قصة أفريقية
كان ينتظر بزوغ القمر وأحسَّ بشَعر «كيبو» ينتصب تحت يده إذ هو يربتُ عليه كي يبقى هادئًا. وتطلَّع كلاهما وأنصتا والقمر يبزغ ويُلقي ظلَّيهما على الأرض. كانت ذراعه الآن حول رقبة الكلب وكان يحسُّ به يرتجف. كان كل صوتٍ في الليل قد توقَّف. ولم يسمعا الفيل ولم يرَه «ديفيد» إلى أن أدار الكلب رأسه وبدا كأنه يقع في حجره. وعندها غطَّاهما ظِلُّ الفيل وعبر دون أن يُصدر صوتًا على الإطلاق وشمَّا رائحته في الريح الخفيفة التي جاءت من ناحية الجبل. كانت رائحة نفَّاذة وإن كانت عتيقة.
وحين مرَّ الفيل رأى ديفيد أن نابه العاجي طويلٌ جدًّا حتى إنه بدا وكأنه يُلامس الأرض.
وانتظرا. بيد أنه لم يظهر أي فيلٍ آخر. ثم بدأ ديفيد والكلب يجريان تحت ضوء القمر. وبقي الكلب وراءه على مقربةٍ منه، وحين توقَّف ديفيد ألصق الكلب خطمه في خلفية ركبته.
وكان على ديفيد أن يرى الفيل ثانية. ولقياه عند حافة الغابة. كان يرتحل تجاه الجبل ويتحرك في بطءٍ عبْر نسمة الليل الرتيبة. واقترب ديفيد منه بما يكفي لأنْ يراه يحتجز ضوء القمر مرةً ثانية وأن يشمَّ رائحة العتاقة الحِريفة، ولكنه لم يتمكن من رؤية نابه اليمين. كان يخشى أن يقترب أكثر مع الكلب، فعاد معه مع هبوب الريح، ودفع به إلى جذع شجرة وحاول أن يجعله يتفهَّم الأمر. واعتقد أن الكلب سيبقى في مكانه، وقد بقي فعلًا، ولكن حين تحرك ديفيد ناحية كتلة الفيل شعر بالخطم المبلَّل خلف ركبته مرةً أخرى.
وتبِع الاثنان الفيل إلى أن وصل إلى بقعةٍ خالية من الأشجار. وتوقَّف هناك يحرك أذنيه الهائلتَي الحجم. كانت كتلته لا تُلقي أي ظِل، فلا بد أن ضوء القمر يسقط عموديًّا عليه. ووصل ديفيد خلفه وأغلق فكَّي الكلب بيده في رفق، ثم تقدَّم بخفة دون أن يتنفس إلى يمين الفيل، مع هبَّات نسمة الليل يشعر بها على خده، يتبعها ولا يدعها أبدًا تقف بينه وبين كتلة الفيل إلى أن استطاع أن يرى رأس الفيل والأذنين الكبيرتين تتحركان. كان ناب اليمين سميكًا كفخِذه هو، ومقوسًا يكاد يلامس الأرض.
وشعر ديفيد بالتعب حالما عاد إلى ذلك الطريق مرةً ثانية مع والده ومع «جمعة». كان قد شعر لمدةٍ طويلة أنه أكثر انتباهًا وأفضل حالًا من الرجُلين اللذين معه، ولا يصبر على خطواتهما البطيئة والتوقفات المنتظمة التي يقوم بها والده كل ساعة. كان بوسعه أن يسير قُدمًا بسرعة أكبر من جمعة ومن والده، ولكن حين بدأ يشعر بالتعب كانا هما على نفس وضعهما السابق، وعند الظهيرة لم يأخذا سوى راحة الخمس دقائق المعتادة. ورأى أن جمعة يزيد من سرعة خطوته قليلًا. ربما لم يكن ذلك صحيحًا. ربما بدَت له خطوته أسرع قليلًا ليس إلا، ولكن روث الفيل كان أكثر طزاجة الآن، مع أنه لم يكن دافئ الملمس. وأعطاه جمعة البندقية ليحملها بعد أن وصلوا إلى آخر كومة روث، ولكن بعد ساعةٍ نظر إليه وأخذ منه البندقية مرةً أخرى. كانوا يصعَّدون في السير عبر منحدرٍ من الجبل، ولكن الطريق كان يهبط الآن، ومن خلال فجوةٍ في الغابة رأى أمامه الأرض الوعرة.
قال والده: هنا يبدأ الجانب الصعب يا ديفي.
وعند ذلك أدرك أنه كان يجب عليهما أن يعيداه إلى المزرعة بعد أن أوضح لهما الطريق. كان جمعة يعرف ذلك منذ وقتٍ طويل، ووالده يعرفه الآن، ولكن لا يمكن عمَل أي شيءٍ بشأنه. كانت غلطة أخرى يرتكبها، وليس أمامه شيء يفعله الآن سوى المقامرة أن يكون حظُّه سعيدًا.
وتطلَّع ديفيد من أعلى على الدائرة المستوية الكبيرة لأثر قدم الفيل، ورأى المكان الذي انضغطَت فيه النباتات، وحيث كان ساقُ عشبٍ برِّيٍّ مقطوعٍ يذبل. والْتقطَه جمعة ونظر إلى الشمس. وناول جمعة العشب المقطوع لوالد ديفيد، ولفَّه والده حول أصابعه. ولاحظ ديفيد الأزهار البيضاء مائلةً تذوي. ولكنها لم تذبل تحت الشمس ولا نفضَت عنها نواراتها.
قال والده: لا بد أنه مريعٌ. هيا بنا.
وعند أواخر الأصيل كانوا ما يزالون يقتفون الأثر خلال الأرض الوعرة. كان النعاس يسيطر على ديفيد الآن منذ وقتٍ طويل، وحين تطلَّع إلى الرجلين عرف أن الشعور بالنوم هو عدوه الحقيقي، وتتبع خطاهما وحاول أن يتحرك نافضًا عنه النعاس الذي يُصيبه بالخمول. وتناوب الرجلان اقتفاء أثر الطريق كل ساعة، وكان الذي في الخلف ينظر وراءه إلى ديفيد في فتراتٍ منتظمةٍ؛ ليتحقق أنه معهم. وحين أقاما مُخيمًا في العراء بعد أن حلَّ الظلام في الغابة استغرق في النوم حالمًا جالسًا، وصحا على منظر جمعة يحمل حذاءه ويتحسس قدميه العاريتين بحثًا عما فيهما من تقرُّحات. كان والده قد بسط معطفه فوق ديفيد وجلس إلى جواره، ومعه قطعة من اللحم المطبوخ البارد وقطعتان من البسكويت، وقدَّم له شايًا باردًا في زجاجة مياه.
قال والده: يجب أن تأكل يا دافي. قدماك في حالةٍ جيدة. إنهما عَفيَّتان مثل قدمَي جمعة. كُل هذا ببطء واشرب بعض الشاي ثم عُد إلى النوم مرةً ثانية. ليست عندنا أي مشكلة.
– إنِّي آسف لأن النوم كان يغالبني.
– لقد اصطدتَ ورحلتَ أنت وكيبو الليلة الماضية، فكيف لا تكون نعسانًا؟ بوسعك أخذُ مزيد من اللحم إذا رغبتَ.
– أنا لست جائعًا.
– حسنًا. لدينا ما يكفي لثلاثة أيام. وسوف نصل إلى الماء ثانيةً غدًا. كثير من الجداول تهبط عبر الجبل.
– إلى أين ذهب الفيل؟
– يعتقد جمعة أنه يعرف.
– أليس ذلك بالأمر السيئ؟
– ليس الأمر بالغ السوء يا ديفي.
قال ديفيد: سأعود إلى النوم. إنِّي لا أحتاج إلى معطفك.
قال والده: أنا وجمعة على ما يُرام. إنِّي أشعر بالدفء حين أنام.
كان ديفيد قد نام بالفعل حتى قبل أن يقول له والده ليلةً طيبة. ثم استيقظ مرةً حين سقط ضوء القمر على وجهه، وجال بخاطره منظر الفيل وهو يتحرك بأذنيه الكبيرتين حين كان واقفًا في الغابة ورأسه يميل إلى أسفل بفعل ثقل نابيه. واعتقد ديفيد عندها في الليل أن الشعور بالخواء الذي انتابه حين تذكَّر الفيل يرجع إلى أنه استيقظ جائعًا. ولكن ذلك لم يكن هو السبب، وعرف ذلك خلال الأيام الثلاثة التالية.
كان اليوم التالي بالغ السوء؛ لأنه عرف قبل الظهيرة بكثيرٍ أن الحاجة إلى النوم ليست هي الشيء الوحيد الذي يُميز الصبي عن الرجل. كان هو أكثر نشاطًا منهما خلال الساعات الثلاث الأولى، وطلب من جمعة أن يحمل البندقية عيار ٣٠٣، ولكن جمعة هزَّ رأسه. لم يبتسم، وكان دائمًا أفضل أصدقاء ديفيد وعلَّمه كيف يصطاد. وجال بخاطر ديفيد: إنه قدمها لي بالأمس، وأنا اليوم في حالةٍ أفضل مما كنت عليه بالأمس. كذلك كانت حالته هو أيضًا، ولكن ما إن حانت الساعة العاشرة حتى عرف أن اليوم سيكون سيئًا مثل الأمس أو أكثر سوءًا.
كان من الحمق أن يظن أنه يستطيع أن يقتفي الأثر مع والده، مثلما يظن أنه يستطيع أن يتشاجر معه. وعرف أيضًا أن الأمر لا يعود إلى كونهما رجلين كبيرين فحسب، فهُما صيادان محترفان. وعرف الآن أن هذا هو السبب في أن جمعة لا يُسرف في أي شيء يفعله، حتى لو كان ابتسامة. كانا يعرفان كل شيءٍ قام به الفيل، وأوضحا الدليل على ذلك كلٌّ منهما للآخر دون أن يتكلَّما، وحين يصبح اقتفاء الأثر صعبًا كان والده دائمًا يترك لجمعة اتخاذ القرار. وحين توقفوا ليملئوا زجاجات المياه من جدولٍ قال والده: «تحمَّل هذا اليوم فقط يا ديفي.» وحين خلَّفوا الأرض الوعرة وراءهم وصعدوا نحو الغابة توجهَت آثار الفيل تجاه اليمين في مسار فيلٍ آخر، ورأى والده وجمعة يتحادثان، وحين أدركهما وجد جمعة ينظر خلفه إلى الطريق الذي اتخذوه، ثم يتطلع بعيدًا أمامه نحو مجموعة من التلال الصخرية وسط طريقٍ جاف، وبدا كأنه يبحث عن وجهته من قمم ثلاثة تلال بعيدةٍ زرقاء وراء الأفق.
وشرح الوالد: «جمعة يعرف الآن أين يذهب. كان يظن أنه قد عرف قبل ذلك ولكنه وقع على هذا الطريق (ونظر خلفه إلى الطريق الذي قطعوه طوال اليوم)، الطريق الذي يسير فيه الآن جيد جدًّا ولكن علينا أن نرتقبه صعودًا.»
وطبخ جمعة الطائرَين بعد أن رشقهما في عصًا فوق نيران جمراتٍ صغيرة. وشرب والده ويسكي بالماء من قدح غطاء قنينته، ورقدا يرقبان جمعة وهو يطبخ. وبعد ذلك أعطى جمعة لكل واحد منهما صدر طائر وبه القلب، وأكل هو عنق الطائرين وظهريهما وأرجلهما.
قال والده: إن ذلك عظيم الفائدة يا ديفي. إن لدينا زادًا طيبًا جدًّا الآن.
وسأل ديفيد: كم نبعد عنه الآن؟
قال والده: إننا قريبون جدًّا. إن ذلك يعتمد على ما إذا كان يرتحل حين يظهر القمر أم لا. هذا يعني ساعةً أخرى هذا المساء وساعتين منذ رأيتَه أنت.
– لماذا يعتقد جمعة أنه يعرف طريقه؟
– لقد جرحه وقتل صديقه على مقربةٍ من هنا.
– ومتى حدث ذلك؟
– يقول إن ذلك حدث منذ خمس سنوات. هذا يعني أي وقت. يقول حين كنتَ أنت طفلًا.
– وهل أصبح الفيل وحيدًا منذ ذلك الوقت؟
– إنه يقول ذلك. هو لم يرَه بعد ذلك. سمع عنه فحسب.
– ماذا يقول عن حجمه؟
– يقارب المائتين. أكبر من أي شيء رأيته. يقول إنه لا يُوجَد إلا فيلٌ واحدٌ أكبر منه، وهو من نفس هذه المنطقة أيضًا.
قال ديفيد: يحسُن بي أن أنام. أرجو أن أشعر بتحسُّنٍ غدًا.
قال والده: لقد كنتَ عظيمًا اليوم. إني جد فخورٍ بك. وجمعة أيضًا.
وفي الليل استيقظ حين سطع القمر، وكان على يقينٍ بأنهما لم يكونا فخورَين به إلا لمهارته في اصطياد الطائرين. لقد عثر على الفيل ليلًا وتتبعه؛ كيما يرى أن لديه نابيه الاثنين ثم عاد باحثًا عن الرجلين ليدلهما على الطريق. وعلِم ديفيد أنهما فخوران بذلك. ولكن ما إن بدأَت الرحلة القاتلة، أصبح بلا فائدةٍ لهما، ويمثل خطرًا على نجاحهما مثلما كان كيبو بالنسبة له حين اقترب من الفيل خلال ظلمة الليل، وعرف أن كلًّا من الرجلين يندم بشدةٍ لأنهما لم يحملاه على العودة حين كان الوقت مناسبًا لذلك. كان نابا الفيل يزِنان مائتَي رطْلٍ للواحد منهما. ومنذ أن نما هذان النابان فوق حجمهما الطبيعي أصبح الفيل هدفًا للصيد، وسوف يقتله ثلاثتهم الآن من أجلهما.
كان ديفيد واثقًا أنهما سيقتلان الفيل الآن؛ لأنه — أي ديفيد — قد تحمَّل اليوم بطوله وتحامل بعد أن دمَّره السير بحلول الظهيرة. ولذلك فمن المحتمل أنهما كانا فخورين به أن قام بذلك. بيد أنه لم يُسهم بشيءٍ مفيدٍ في عملية الصيد، وكان من الأفضل لهما بكثيرٍ ألا يكون معهما. وقد تمنَّى مراتٍ كثيرةً خلال اليوم ألا يكون قد خان الفيل، وعند الأصيل تذكر أنه تمنى ألا يكون قد رآه قط. وأدرك وهو مستيقظٌ تحت ضوء القمر أن ذلك غير صحيحٍ.
وفي اليوم التالي كانوا يقتفون آثار الفيل على طريقٍ قديم للأفيال يابس التربة يشقُّ الغابة. كان يبدو كما لو أن الأفيال قد رحلَت عبره منذ أن بردَت الحمم من على الجبل، وبدأَت الأشجار تنمو عاليًا بالقرب منه.
كان جمعة واثقًا من نفسه وبدءوا يتحركون بسرعةٍ. كان والده وجمعة يبدوان على ثقةٍ من نفسَيهما، والسيرُ على طريق الأفيال سهلًا حتى إن جمعة أعطاه البندقية ليحملها حين وصلوا إلى المكان الذي لا ينفذ الضوء إليه في الغابة. وعندئذٍ فقدوا الأثر من جرَّاء أكوامٍ تبخر من روثٍ طازج، وآثار أقدامٍ مسطحةٍ دائرية لقطيعٍ من الأفيال سارت في ذلك الطريق من الغابة الكثيفة التي تقع على يسار الأثر. وأخذ جمعة البندقية من ديفيد في غضبٍ. وعند الظهر وصلوا عند القطيع ومن حوله، ورأوا الكُتل الرمادية عبر الأشجار وحركات الآذان الضخمة والزلُّومات تبحث ملتفةً وغيرَ ملتفة، وسمعوا صوت الأغصان تتحطم، وانكسار الأشجار، ودمدمة بطون الأفيال، وصوت الروث وهو يسقط على الأرض.
ووجدوا أخيرًا طريق الفيل العجوز. وحين انحرف الأثر إلى طريقٍ أصغر نظر جمعة إلى والد ديفيد مبتسمًا فظهرَت أسنانه المصفوفة، ونغض والده رأسه وظهَرا كأنما يتشاطران سرًّا قذرًا، تمامًا كما ظهرا حين وجدهما تلك الليلة في المزرعة.
ولم يطُل بهما الأمر أن عثرا على السر. كان موجودًا في الغابة على اليمين قليلًا، وهدَتهما إليه آثار الفيل العجوز. كانت جمجمة عالية تصل إلى صدر ديفيد، بيضاء من الشمس والمطر. كان بها غورٌ عميق في الجبهة، ثَمَّة فلق يجري بين محجرَي العين الفارغين الأبيضين وينتثر في ثقوبٍ مكسورة فارغة مكان النابَين اللذين جرى قطعهما.
وأشار جمعة إلى المكان الذي توقَّف فيه الفيل الضخم، بينما كان ينظر إلى الجمجمة وإلى المكان الذي دفعَتها إليه زلُّومة الفيل على مبعدةٍ قليلة من البقعة التي كانت بها سابقًا، وحيث لمس ناباه الأرض بجوار الجمجمة. وبيَّن لديفيد الثقب الوحيد في الغور العميق في العظام البيضاء للجبهة ثم الثقوب الأربعة المتجاورة في العظمة المحيطة بثقب الأذن. وابتسم لديفيد ولوالده، وأخرج طلقة بندقيةٍ من جيبه وأرسى طرفها في ثُقب عظمة الجبهة.
قال والده: لقد جرح جمعة الفيل الكبير في هذا المكان. كان أحد جنود الفيل صاحبَ هذه الجمجمة. صديقه في الواقع؛ لأنه كان هو الآخر فيلًا كبيرًا. وقد هاجم جمعة فأوقع به ثم أنهى عليه بطلقةٍ في الأذن.
وكان جمعة يُشير إلى العظام المتناثرة وكيف مشى الفيل الضخم بينها. كان جمعة ووالده مسرورَين جدًّا بما وجداه.
سأل ديفيد والده: كم من الوقت تظن أنه ظل مع صديقه الفيل الآخر؟
قال والده: ليست عندي أي فكرةٍ. اسأل جمعة.
– اسأله أنت من فضلك.
وتحادث والده مع جمعة، ونظر جمعة إليه وضحك. وأخبره والده: ربما بمقدار أربعة أضعاف عمرك. إنه لا يعرف، أو لا يهتم بالأمر.
وجال في خاطر ديفيد: أنا أهتم بذلك الأمر. فقد رأيتُه في ضوء القمر وكان وحدَه، ولكنِّي كنت مع كيبو. وكيبو كان معي. ولم يكن الفيل يقوم بأي ضرر، وها نحن الآن نتعقبه بعد أن جاء ليرى صديقه الميت، وسوف نقتله هو الآن. إنها غلطتي. لقد خنته.
والآن، حدد جمعة أثر الطريق وأشار لوالده وانطلقا.
وجال بخاطر ديفيد: لا حاجة لوالدي أن يقتل أفيالًا كيما يعيش. لم يكن بوسع جمعة أن يعثر على الفيل لو أنني لم أرَه. لقد أُتيحَت له الفرصة لصَيده ولكنه لم يفعل إلا أن أصابه بجروحٍ وقتَل صديقه. وجدناه أنا وكيبو ولم يكن من الواجب عليَّ أن أخبرهما، بل أن أحتفظ بسرِّه ويكون لي وحدي دائمًا وأدعهما سكارَى من شُرب البيرة في المزرعة. كان جمعة ثملًا إلى حدٍّ لم تستطع معه إيقاظه. وسوف أحتفظ بكل شيءٍ سرًّا على الدوام. لن أقول لهما أي شيء بعد ذلك أبدًا. لو قتَلا الفيل فإن جمعة سوف يُنفق نصيبه من ثمن العاج على الشراب، أو يبتاع لنفسه زوجةً أخرى. لماذا لم تساعد الفيل حين كان ذلك بإمكانك؟ كل ما كان عليك أن تفعله هو ألا تذهب معهما في اليوم الثاني. كلا، لم يكن هذا ليمنعهما. كان جمعة سيستمر. كان يجب عليك ألا تخبرهما أبدًا، أبدًا. حاول أن تتذكر ذلك. لا تقل لأي شخصٍ أيَّ شيءٍ أبدًا. لا تقل لأي شخصٍ أيَّ شيءٍ مرةً أخرى أبدًا.
وانتظر والده إلى أن لحق بهما، وقال برقَّةٍ بالغة: لقد استراح هنا. إنه لا يسير كما كان قبلًا. سوف نلحق به في أي وقتٍ الآن.
قال ديفيد بهدوءٍ شديد: اللعنة على صَيد الأفيال.
قال له والده وهو ينظر إليه ببرود: احذر أن تفسد الأمر.
جال بخاطر ديفيد: إن الأمر مؤكَّدٌ. إنه ليس غبيًّا. إنه يعلم كل شيء الآن ولن يثق به ثانيةً. هذا حسنٌ. لا أريده أن يثق بي؛ لأنني لن أخبره ولا أي شخصٍ آخر أي شيءٍ أبدًا مرةً ثانية، أي شيءٍ مرةً ثانيةً أبدًا. أبدًا أبدًا مطلقًا.
وفي الصباح كان عند المنحدر الأقصى من الجبل مرةً أخرى. ولم يكن الفيل بعدُ مرتحلًا كما كان سابقًا، بل كان يتحرك بلا هدفٍ الآن، ويتغذَّى أحيانًا، وكان ديفيد يعلم أنهم يقتربون منه.
وحاوَل أن يتذكر كيف كان شعوره. لم يَكن يُكِن الحب للفيل بعدُ، لا بد أن يتذكر ذلك. كان ينتابه شجنٌ فحسب نتيجة تعبِه، وهو ما جعله يتعاطف مع حالة كبر السن. فعن طريق صِغره في السن تعلَّم كيف يكون الأمر عند التقدُّم في العمر.
وأحسَّ بالوحدة دون كيبو وتفكَّر كيف أن قيام جمعة بقتل صديق الفيل قد جعله يكره جمعة وجعل الفيل أخًا له. وعرف عندها كم كان مهمًّا بالنسبة له أن رأى الفيل في ضوء القمر وتبعه، واقترب منه كثيرًا حتى إنه رأى نابَيه الهائلَين. ولكنه لم يعرف أنه لن يكون هناك شيءٌ جميل كهذا بعد ذلك أبدًا. كان يعرف الآن أنهما سيقتلان الفيل وأنه ليس بوسعه القيام بأي شيءٍ بشأن هذا الأمر. لقد خان الفيل حين عاد إلى المزرعة وأخبرهما بوجوده. وجال بخاطره: إنهما لَيَقتلاني ويقتُلان كيبو لو كان لنا عاج. وعرف أن ذلك غير صحيحٍ.
ربما سيعثر الفيل على مكان مولده وهما سيقتلانه هناك. كان هذا ما ينقص كي يجعلا الأمر كاملًا! كانا يفضِّلان أن يقتلاه في المكان الذي قتلا فيه صديقه. كان ذلك ليملؤهما نشوةً. كان ذلك ليُفعمهما سرورًا. قاتِلا الصديقِ الملعونان.
كانا قد تحركا الآن نحو الحافة ذات الستار الكثيف، وكان الفيل قريبًا. كان بوسع ديفيد أن يشمَّه، وكلهم يمكنهم سماعه يُسقط فروع الأشجار، وصوتها وهي تتكسَّر. ووضع الوالد يده على كتف ديفيد كي يوقفه في المؤخرة ويجعله ينتظر في الخارج، ثم تناول حفنةً كبيرة من الرماد من الكيس الذي في جيبه ونثرها في الهواء. وانحرف الرماد قليلًا في اتجاههما حين سقط، وأشار والده برأسه إلى جمعة، وانحنى كيما يتبعه داخل الساتر الكثيف. وتطلع ديفيد إلى ظهرَيهما ومؤخرتَيهما تدخُل وتغيب عن الأنظار.
كان ديفيد واقفًا لا يتحرك، واستمع إلى الفيل وهو يأكل. كان بوسعه أن يشمَّه بقوةٍ تُماثِل القوة التي شمَّه بها ليلة ضوء القمر، حين كان قريبًا منه ورأى نابَيه الرائعَين. ثم ساد الصمت وهو واقفٌ هناك ولم يَعُد بوسعه أن يشمَّ الفيل. ثم سمِع عويلًا وأصوات حُطامٍ وطلقةً من البندقية عيار ٣٠٣، ثم طلقة والده الثنائية الثقيلة عيار ٤٥٠، ثم تواصل التحطيم والتهشيم متباعدًا بطريقةٍ تدريجية، وذهب هو إلى حيث كانا، ووجد جمعة مرتاعًا ينزف من جبهته والدم يغطِّي وجهه، ووالده غاضبٌ شاحب اللون.
قال والده: «لقد أصبْناه في الرئة والمعدة.» وأضاف: «ستجده راقدًا أو ساكنًا، أرجو ذلك.»
ووجده ساكنًا، يُعاني في يأسٍ لدرجةٍ لا يتمكن معها من الحركة. كان قد اصطدم بالساتر الكثيف الذي كان يأكل فيه، وعبَر طريقًا في الغابة المفتوحة، وجرى ديفيد ووالده على طول الطريق الملَطَّخ بالدماء الغزيرة. كان الفيل قد توجَّه إلى الغابة الكثيفة ورآه ديفيد أمامهما يقف رماديًّا هائلًا مستنِدًا إلى جذع إحدى الأشجار. ولم يكن بوسع ديفيد أن يرى سوى ذيله، وبعدها تقدَّم والده وتبعه ديفيد ووصلا إلى جوار الفيل الذي بدا كأنه سفينة، ورأى ديفيد الدماء تسيل من جنباته وتخرُّ إلى أسفل، ثم رفع والده البندقية وأطلق النار، وأدار الفيلُ رأسه، وناباه الهائلان يتحرَّكان بثقلٍ وبطء ونظر إليهما. وحين أطلق والده الشحنة الثانية بدا الفيل كأنه يترنَّح كالشجرة الساقطة وهوى على الأرض تجاههما. ولكنه لم يكن ميتًا. كان قد استكن وها هو الآن يرقد على الأرض مكسور الكتف. لم يتحرك، ولكن عينه كانت حيةً ونظر إلى ديفيد. كانت رموشه طويلةً جدًّا، وكانت عينه أكثر شيءٍ حيٍّ رآه ديفيد في حياته.
قال والده: أطلِق عليه النار في ثقب أذنه من بندقية ٣٠٣، هيا.
قال ديفيد: افعل أنت ذلك.
وجاء جمعة يعرج تغطِّيه الدماء، وجلْد جبهته ساقطٌ على عينه اليسرى، وعظْمة أنفه مكشوفة، وإحدى أذنَيه ممزَّقة، وتناول البندقية من ديفيد دون أن يتكلم ودفع فوهتها داخل ثقب الأذن تقريبًا وأطلق النار مرتَين وهو يهزُّ المتراس ويدفع به إلى الداخل في غضبٍ. وانفتحت عين الفيل على اتساعها عند الطلقة الأولى، ثم بدأَت تلمع كالزجاج، وانبثق الدم من الأذن وانْسال في خطَّين ظاهرَين على الجلد الرمادي المتغضِّن. كان لون الدم مختلفًا، وجال بخاطر ديفيد: يجب أن أتذكَّر هذا. وتذكَّره دومًا ولكن لم يُجدِ ذلك نفعًا له قطُّ. والآن، كانت كل هيبة الفيل وجلاله وكل جماله قد ذهبَت عنه وأصبح مجرَّد كومةٍ مغضَّنةٍ ضخمة.
وذهب إليه جمعة مبتسمًا، ومعه ذيل الفيل الذي كان خاليًا من أي شعرٍ على الإطلاق. وحكيا مزحةً بذيئة، ثم بدأ والده يتحدث بالسواحيلية في سرعة. كم يبعد مكان المياه عنهم؟ أين يتعين الذهاب لجلب أناسٍ لحمل النابَين من هنا؟ كيف حالك أيها الخنزير العجوز اللعين التافه؟ ماذا انكسر من جسدك؟
وقال والده بعد أن عرف إجابة تلك الأسئلة: سوف نعود أنت وأنا لإحضار الحقائب من حيث تركناها. بإمكان جمعة أن يُحضر الأخشاب ويوقد النار. إن معدَّاتي الطبية موجودة في حقيبتي. علينا إحضار الحقائب قبل حلول الظلام. لن تتعفن جراحه. إنها ليست من مخالب الفيل. هيا بنا.
وذلك المساء، حين جلس ديفيد بجوار النيران وتطلَّع إلى جمعة بوجهه المليء بالغرز وأضلاعه المحطمة، تساءل ما إذا كان الفيل قد تعرف عليه حين حاول قتله. وخامره أملٌ أن يكون الأمر كذلك. لقد أصبح الفيل بطله الآن، كما كان والده لفترةٍ طويلة من قبلُ. وجال بخاطره: لم أكن أصدِّق أن بإمكانه أن يفعل ذلك بعد أن شاخ وناله التعب. كان يمكنه أن يقتل جمعة أيضًا. ولكنه لم ينظر لي نظرةَ مَن ينوي قتلي، بل نظر لي نظرةً حزينة، نفْس الحزن الذي كنت أشعر به. لقد زار صديقه القديم في اليوم نفسه الذي مات فيه.
وتذكَّر ديفيد كيف أن الفيل قد فقد هيبته كلها حالما توقفَت عينه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يعد هناك فيلٌ حقيقيٌّ. مجرد الجسم الميت المنتفِخ المتغضِّن الرمادي والنابَين الهائلَين ذوَي اللونَين البُنِّي والأصفر اللذين قتلاه من أجلهما. كان النابان ملَطَّخَين بالدماء الجافة، وكشط ديفيد قطعةً من هذه الدماء بظفر إبهامه كأنها قطعةٌ جافة من شمع الأختام، ووضعها في جيب قميصه. كان هذا كل ما أخذه من الفيل عدا بداية إدراكه لمعنى الوحدة.
وبعد المجزرة، حاول والده أن يتحدث معه تلك الليلة إلى جوار النيران، قال: إنك تعلم يا ديفي أنه كان قاتلًا. يقول جمعة إنه لا أحد يعلم كم قتل من الناس.
– كان كلهم يحاولون قتله، أليس كذلك؟
قال والده: بالطبع. مع ما لديه من زوج النياب!
– إذن كيف يمكن اعتبارُه قاتلًا؟
قال والده: كما تحبُّ. إني آسفٌ لأن الأمور مختلطةٌ عليك بالنسبة له.
قال ديفيد: أودُّ لو أنه كان قد قتل جمعة.
قال والده: أعتقد أنك بذلك تُحمِّل الأمور أكثر مما يجب. إن جمعة صديقك.
– لم يعد صديقي.
– لا ضرورة لأن تقول له ذلك.
قال ديفيد: إنه يعرف.
قال والده: أعتقد أنك تُسيء الحكم عليه.
وتركا الموضوع عند ذلك الحد.
وبعد ذلك، عادوا أخيرًا سالمين مع النابَين بعد كل ما حدث من أشياء، وكان النابان مستندَين إلى جدار البيت المصنوع من العصِي والطين، مستندَين هناك يتلامس طرفاهما؛ النابان طويلان وسميكان لدرجةٍ لا يصدقها أي شخص، حتى ولو لمسهما بيده، ولا يستطيع أحد، ولا حتى والده، أن يصل إلى المنحنى حيث يلتويان ليلتقي طرفاهما؛ هناك حيث أصبح جمعة ووالده وهو أبطالًا، وأصبح كيبو كلب بطل، وأصبح الرجال الذين حملوا النابَين أبطالًا؛ أبطالًا نصفَ سُكارى، أو سيصبحون سكارى. وقال والده: هل تريد أن نتصالح يا ديفي؟ قال: وهو كذلك، لأنه عرف أن هذا هو بداية سياسة عدم البوح بما يعرف قط، التي قرر أن يتبعها.
قال والده: إنِّي سعيدٌ جدًّا لذلك. إن هذا أبسط وأفضل كثيرًا.
وظلَّا جالسَين على المقاعد الواطئة تحت ظلال شجرة التين، والنابان يستندان إلى حائط الكوخ، وشرِبا البيرة من أقداح الفلِّين قدمَتها لهما فتاةٌ شابةٌ وأخوها الأصغر، خادم الأبطال، إذ هما جالسَين وسط الغبار إلى جوار كلب البطل البطولي الذي يمسك ديكًا عجوزًا جرى ترفيعه حديثًا لدرجة الديك المفضل للبطل. وجلسا هناك يحتسيان البيرة بينما بدأَت الطبلة الكبيرة تقرع دقاتها والرقص يتَّخذ مساره على إيقاعها.