماركس لم يدركوا، في هذه المسألة، أن لفظ «المحتوم»، كما استخدمه ماركس، هو في المحل الأول للفظ يُقصد منه تشجيع البعض وبث اليأس في نفوس البعض الآخر؛ فهو لا ينتمي إلى لغة الأوصاف العلمية، وإنما إلى لغة الصراع الأيديولوجي. ووظيفته التنبؤية هي أن يوقظ في عُمال العالم الشعور برسالتهم التاريخية بوصفهم محرِّري البشر، أو هذا على الأقل هو الرد الذي كان ماركس خليقًا بأن يدلي به عندما يتحدَّث من وجهة نظر أكثر واقعية.
وأول المقتطفات التي سنوردها هو مؤلف ماركس:
(النص)
- أولًا: إن العيب الرئيسي في كل مذهب مادي ظهر حتى الآن — وضمن هذه المذاهب مذهب فويرباخ — هو أن الموضوع، أو الواقع، أو المحسوس لا يُنظر إليه إلا في صورة موضوع التأمل، لا بوصفه نشاطًا حسيًّا بشريًّا، أو سلوكًا عمليًّا؛ أي ليس من الوجهة الذاتية. والذي حدث هو أن المثالية أكَّدت الوجه الإيجابي، معارِضةً بذلك المادية، غير أنها لم تؤكِّد ذلك إلا بطريقة مجرَّدة؛ إذ إن المثالية بطبيعة الحال لا تعرف الفاعلية الحسية الحقيقية بما هي كذلك. ولقد أراد فويرباخ تأكيد وجود موضوعات حسية، مميزةً واقعيًّا من الموضوعات الفكرية، غير أنه لم ينظر إلى الفاعلية البشرية ذاتها على أنها فاعلية من خلال الموضوعات. وهكذا نراه في «ماهية المسيحية» يرى أن الموقف النظري هو الموقف الإنساني الأصيل الوحيد، على حين أنه لا ينظر إلى الجانب العملي، ولا يقرِّره، إلا من خلال صورته اليهودية القذرة، من حيث هو «مظهر». ومن هنا فإنه إدراك أهمية الفاعلية «الثورية»، العملية والنقدية.
- ثانيًا: إن مسألة إمكان نسبة الحقيقة الموضوعية إلى التفكير البشري ليست مسألةً نظرية، وإنما مسألة عملية؛ ففي ميدان العمل ينبغي أن يُثبت الإنسان الحقيقة؛ أي صحة تفكيره «وقوته وانطباقه على هذا العالم». أمَّا الخلاف حول حقيقة التفكير أو عدم حقيقته، منفصلًا عن المجال العملي، فما هو إلا خلاف مدرسي.
-
ثالثًا: إن المذهب المادي القائل إن الناس نواتج للظروف
والتربية، وأن تغير الناس بالتالي ناجم عن تغيير
الظروف والتربية، يغفل أن الظروف لا تتغيَّر إلا
عن طريق الناس، وأن المربِّي ذاته ينبغي أن
يُربَّى، ومن هنا فإن هذا المذهب ينتهي بالضرورة
إلى تقسيم المجتمع قسمَين، يتعالى أحدهما على
المجتمع (كما هي الحال لدى روبرت أوين
مثلًا).
ولا يمكن تصوُّر اقتران تغير الظروف بالنشاط البشري، وفهمه فهمًا معقولًا، إلا بوصفه سلوكًا عمليًّا ثوريًّا.
- رابعًا: يتخذ فويرباخ نقطة بدايته من واقعة خروج الذات عن حدودها في الدين (religious self-alienation)، وازدواج العالم إلى عالم ديني خيالي وآخر حقيقي. ومهمته في مؤلفاته تنحصر في تفكيك العالم الديني وإرجاعه إلى أساسه الدنيوي. ولكنه يغفل أنه بعد أن يتم هذا العمل، تظل المهمة الرئيسية باقية؛ إذ إن كون الأساس الدنيوي يرفع ذاته فوق ذاته، ويستقر في السحب بوصفه عالمًا مستقلًّا، هو ظاهرة لا تفسَّر إلا على أساس الانشقاق الذاتي والتناقض الداخلي في هذا الأساس الدنيوي. وعلى ذلك فمن الواجب أولًا فهم هذا الأساس الدنيوي في تناقضه، ثم إحداث انقلاب ثوري فيه عمليًّا بالقضاء على التناقض. مثال ذلك أنه عندما يتضح أن العائلة الأرضية هي سر العائلة المقدسة، فمن الواجب عندئذٍ نقد الأولى نظريًّا وإدخال تغيير أساسي فيها عمليًّا.
- خامسًا: يؤدِّي عدم اكتفاء فويرباخ بالتفكير المجرد إلى التجائه إلى التأمل الحسي، ولكنه لا يدرك الحساسية من حيث هي نشاط عملي، وحسي بشري.
-
سادسًا: يرد فويرباخ الماهية الدينية إلى الماهية
البشرية، غير أن الماهية البشرية ليست كِيانًا
مجرَّدًا كامنًا في كل فرد على حدة، وإنما هي في
حقيقتها مجموع العلاقات الاجتماعية.
وعلى ذلك فإن فويرباخ، الذي لا يحاول نقد هذه الماهية الحقيقية اضطُر إلى:
- (١) استخلاص الشعور الديني بالتجريد من العملية التاريخية، وتثبيته، على أنه شيء في ذاته، والتسليم مقدَّمًا بوجود فرد بشري مجرد – منعزل.
- (٢) وبالتالي فهو لا يستطيع أن يفهم الماهية البشرية إلا على أنها «جنس»، وعلى أنها تعميم باطن أخرس يقتصر على الجمع بطريقة طبيعية بين الأفراد العديدين.
- سابعًا: وبناءً على ذلك لا يدرك فويرباخ أن «الشعور الديني» هو ذاته ناتج اجتماعي، وأن الفرد المجرد الذي يملكه ينتمي في الواقع إلى شكل خاص من أشكال المجتمع.
- ثامنًا: الحياة الاجتماعية في أساسها عملية، وكل الأسرار التي تضلِّل التفكير النظري وتدفعه إلى الصوفية تجد حلها العقلي في مجال العمل البشري، وفي فهم هذا المجال العملي.
- تاسعًا: إن القمة التي تصل إليها المادية التأملية؛ أي المادية التي لا تدرك الحساسية بوصفها فاعليةً عملية، هي تصوُّر أفراد منعزلين في «مجتمع مدني».
- عاشرًا: إذا كانت المادية القديمة ترتكز على «المجتمع المدني»، فالمادية الجديدة ترتكز على المجتمع البشري أو البشرية المندمجة في مجتمع.
- حادي عشر: لقد اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم على أنحاء عدة، غير أن المهم في الأمر هو تغييره.»
ضد دورنج
لا يمكن أن تتعلَّق القوالب المنطقية إلا بأشكال الفكر، ولكن موضوع بحثنا هنا ليس إلا أشكال الوجود، والعالم الخارجي، وهذه الأشكال لا يمكن أن يخلقها الفكر ويستمدها من ذاته، وإنما من العالم الخارجي فقط. غير أن هذا يؤدي إلى قلب العلاقة بأسرها رأسًا على عقب؛ فالمبادئ ليست نقطة بداية البحث، وإنما نتيجته النهائية، وهي لا تطبَّق على الطبيعة والتاريخ البشري، وإنما تجرَّد منهما، وليست الطبيعة وعالم البشر هما اللذان يتفقان مع هذه المبادئ، بل إن المبادئ لا تصح إلا بقدر ما تتفق مع الطبيعة والتاريخ. هذه هي النظرة المادية الوحيدة إلى المسألة، أمَّا نظرة السيد دورنج فهي مثالية، تجعل الأشياء واقفةً على رءوسها تمامًا، وتصوغ العالم الحقيقي من أفكار ومن قوالب أو إطارات أو مقولات توجد في مكان ما قبل العالم منذ الأزل، فهو في ذلك مثل هيجل تمامًا.
مثل هذه النتيجة تتلو من القول، على مثال المذهب الطبيعي تمامًا، بأن «الوعي» و«الاستدلال» أشياء معطاة، وأشياء قائمة منذ البداية، في مقابل الوجود والطبيعة. ولو كان الأمر كذلك، لكان من الأمور التي تدعو إلى العجب الشديد أن يوجد مثل هذا التناظر بين الوعي والطبيعة، والفكر والوجود وقوانين الفكر وقوانين الطبيعة. ولكن لو أثير السؤال الآخر: ما هو الفكر والوعي إذن، ومن أين أتيا؟ لوضح أنهما ناتجان للمخ البشري، وأن الإنسان ذاته ناتج للطبيعة، تطوَّر في بيئته ومعها، ومن هنا فمن الواضح بذاته أنه لمَّا كانت نواتج المخ البشري في نهاية الأمر نواتج للطبيعة أيضًا، فإنها لا تناقض بقية الطبيعة وإنما تناظرها.
فإذا استخلصنا القوالب التي تسري على العالم، لا من أذهاننا، وإنما من العالم الواقعي بتوسط أذهاننا فحسب، فلن نحتاج إلى فلسفة لهذا الغرض، وإنما إلى المعرفة الوضعية للعالم وما يحدث فيه، وما تمدنا به هذه المعرفة ليس بدوره فلسفة، وإنما علم وضعي.
وفضلًا عن ذلك، فإذا لم يعد ثمة داعٍ لأية فلسفة من هذا النوع الخالص، فلن يعود هناك داعٍ أيضًا لأي مذهب، بل لأي مذهب طبيعي في الفلسفة؛ فإدراك الارتباط المتبادل المنظم بين ظواهر الطبيعة يؤدي بالعلم إلى إثبات وجود مثل هذا الارتباط المتبادل المنظَّم في جميع المجالات، من حيث أوجهها العامة وتفاصيلها. ولكن من المستحيل علينا، وسيظل من المستحيل دائمًا، الإتيان بتعبير علمي صحيح شامل عن هذا الارتباط المتبادل، وصياغة صورة فكرية دقيقة لنظام العالم الذي نعيش فيه. ولو أمكن في أي وقت من تطور البشر الوصول إلى نسق نهائي كامل للارتباطات المتبادلة في العالم — المادي والذهني والتاريخي أيضًا — لكان معنى ذلك أن المعرفة البشرية قد بلغت منتهاها، ولتوقف التطور التاريخي منذ اللحظة التي يصبح فيها المجتمع متوافقًا مع هذا النسق، وهي فكرة ممتنعة، ولغو محض؛ فكل صورة ذهنية للنظام العالمي تُحدُّ موضوعيًّا وستظل تُحد، بالمرحلة التاريخية التي تمر بها، وذاتيًّا بالتركيب المادي والذهني لصانعها.
الفلسفة الطبيعية: تركيب الكون والفيزياء والكيمياء
لقد تحدَّث الماديون قبل دورنج عن المادة والحركة، أمَّا هو فيرد الحركة إلى القوة الميكانيكية بوصفها صورتها الأساسية المزعومة، وبذلك يُصبح من المستحيل عليه فهم الارتباط الحقيقي بين المادة والحركة، وهو الارتباط الذي كان بالفعل غامضًا لدى جميع الماديين السابقين عليه. ومع ذلك فالأمر بسيط إلى حد بعيد؛ فالحركة هي طريقة وجود المادة، إذ لم توجد، ولا يمكن أن توجد في أي مكان، مادة بلا حركة. فهناك حركة الفضاء الكوني، والحركة الآلية للكتل الصغرى الموجودة على مختلِف الأجرام السماوية، وحركة الدقائق التي تتخذ شكل حرارة أو تيارات كهربية أو مغناطيسية، أو تفاعل أو تحلل كيميائي، أو حياة عضوية، هذه كلها حركات تسري واحدة منها، أو كثرة منها في آنٍ واحد، على كل ذرة مادية في الكون. وكل سكون، وكل توازن، إنما هو نسبي فحسب، ولا معنى له إلا بالنسبة إلى صورة محددة ما للحركة؛ فالمادة بلا حركة، كالحركة بلا مادة، أمر يستحيل تصوُّره، ولذلك فالحركة لا تقبل السكون والفساد، شأنها في ذلك شأن المادة ذاتها. وكما قالت من قبلُ إحدى الفلسفات (فلسفة ديكارت)، فإن كمية الحركة الموجودة في العالم تظل دائمًا على ما هي عليه، وإذن فالحركة لا تُخلَق، وإنما يمكن أن تُنقل فقط، وعندما تُنقل الحركة في جسم إلى آخر، فإنها تُعد موجبةً من حيث هي تنقل ذاتها، وتكون علةً للحركة، بقدر ما تكون هذه الأخيرة منقولة؛ أي سالبة. وهذه الحركة الموجبة هي ما نسميه ﺑ «القوة»، بينما السالبة هي «مظهر القوة»، ومن هذا يظهر بكل وضوح أن القوة مساوية لمظاهرها؛ لأن نفس الحركة هي التي تظهر في كليهما في واقع الأمر.
وعلى ذلك فإن القول بحالة ساكنة للمادة هو فكرة من أسخف الأفكار وأكثرها امتناعًا، وهو خيال هذياني محض. ومن الضروري للوصول إلى فكرة كهذه، تُصوِّر التوازن الميكانيكي النسبي (وهو حالة يمكن بالفعل أن يمر بها أي جسم على الأرض) على أنه سكون مطلق، ثم مدَّ هذه الفكرة إلى الكون بأسره. ولا شك أن ممَّا ييسِّر ذلك إرجاع الحركة الكونية إلى قوة ميكانيكية محض، كما أن قصر الحركة على القوة الميكانيكية المحض له ميزة أخرى، هي إمكان تصوُّر القوة على أنها ساكنة ومتوقفة؛ أي على أنها قد شُلت مؤقتًا. أمَّا عندما يكون نقل الحركة عمليةً معقدة إلى حد ما، تنطوي على عدد من النقاط الوسطى، كما يحدث في كثير من الأحيان، فعندئذٍ يصبح من الممكن إرجاء النقل الفعلي إلى أية لحظة نشاء، عن طريق حذف الحلقة الأخيرة في السلسلة.
فمن الممكن إذن أن نتصوَّر أن المادة في حالتها الساكنة المماثلة لذاتها كانت محمَّلةً بالقوة، ويبدو أن هذا هو ما يعنيه دورنج بوحدة المادة والقوة الميكانيكية، إن كان يعني بذلك شيئًا على الإطلاق. على أن هذه الفكرة باطلة؛ لأنها تتناول حالةً هي بطبيعتها نسبية، وبالتالي لا تنطبق إلا على جزء واحد من المادة في الوقت الواحد، فتنقلها إلى الكون وكأنها مطلقة. وقد يكون لنا أن نلف وندور ما شاء لنا اللف والدوران، ولكننا سنعود دائمًا، إذا اتبعنا طريق دورنج، إلى إصبع الله.
•••
الديالكتيك: الكم والكيف
من الصحيح أننا طالما كُنا ننظر إلى الأشياء على أنها ساكنة لا حياة فيها، وعلى أن كلًّا منها قائم بذاته بجوار الآخر ومن بعده، فلن يعترضنا فيها أي تناقض. حقًّا إننا سنجد بعض الصفات التي يكون منها ما هو مشترك بينها، ومنها ما هو متباين، بل متناقض، بين الواحد والآخر، غير أن هذه الصفات تكون عندئذٍ موزعةً بين أشياء مختلفة، وبذلك لا تنطوي على تناقض. وفي حدود هذا المجال يمكننا أن نظل نسترشد بالطريقة الميتافيزيقية المعتادة في التفكير. ولكن الوضع يختلف تمامًا حالما نتأمل الأشياء في حركتها، وتغيُّرها، وحياتها، وتأثيرها المتبادل بعضها في البعض؛ ففي هذه الحالة نصادف التناقض على التو. بل إن الحركة ذاتها تناقض؛ فأبسط تغيير ميكانيكي للمكان لا يمكن أن يحدث إلا عن طريق جسم يكون في نفس الآن في مكان ما، وفي مكان آخر معًا، ويكون موجودًا وغير موجود في المكان الواحد. وما الحركة ذاتها، إلا تأكيد مستمر لهذا التناقض، ورفع له في الوقت ذاته.
فإذا كان التغير الميكانيكي البسيط للمكان ينطوي على تناقض، فإن هذا يصدق بالأحرى على الصور الأعلى لحركة المادة، ولا سيما الحياة العضوية ونموها. ولقد رأينا من قبلُ أن قوام الحياة إنما هو أن يكون الشيء الحي ذاته وشيئًا آخر في كل لحظة. فالحياة إذن تناقض بدورها، وهي تناقض يتمثل في الأشياء والعمليات ذاتها، ويؤكد ذاته، ويرفع ذاته على الدوام، وحالما يتوقف التناقض، تنتهي الحياة ذاتها، ويُقبل الموت. وقد رأينا كذلك أننا لا نستطيع تجنُّب التناقض في مجال الفكر أيضًا، وأن التناقض الموجود بين قدرة الإنسان على المعرفة، وهي محدودة بطبيعتها، وبين تحقُّقها الفعلي في الناس، الذين تحد من معرفتهم الظروف الخارجية، وكذلك قدراتهم العقلية الخاصة، يُرفع عن طريق ما نعده، في رأينا على الأقل، ومن وجهة نظر عملية، تعاقبًا لا نهاية له للأجيال التي تسير في تقدمها إلى ما لا نهاية.
وهو يضرب بعد ذلك مثلًا بحالة عامل في أي فرع من الصناعة، يعمل ثماني ساعات لنفسه — أي في إنتاجه لقيمة أجره — ويعمل الساعات الأربع التالية لصاحب رأس المال، في إنتاج قيمة فائضة، تنساب فورًا إلى جيب صاحب رأس المال. في هذه الحالة يكون على صاحب رأس المال أن يملك كميةً من القيمة تكفي لتمكينه من إمداد عاملين بالمواد الخام وأدوات العمل والأجور، لكي يستطيع أن يحصل كل يوم على كمية من القيمة الفائضة تمكِّنه من أن يعيش عليها في نفس مستوى عامليه على الأقل. ولمَّا كان هدف الإنتاج الرأسمالي ليس مجرد العيش الضروري، وإنما زيادة الثروة، فإن صاحبنا هذا لن يكون بعامليه رأسماليًّا. ولكي يعيش على مستوًى أفضل مرتَين من العامل العادي، ويخصِّص نصف القيمة الفائضة الناتجة ليستخدمها رأسمال، فعليه أن يوظِّف ثمانية عمال؛ أي إن عليه أن يملك أربعة أمثال القيمة المذكورة من قبل. وبعد هذا فقط، ومن خلال شروح أخرى أوضح بها ماركس وأثبت أنه ليست كل كمية صغيرة من القيمة كافيةً للتحول إلى رأسمال، وإنما يتفاوت الحد الأدنى اللازم تبعًا لكل مرحلة في التطور ولكل فرع في الصناعة. بعد هذا فقط يلاحظ ماركس أنه «هنا» كما في العلم الطبيعي، تُحقِّق صحة القانون الذي اهتدى إليه هيجل (في كتابه «المنطق»)، والقائل إن التغير الكمي وحده يتحوَّل بعد نقطة معينة إلى فروق كيفية.»
وقد نُشر سنة ١٨٨٨م. والعنوان الأصلي لكتاب «ضد دورنج» هو Herr Eugen Dührings Umwälzung der Wissenschaft، وقد نُشر سنة ١٨٧٨م.