الفصل الأول
أُقسم أني هذه المرَّة عييت؛ أعياني سائلٌ من الفضوليين أو غير الفضوليين، يسألني: «عَلَامَ نحتفل لانتصار الحلفاء في أفريقيا؟» لم أعيَ من السؤال؛ بل من وجود السائل … كنتُ فيما مضى أتحاشى السائلين، فِرارًا من القِيلِ والقالِ، فإذا بالسائلين — منذ زمن — كأنهم حُمْرٌ مستنفرةٌ فرَّتْ من قَسْوَرةٍ. لعلَّهم هذه المرَّة توقعوا سلفًا — من البداية — جوابنا الصارخ؛ بل الصاعق: «العمى! إذا لم تحتفل لهذا الحادث العظيم، عصبةُ مكافحةِ النازيةِ والفاشيةِ، فَمَنْ يحتفلُ له؟! وإذا لم نحتفل الآن — وعندنا أسباب أُخَر — فمتى نحتفل؟» ذلك أن المحور قد أضاع نهائيًّا، وفي وقت معًا، قارةً هي أفريقيا، وبحرًا هو المتوسط، وأضاع جيشًا جرارًا وعتاده ضخم، وأضاع وقتًا ثمينًا «سحبه» على المستقبل لإطالة أجله القريب. وعمَّا قليل، تنتصبُ الأممُ المتحدةُ على عتبةِ ذلك الصرح الممرَّد الذي أسماه هتلر: حصن أُوروبا الحصين (ونسميه نحن: سجنها المطبق)، فتهوى على بابه المُخَوِّف، بقبضات من حديد ونار، ثم تنقض بنيانه، وتدكُّ جدرانه. عمَّا قليل تتنفس الصعداء، وتقطع السلاسل شعوب طعينة سجينة، شريدة شهيدة، وقد أخذ بعنق النازية من الشرق والغرب، فكَّا الكلَّابةِ التي لا تُدفع، فيلفظ الوحشُ نفَسَه الأخير.
وقفتُ عشيةَ يومٍ بباب فاكهاني، وكان قد سبقني إليه بعض الزبائن، يطلب كيلو أو كيلوين من العنب، فوضع البائع عنبه في كيس من ورق، وجعل الكيس (طبعًا) في إحدى كفتَيِ الميزان، وكان يزيد في الكيس، خصلة بعد خصلة ليتمَّ الوزن، لكن يظهر أنَّ الكفَّةَ لم تكن عند رغبةِ الفاكهاني، أو وفق هَواه؛ لم تهبط بما يرجو من السهولة، فأراد أن ينتقم من عناد الميزان، فتناول خصلة صغيرة يصح أن نسميها «الضربة القاضية» لأنها رجَّحت الكفَّة عُنْوَةً، بفضل قبضة يد البائع العنيف، في عتمة القنديل الأزرق، وبأسرع من لمح البصر، قبل أن «يرتاح» الميزان، ينتزع الفاكهاني الكيس بمهارة بهلوانية، ويقول للزبون بلطفٍ نادر المثال: «تفضَّلْ!» لقد أعطاه بعض حقه وزيادة، أعطاه ثِقَل يده الغاشمة. فهل رأيتم أرأَفَ من هذا التاجر بميزانه؟ إنه يساعده بكل ما فيه من قوَّةٍ، وما عنده من حيلة. ثم ابتدرني الفاكهاني بالسؤال قائلًا: «اؤمُرْ.» أجبت: «لا شيء، كنتُ أُفكر في هتلر ذلك اللَّعين ونظامه الجديد، وكيف أنه وقع أخيرًا على مَن يكيل له الصاع صاعين، ويبادله الضربة ضربتين …» فقاطعني الفاكهاني قائلًا: «هكذا تقول الجريدة!» وانصرف إلى «خدمة» زبون آخَر لا يشتغل مثلي في السياسة.
إذا كان هتلر قد أضاع قارةً وبحرًا، وجيشًا وعتاده الضخم، ووقتًا ثمينًا من المستقبل كان يرجو أن يطيل به أجَل النازية ونظامها الجديد، فماذا أفدنا نحن؟ ماذا جنينا من ثمار النصر العظيم الذي أحرزه الحلفاء في أفريقيا؟
لقد أفدنا مباشرةً إبعاد شبح الحرب الذي طالما جاس خلال ديارنا، وأفدنا بصورة عامة اقتراب ساعة النصر الحاسم المبين الذي طالما بشرنا به — نعني: فوز قضية الحرية في العالم. وبديهي أن عصبة مكافحة النازية والفاشية لم تجتمع، ولم تنشط، ولم تجاهد للدفاع عن قضية عالمية؛ إلا لأن هذه القضية العالمية هي في الوقت نفسه قضيتنا، قضية بلادنا، وبالدرجة الأُولى. لقد أفدنا تصريحًا باستقلالنا الوطني، وتمكينًا من ممارسة الحياة الدستورية — المرحلة الأولى، أو قبل الأخيرة نحو الاستقلال المنشود — وهكذا ترون أن الثمارَ التي جنيناها، أو سنجنيها من انتصار الأمم المتَّحدة، في ميادين القتال: الجيش الأحمر العظيم في الشرق، والجيوش البريطانية والأمريكية والفرنسية في أفريقيا، وعما قليل في الغرب الأوروبي. أن هذه الثمار لا تشبه في شيء عِنَبَ صاحبنا الفاكهاني الذي يُطبِّق النازية في دكانه، كلما سَوَّل له الهوى أن يساعد الميزان بقبضة يده اللبقة الغاشمة. وإني لأتساءَل الآن: ما الذي كان يصل إلينا من حقنا في الحياة الحرَّة الرغدة الآمنة، لو وُزِنَ ذلك الحق في ميزان النازية التي لا تخلو كفتها — الراجحة أبدًا — من عصا مارشال، وتدجيل داعية، وأفضلية العرق الجرماني؟ ذاك ميزان، لو وُضِع العالم كله في كفَّته الثانية، لَمَا رجحت الميزان الذي لا يعتدل.
أعجبتني كلمة للكاتبة الأمريكية بيرل باك … كتبت أخيرًا تقول: «إن أهل الفيلبين، يوم قاتلوا إلى جانبنا، لم يحاربوا الاستعباد الياباني دفاعًا عن استعبادنا لهم، أو عن عبوديتهم لنا؛ بل لإنهم شعروا بأن حقَّهم في الحُرية والكرامة يُحترَم عندنا.» ولعمري متى يفقد امرؤٌ أو شعبٌ هذا الشعور بأن حقَّه في الحُرِّيَّةِ والكرامة محترمٌ، ومحترمٌ إلى حدِّ التقديس، فأيُّ معنى يبقى لحياته؟ وأيُّ ثمن لا يؤديه، لفرض هذا الحق في الحرية والكرامة، بوجه العالم قاطبة؟ ولَعمري إنَّ الفرقَ لَواضح بين مَن يُدافع عن شيءٍ هو له، وبين مَن يُدافع عنه وللآخرين في شركة، حظه منها القسمة الضئزى. لقد أتى هتلر على حريات الشعوب الأوروبية، وانتهك أقدس كراماتها، ثم سمَّى سجنه المخوف حصنًا حصينًا. فواعجبًا لذلك الحصن، ليس الخصوم الذين يهاجمونه من خارج أقل عددًا وعداءً من الخصوم الذين يناوشونه داخل السور! لو كانت القارة الأوروبية في ظل النظام النازي، ذلك الحصن الحصين الذي تتوافر الهمم، وتتضافر الجهود على حمايته والدفاع عنه، لكان من العسير أخذه. لكن القارة الأوروبية اليوم سجن مخوف لشعوب مستعبدة تحتدم بالثورة، ولن تلبث حتى تنفجر كالبركان. كذلك كانت روسيا القيصرية، فبادت، كما سيُقضى على النظام الهتلري. إن حقَّ الشعوبِ في الحرية والكرامة لا يمكن أن يبقى مُنتهكًا، أو سليبًا، أو مسكوتًا عنه، إلا إلى حين. وفي هذا السياق من المعاني يصحُّ القول إن لبنانَ المستقل المتمرس بالحياة الدستورية، لن يكون هَمَّهُ الأول سوى التضامن مع الأمم المتَّحدة، ومساعدتهم وسع الطاقة في مجهودهم الحربي؛ للقضاء على النازية أصلًا وفروعًا.
لم يكن من الحسن ولا الرشد في شيء أن تفاجئنا السلم، وليس في الأرض اللبنانية المستقلة حكومة دستورية ديمقراطية يختارها الشعب اللبناني من أبنائه البررة العاملين الصادقين لتصريف شئونه، ولا سيما لتمثيله بين الأُمم؛ لهذا يُدعى اللبنانيون إلى انتخاب نوابهم، ولهذا يجب أن يُحسنوا الاختيار، هذه المرَّة ولا أيَّة مرَّة! هو شرط بديهي، لكنه أساسي، أساسي كالحياة.
فَلْينظر اللبنانيون، ثم لينظروا، بأي وجه يهمهم أن يطلع وطنهم على الدنيا، من ظلمة هذه الحرب! إن اللبنانيين أنفسهم هم الذين يُصوِّرون ذلك الوجه، ويرسمون ملامحه وشِياته، ويؤلفون محاسنه ومفاتنه. وأكبر الظن أنهم لن يريدوا — منذ اليوم — وجهًا من الوجوه الزائفة والمستعارة؛ فهذه الوجوه لا موضع لها، إذا جدَّ الجدُّ في حياةِ الأُمم. إنما تصلح الوجوه الزائفة أو المستعارة للمساخر.
نريد وطنًا، لا طيف وطن. نريد وطنًا من لحمٍ ودمٍ. نريد وطنًا يحب ذاتَه ويحترمه الآخرون، يعرف كيف يحب ذاتَه، وكيف يفرض احترامه على الآخرين.
في صيف ١٩٤٠ كنت — كل أُسبوع، مرَّة أو مرَّتين — أستقبل في منزلي سرًّا، كأننا على موعد لقاءٍ، جريدةً لا تُوحي بشيءٍ من صفاتِ الجرائدِ الضخمةِ الرنانةِ التي يُلوَّحُ بها، ويُنادَى عليها في السوق، بأصواتٍ تصم الآذان، وتطاير من كل مكان.
كانت هذه الجريدة عجيبة حقًّا، غير مرتبة ولا مبوبة ولا مزينة باسم مخلوق من هؤلاء الذين يُدعون بالمحررين، أو المديرين، أو المالكين. ولأمرٍ ما كانت أيضًا خلوًّا من عنوان المطبعة التي تخرجها (أو تزفها)، فهي تُطبَع على الجلاتين. صحيفة ساذجة، بسيطة الزِّيِّ والشكلِ، متواضعة، محتشمة، كحسناء فقيرة لكن تحترم ذاتها. صحيفة «شاذَّة» وكفى!
ما كان أعجلني عهدذاك إلى قراءَة الصحيفة الحرام، تأتيني أعدادُها كالموادِ الخطرةِ المهرَّبةِ، وإلى قراءَتها من الألف حتى الياء! كان يجيئني بها فتى ولا كالفتيان؛ ليس تفارق الابتسامة ثغره، والعزيمة الصادقة نظره، يناولني «بضاعته» مِن كُوَّةِ الباب، ثم ينصرف معجلًا، ولم يكد يحييني أو يسمع مني كلمة الشكر. لكن بعد أن «تعاملنا» مُدَّة من الزمن، وأَنس كلٌّ بصاحبه، صِرت أدعوه إلى فنجان قهوة، فيقبل الدعوة، فنجلس ساعة أو بعض ساعة نتجاذب أطراف الحديث، فكان يُخيَّل إليَّ دائمًا أن الفتى ليس سوى «عدد ممتاز» من الجريدة التي ينشرها، بل «يُبَشِّرُ» بها. كأنما الصحيفة تحيا فيه لحمًا ودمًا، فكرًا وشعورًا، حميَّةً وإقدامًا، ثقًة وأملًا في المستقبل، كما يريده وسيكون.
لقد كنتُ أجهل اسم ذلك الصديق الجديد — الجديد بكل معاني الجدة — كنوع مستحدث من الآدميين. فكنتُ، ولا أدري لماذا، أدعوه بيني وبين نفسي: «بشارة.» اليوم يقولون لي بلطف: «أجل، هو أدوار.» وأنا أحتجُّ بشدَّة: «كلا، هو بشارة!» وليس في هذا خسارة.
لو سألتموني عمَّا كنتُ أجد في تلك الصحيفة المتواضعة برغمها، والتي كانت تُحمَل إليَّ كرسالةٍ خاصة، مرَّة أو مرَّتين كل أُسبوع، لاختلطت في ذهني صُوَرٌ وأفكارٌ وخواطر شتَّى، فلا أعرف كيف أبتدئ ولا كيف أنتهي. حتى الحوادث (أو الأخبار) كان لها في تلك الصحيفة معنى جديد، وصدى غريب، كأنما يُنظَر إليها من زاوية غير مألوفة أو مبتذلة، لكنها الزاوية «المستقيمة» الصحيحة، منها يُسعى في السبيل الأقوم، إلى الغاية الأسمى. تلك الصحيفة هي آخِر مدرسة تعلَّمتُ فيها سداد الفكر وصدق العمل؛ سواءٌ أَفِي إعلانها على النازي حربًا لا هوادة فيها، يوم كان النازي كل شيء، أم في صمودها للدفاع عن خبز الشعب وحريته وسلامته … وكانت تقول في كل مناسبة، ما لا بُدَّ من قوله، ما يجب أن يُقال، ببساطة لا بساطة وراءها. أعني أنها لم تكن بحاجة إلى تضخيم صوتها؛ إذ لا صوت يعلو على صوتها … هو «صوت الشعب».
في ذلك الزمن — يُذكر ولا يُعاد! كان خالد بكداش، وفرج الله الحلو، ونقولا شاوي وبعض الرفاق، يُضطهَدون في السجن، أو يُطارَدون فيما هو أضيق من السجن، لكن صوتهم لم يُحبَس، وجهادهم لم يُكبَح، ونورهم لم يُطفَأ. كانت أصداء من الصوت المدوي، ومآثر من الجهاد الدامي، وآشعَّة من الضياء المحيي، تملأُ بيتي، وتشغف نفسي، وتُنير بصيرتي … وبيوت كثيرين، ونفوس كثيرين، وبصائر كثيرين.
في ذلك العهد، عهد فيشي، واللجنة الخبيثة، والتربص الأخبث، والجيش الألماني الذي لا يُغلب، إلى آخِر الخرافة؛ لم أكن أعرف خالد بكداش، وفرج الله الحلو، ونقولا شاوي، أو واحدًا من رفاقهم الميامين. كان ينبغي — كي أعرفهم — أن أمسي سجينًا متطوعًا، أو طريدًا مختارًا، وليس هذا بالأمر السهل، نظريًّا أو منطقيًّا على الأقل.
ثم جاء غير ذلك الزمن، جاء عهدٌ أحسن حالًا، عهدٌ لا يزال في تحسنٍ مُطَّرد، كالمريض الذي يتماثل إلى العافية، وكان من أيادي هذا العهد عندي أنِّي — أخيرًا! عرفت خالد بكداش الخطيب الذي يحلق كالنسر، والقائد الذي يحارب في أكثر من جبهة؛ لأنها — حيثما كانت — جبهة الحرية. يُحلِّق كالنسر في آفاق الفكر والبيان، وكالنسر لا تفلتُ من بصره الحديد تفاصيلُ الأمورِ أو جزيئاتها، مهما دقَّتْ عن النظر، أو صغرت على البعد. وعرفت فرج الله الحلو المجاهد الأمين، كل عمل يأتيه خطبة بليغة، وكل خطبة يلقيها عمل رائع. وعرفت نقولا شاوي … ماذا أقول لكم، وهو هنا، قد رأيتموه وسمعتموه؟ لكن تعالوا أهمس في آذانكم من خلال هذا المذياع، بأنكم لن تجدوا خيرًا منه نائبًا يُمثِّلكم؛ يفهمكم فهمًا صحيحًا، ويحس معكم إحساسًا صادقًا؛ فلهذا، ولهذا فقط، كان نقولا شاوي في السجن. عَلَامَ إذن لا يكون في مجلس النوَّاب، لهذا ولأسباب أُخَر؟
وهكذا عرفت خالد بكداش وفرج الله الحلو ونقولا شاوي، ورفاقهم الكثيرين اليوم، الأكثرين غدًا، الذين يعملون كالنمل، ويجنون كالنحل، ويمشون كالجنود الأبطال، وفي سبيل أُمتهم وحقها في الحياة الحرَّة الرغدة الآمنة، ما يعملون وما يجنون. جزاهم الله عنَّا كل خير! لقد علَّمونا بالكلمة والمَثل، أن المولهين بحب الحرية لا يرجعون — برغمهم — خطوة إلى وراء، إلا ليقفزوا خطوتين إلى أمام، ودلُّونا على الطريق.
في هذه «المزرعة» المخصاب، شجرةٌ شابةٌ عجوزٌ تعهدها من زمنٍ بعيد هذا الحيُّ الكريم، بالسقيا والعطف والعناية، فصارت راسخةً أُصولًا، منبسطة فروعًا، وارفة ظلالًا، دانيًا قطوفها. شجرة تستمد من الماضي الأصيل قُوَّة، لتمتدَّ غصونُها نحو المستقبل الوضَّاح تحيَّة؛ هي شجرة الإخاء في الوطن الواحد، وفي العقيدة الواحدة. وكأنما الشجرة هنا، كي يأوي إلى فيئِها، ويجني من ثمرها، العهدُ المقبل الذي طالما تاقتْ إليه نفوسُنا، واستهدفته جهودُنا.
هنيئًا للمزرعة وبَنِيْهَا، وللبنان وأهله، الشجرة المباركة التي رسا أصلُها، وفرعُها في السماء.
لو كنت أخوض المعركة الانتخابيَّة، ولا همَّ لي إلا أن أصل إلى المجلس النيابي، فأستلم الكرسي بشوق ولهفة، وأرتاح نائمًا على الثقة، ثم أغطُّ في النوم مع زملائي الكرام، لقُلتُ لكم منذ الآن: «شكرًا، شكرًا! إن عطفَكم وتأييدَكم ومناصرتَكم تكفيني؛ بل هي فوق الكفاية.» عبارة من عبارات اللياقة والامتنان وعرفان الجميل. لكن لا، لن أقولها، وليؤذن لي أن لا أشكركم!
أنتم تعلمون — وأنا أيضًا أعلم، وإلا كنت مُتهمًا في فهمي — أن هذه المظاهر الصغرى اللطيفة، والكبرى الرائعة، تتجاوز كل الأشخاص ولا سيما شخصي، إلى المبادئ والقيم التي كنا، ولا نزال، نناضل من أجلها في مختلف الميادين. أنا أعرف ما ينتظرني؛ تريدون أن نحمل هذا النضال إلى ميدان جديد هو البرلمان اللبناني الذي كان — والحقُّ يُقال — تُخيِّمُ عليه في الأغلب سكينةٌ مشبوهةٌ، فلا يرتفع بعض الضجَّة إلا حينما يُؤمرون بالانصراف، كالتلاميذ الخارجين من الصَّفِّ، ثم يتفرَّقون … يتفرَّقون متواعدين إلى المجلس المقبل. وبالفعل ليس يتخلَّف منهم أحدٌ إلا لموانع قاهرة، كأن يأتيهم هَادِمُ اللَّذَّات ومُفرِّقُ الجماعات، وسُبحان الحي الذي لا يموت.
سيكون لكم، أيها الإخوان، ما أردتم. هذا النضال لأجل المبادئ التي تجعل للحياة قيمة، بل التي لا قيمة للحياة بدونها، سنحمله إلى مجلسكم النيابي. لقد أثبتت هذه الحرب أن النصر يكون حيث تكون المؤخرة والجبهة معسكرًا واحدًا، يُناضل في معركة واحدة، ويرمي إلى هدف واحد. وقد آن لنا أن نجعل من الشعب اللبناني ومن مجلسه النيابي، معسكرًا واحدًا يُناضِل في معركة واحدة، ويرمي إلى هدف واحد. أما أن يظل الشعب اللبناني في جهة، بآلامه وآماله، ومشاغله ومطامحه، ومجلسه النيابي في جهة ثانية، ينعقد كمجالس الإدارة لشركات المساهمة، فذلك ما لن يكون.
أيها الإخوان! إن البرنامج الذي أتقدَّمُ به إلى جمهرة الناخبين بسيطٌ جدًّا، واضحٌ جدًّا، متواضعٌ جدًّا؛ إنه يتألَّف من أَحد عشر بندًا، قد لا تخرج في محتواها — إلا بعض الشيء — عمَّا تُلوِّح به أكثرُ البرامج الانتخابية. إنه يَعِدُ بتوطيد الاستقلال الصحيح، وبتأمين الحريات الديمقراطية على أنواعها، وبتوثيق روابط الإخاء بين جميع المواطنين على اختلاف طوائفهم وأديانهم، والروابط الاقتصادية والثقافية بين لبنان وسائر الأقطار العربية، وبتشجيع الاقتصاد الوطني وحمايته في مختلف فروعه من تجارة وزراعة وصناعة، وبإصلاح التنظيم المالي، وبسن تشريعٍ للعمل مستمَد من روح العدل الاجتماعي والتضامن القومي، ثم يستمر إلى آخِر حلقات السلسلة. هو ككل برنامج محترم يَعِدُ كثيرًا، أعني يأتي البيوت من أبوابها. إنه البرنامج الذي لم يتغير ولم يتبدل منذ عشرات السنين، منذ وُجِد الدستور اللبناني؛ لسبب واحد هو أنه لم يُنفَّذ. يظهر، أيها الإخوان، أن البرامج كانت دائمًا أفضل من النواب الذين يحملونها، فأرجو أن توفَّقوا هذه المرَّة إلى نواب يكونون أفضل من البرامج التي تحملهم، نواب يكون برنامجهم الانتخابي برنامج حياتهم، نواب يقولون، ساعة تقرير المصير، كلمةَ الشعب اللبناني الطامح إلى الحرية والاستقلال والسعادة، لا يهمسون بها همسًا؛ بل يهتفون بها هتافًا.
إن البرنامج الذي أتقدَّم به إليكم، يتألَّف من أحد عشر بندًا، كلها عزيزٌ عليَّ، حبيبٌ إلى نفسي؛ كالأولاد ليس يُؤثر الأبُ أحدَهم على الآخَر، بعطفه وإشفاقه وعنايته، لكن لا أجد بُدًّا من الاعتراف بأن لي نظرة خاصَّة إلى البند الرابع من بنوده: «توثيق روابط الإخاء بين جميع المواطنين على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأجناسهم، بروح العدل والمساواة والتضامن القومي.» فكثيرًا ما أرجع إلى هذا البند، حتى ليسبق نظري إليه دون غيره. إن آفة لبنان هو الاستغلال بأنواعه، وشر هذه الأنواع إيقاع التفرقة — ثم استغلالها — بين أبنائه الذين أجمعوا على إرادة واحدة، هي إرادة العيش في ظلال هذا الوطن، بِحُرِّيَّةٍ وعدلٍ وتضامنٍ. لقد عزَّز هذا اليقينَ في نفوسنا، الاجتماعاتُ الكثيرة التي عقدناها، والتي كانت تضم الوطنيين الصادقين الواعين، من كل مذهبٍ ودين.
إن العالم مشغولٌ بحل مشاكله العُظمى، ونحن ما زلنا منهمكين في حل مشكلة ابتدائية حيوية، كِدتُ أقول: حيوانية. ليس بكافٍ، كلما رأينا البيت يحترق، أن نهبَّ جميعًا لإخماد النار، يجب أن نمنع أسباب الحريق، وأن نُبعد عن البيت المُحْرِقِين. لِنَقُلْ بصراحةٍ: لا يمكن أن يكون لبنان وطنًا مسيحيًّا، ولا وطنًا إسلاميًّا، لا يمكن أن يكون وطنًا لأي دينٍ من الأديان، أو مذهبٍ من المذاهب، لا يصحُّ أن يكون لُبنان إلا وطنًا لجميع اللبنانيين على السواء.
إنَّ وَعدَ الحرِّ دَينٌ، إنَّ وَعدَ الأحرار دَينٌ. في العام الماضي، احتفلنا أكثر من مرَّة، وفي أكثر من بلد؛ لانتصار الحلفاء في أفريقيا، ذلك الانتصار الذي انتهى بتطهير القارة السمراء من رجس المحور. وقد تخيَّلْنا عامئذٍ لضرورة الموقف، سائلًا يسألنا، وهو ضائق ذرعًا باحتفالنا المستمر الملحاح، سائلًا يسأل: أَمَا لهذا الاحتفال حدٌّ؟ كما يتساءل المغَنِّي الذي يُردِّد، من أول الليل حتى ساعةٍ مُتأخِّرةٍ منه، الدور المشهور: «أَمَا لهذا الليل آخِر؟» والحقُّ أن ذلك السائل لم يكن واحدًا، كما أنه ليس خياليًّا بهذا المقدار؛ لذلك أجبناهم عن سؤالهم قائلين: سنظل نحتفل للنصر الأفريقي ونحتفل، حتى يُرزَق الحلفاء نصرًا جديدًا، أو تُفتَح الجبهة الثانية مثلًا. حينئذٍ، وحينئذٍ فقط، نَكفُّ عن الاحتفال لذلك النصر؛ كي نفرغ للاحتفال للنصر الجديد، أو لفتح الجبهة الثانية.
إنَّ وعدَ الحُرِّ دَين. وها نحن أولاء، ننجز الآن وعدنا، نفي دَيننا، فنُعلن على رءوس الأشهاد أننا عَدَلنا عن الاحتفال لذلك النصر الأفريقي، فهو تاريخ قديم؛ كي ننصرف بكلِّيَّتِنا إلى الاحتفال لهذا النصر الجديد، الذي يحرزه الجيش الأحمر في الشرق، والجيوش الحليفة في الغرب، والذي سينتهي عمَّا قليل، بتطهير الأراضي السوفييتية، والأرض الفرنسية، وأوروبا بأسرها، من آفة النازية، وكل آتٍ قريب.
يقولون إن النازية لم يبقَ عندها شكٌّ في فشلها المتحتم، لكنها تودُّ أن تكسب ما أمكن من الوقت. نحن إذن مُتفقون أن الانحدار متحتم، لكن المسألة مسألة وقت، سوى أن الوقت كان يمشي في ركاب الأمم المتحدة، كان في خدمتها؛ بالأمس كان هتلر يُمنِّي نفسه بالنصر الصاعق، وها هو اليوم يعزِّي نفسه بالانهزام البطيء.
(لا يجوز الحكم على هذه الحرب بما يحدث من تطورات بين عشية وضحاها؛ إذ لا يمكن أن يكون للانتصارات أو للهزائم الموقتة أهمية حاسمة، بالنسبة إلى حرب لها هذا المجال العالمي و«التاريخي» الواسع …)
يُخيَّل إلينا، أول وهلة، أن هذه الكلمة قيلت منذ ثلاث أو أربع سنوات، وأن الذي قالها هو أحد قادة الأمم المتحدة التي لم تكن على تمام الأهبة المادية والمعنوية، أو التي أُخذت على حين غرة. لكن لا، إن هتلر هو الذي قالها منذ بضعة أيام: لهذه الحرب مجال عالمي وتاريخي واسع … ليؤذن لي هذه المرَّة، أن لا أرسل نفسي على سجيتها، فأتمثل هتلر، وقد فُتِحت عليه الجبهة الثانية في الغرب، يتعزَّى أو يتسلَّى بفتح جبهته الثانية في … التاريخ. كلا، إن لكلمته معنى آخَر هو جدير بالروية، الروية التي كنا ولم نزل ندعو إليها بني قومنا. إن ما يعنيه هتلر هنا يهمنا بالدرجة الأولى، ولا يصحُّ أن نغفل عنه طرفة عين.
وماذا يعني هتلر بقوله ذاك؟
يريد أن يقول إنه قد غلب هو، لكن النازية لم تُغلَب نهائيًّا، وإن الماكنة الحربية الضخمة التي أعدَّها لنصرة النازية قد تُحطَّم، لكن النازية لا تُحطَّم إلى الأبد، وإن ألمانيا معقل النازية في هذا الزمن، قد تضطر إلى طرح سلاحها، إلى التسليم، لكن النازية لا تطرح سلاحها، ولا تسلِّم … يريد هتلر، بعبارة واحدة، أن يقول: إن النازية التي فشلت في هذه الحرب، في مجالها العالمي، لم تفشل بعدُ في هذه الحرب، في مجالها التاريخي. فليس بكافٍ أن يُغلب هتلر، وأن تتحطم ماكنته الحربية، وأن ترمي ألمانيا سلاحها، كي نطمئن إلى أن النازية قد لفظت أنفاسها الأخيرة، وأنه لن يُبعث مَن في القبور. إن هتلر الذي انهزم في ميدان العالم، يضرب لنا موعدًا في مجال التاريخ.
كل ذلك عرفناه، ولم نكن بحاجة إلى أن يذكرنا به مذكِّرٌ. سنكون دائمًا في الموعد، مهما يكن الاسم الذي تتسمى به النازية، والقناع الذي تتقنَّع به النازية، سنكون دائمًا في الموعد، وفي المعسكر نفسه، معسكر الحرية والتقدم، معسكر النصر.
كل هذا عرفناه، ولم نكن بحاجة إلى مَن يُذكِّرنا به، حتى ولا هؤلاء المتَسَمِّين بالقوميين، الفهاررة الأقزام، الذين يطمعون هم أيضًا بأن يشدوا العجلة إلى وراء، بأن يرجعوا بنا القهقري، فإذا غاية جهدهم أنهم يمثلون في بلادنا، بعد فاجعة النازية في العالم وفي التاريخ، ذلك الفصل الهزلي الذي يظهر أنه لا بُدَّ منه. لكن حبَّذا لو كانوا يختارون لهذه المهزلة مسرحًا غير لُبنان! سنحملهم على أن يختاروا لها مسرحًا غير لُبنان!
منذ اجتمعنا آخِر مرَّة في هذا المكان، وكان ذلك لمناسبة أول نوَّار على ما أذكر، حدثت في البلد أحداث وأحاديث … ماذا أقص عليكم مما حدث، وهي حياتكم اليومية والعامة على السواء؟ خُلاصة الخبر أنه جاءت حكومة، بعد أن ذهبت حكومة، أو جاءتا وذهبتا في وقتٍ معًا، وهو الأصح وليست تدري إحداهما لماذا جاءت، ولا الأخرى لماذا ذهبت، كذلك نحن لا نعرف على التدقيق مَن الذين ذهبوا، ومَن الذين جاءوا. يقول بعضهم بإن الحكومة التي جاءت هي خير من الحكومة التي ذهبت، ويقول فريقٌ آخر بالعكس، وكلٌّ من الفريقين غير مقتنع كل الاقتناع.
ثم إنه انعقدت مؤتمرات وانفضَّت مؤتمرات، أو لم تنعقد حتى انفضَّت، وقد كانت هذه المؤتمرات كالسؤال وجوابه، أو كالصوت وصداه، لكن الجواب ما لبث حتى صار سؤالًا يحتاج إلى جواب، والصدى صوتًا يثير أصداء … وهكذا دواليك. ثم إنه تغيَّرَتِ السياسة؛ كانت سياسة أشخاص و«بعض» المبادئ، فأمست سياسة مبادئ من غير أشخاص، فسياسة أشخاص من غير مبادئ، وأخيرًا — وهو الأقرب إلى الروح العملي — سياسة «بعض» المبادئ و«بعض» الأشخاص.
ماذا تريدون أن أقص عليكم؟ الأفضل أن «نسافر» من هذا الزمن، ونرجع إلى الوراء قرنًا ونصف قرن، فنتحدَّث عن الثورة الفرنسية مثلًا، مخافة أن يرجعوا بنا إلى أبعد من ذلك العهد، إلى ما قبل التاريخ.
تُعَيِّد الأُمَّة الفرنسية ويُعَيِّد العالم معها كل عام ليوم الرابع عشر من تموز، ويسمونه: عيد الحريِّة. في ذلك اليوم من سنة ١٧٨٩ أثبت الشعبُ ذاتَه وإرادتَه وقوَّتَه، وفي ذلك اليوم أيضًا كانت الإنسانية، وفرنسا في الطليعة، تجتاز إحدى المراحل التاريخية الكبرى نحو انعتاق الإنسان من العبودية بأنواعها.
ماذا كانت حالة فرنسا في ذلك العهد؛ حالتها السياسية والاجتماعية؟ أخاف إذا أنا أطلت الكلام في الموضوع أن يتبادر إلى الأذهان أني أُحدِّثكم عن حالة بلادنا أو أدعو إلى الثورة. حاشا وكلا! إن حقوق اللبناني قد أُعلِنت عندنا من زمنٍ بعيد، منذ الدستور العثماني على الأقل، ولم يبقَ إلا أن تُطبَّق، وكل آتٍ قريب. على أن سلسلة الأحداث الخطيرة التي عُرِفت بالثورة الفرنسية، لم تكن حلقاتها الأُولى سوى حركة تقدمية سلمية يُراد بها رفع المظالم الصارخة؛ بل «الزوائد» الفاحشة التي إن يكن عجيبًا من الشعب الفرنسي، العمل على إزالتها حتى بالعنف، فقد كان الصبر على بقائها، أو على محاولة إبقائها، من بعض الطبقات، بالعنف والخيانة معًا، أعجب وأدهى وأبلغ في النكاية.
في أواخر القرن الثامن عشر تغيَّرَت أشياء كثيرة في فرنسا، ومن جملتها الأفكار، هكذا تبدأ الحكاية؛ فالأوضاع والأساليب التي كان الشعب الفرنسي مذعنًا لها كمفاسد لا مندوحة عنها، أضحت في نظره مظالم لا تطاق، من الواجب ومن الممكن إزالتها. لم يكن الشعب عهدذاك يطلب غير وضع حدٍّ لاستبداد الحُكَّام، وللتعصب الديني أو المذهبي، ولعدم المساواة بين الأفراد. كانت مطالبه تلخص في شعار مشهور تداولته الألسنةُ والأقلامُ، منذ أواسط القرن: «حرية – مساواة»، وهي — كما ترون — ليست على شيء من التطرف، نظريًّا على الأقل، لكنَّ معنى هذا بطبيعة الحال، كان القضاء عمليًّا على طريقة الحكم المطلق، وعلى سُنَّة الإكراه في الدين، وعلى قاعدة التفاوت في الضرائب والمكوس، وعلى بقايا الإقطاعية بوجه عام — أي بكلمة واحدة: على الامتياز. سوى أن ذوي الامتياز لا يريدون حرية ولا مساواة، لسبب بسيط هو أنهم مكتفون؛ تكفيهم الامتيازات!
لقد أجمع المؤرخون على القول بأنه لم يكن في المجلس الوطني المنعقد سنة ١٧٨٩، والذي أعطى فرنسا دستورها الجديد، ثوريٌّ أو رجلُ فتنةٍ واحد. إذن فمَن هم الذين ثاروا وأضرموا نار الفتنَة؟ إن الرجعيين من الطبقات الممتازة، أخذوا يحاربون بكل الوسائل، في داخل وفي خارج النظام الذي استصلحه الشعب الفرنسي، أو ارتضاه لذاته؛ ذلك أن الرجعية لم تؤت صبر الشعب وسعة صدره، فتسلِّم بأن هذه الأنظمة إصلاحات واجبة لا بُدَّ منها، أو على الأقل لا بأس بها؛ فطفق ذَوو الامتياز من النبلاء وغيرهم، يهاجرون إلى البلاد الأجنبية، حيث عبئوا جيشًا على رأسه ستة آلاف ضابط، من تسعة آلاف هم كلُّ ضباط الجيش الفرنسي، وكان في عدادهم شقيق الملك لويس السادس عشر، وأهله الأدنون. فما الذي يتورَّع ذَوو الامتياز عن اقترافه لحفظ امتيازاتهم، ولدوام استغلالهم، كأن الوطن «حقل» لا شركة لأحد فيه، حتى ولا للكادحين العاملين فيه؟ (يظهر أن ثمة فرقًا بين الاشتغال في «الحقول» والاشتغال في «حقل الوطنية»، فكلتاهما مهنة خاصة على حدة، لها أربابها …)
والآن، ماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة المعقولة الطبيعية أن المجلس الفرنسي اتخذ قرارًا عادلًا منصفًا لأُولئك الأشراف الذين أثبتوا — مرَّةً أُخرى في تاريخ الأمم — أن لفظة «الشرف» هذه قد تكون، في كل اللغات، من أسماء الأضداد … وأن الملك لم يوافق على قرار مجلس الأُمَّة، بل أخذ يعمل على استمالة أعضائه وقادة الجيش، بالرشوة وغيرها من الحيل أو الطرق غير المشروعة؛ لحملهم على مناوأة النظام الجديد، وكان في الوقت نفسه يفاوض زملاءه ملوك أوروبا طالبًا النجدة. وقد حاول الفرار من باريس عاصمته، فقُبِض عليه وأُرجِع بالقُوَّة، ثم سُجِن وحُوكِم وأُعدِم بتهمة مُمالأة العدو والتآمر على سلامة الوطن … زعموا أن ذلك الرجل كان ملكًا بإرادة الله. أما الأمر الثابت فهو أن شعبه ضاق به ذرعًا!
إن الثورة الفرنسية لم تعلن حقوق الفرنسي وحسب؛ حقوقه السياسية والمدنية، بل أعلنت أيضًا حقوق الإنسان. وهكذا كانت الثورة ومبادؤها بشيرَ خيرٍ وصلاحٍ للأمم جميعًا، حتى ليصحَّ القول إنها ثورة إنسانية عالمية، بقدر ما هي ثورة فرنسية وطنية … وإلا كانت كل أُمَّة في العالم تترك للفرنسيين مؤنة الاحتفال لثورتهم، ثم تفتش لها عن ثورة أو شبه ثورة خصوصية تتسلى بها، إذا لم يكن بدٌّ من الاحتفال.
كانت الثورة الفرنسية بشيرَ خيرٍ وصلاحٍ وأملٍ للأمم جميعًا، فلا عجب أن تكون في الوقت نفسه نذير ويلٍ وخطرٍ وخسران، للملوك والأمراء وذَوي الامتياز في العالم كله. كذلك لم يلبث هؤلاء الملوك والأمراء وذَوو الامتياز حتى تألبوا على الشعب الفرنسي واجتاحوا أرضه، فكانت الملحمة المجيدة التي هبَّ فيها الشعبُ يذود عن وطنه وعن كرامة الإنسان، صامدًا في وجه الرجعية الأوروبية، فضاربًا في أقفيتها، فناشرًا حيثما حلَّ بذور المبادئ الجديدة، مبادئ الحرية والمساواة والإخاء للأفراد وللأمم على السواء.
لقد انقضى قرنٌ ونصف قرن منذ ذلك العهد، واجتاح العدو الغاصب الأرض الفرنسية، كرة أخرى، وشهدنا في فرنسا ثورة، لكن معكوسة؛ ثورة على الشعب الفرنسي، تريد أن ترجع به القهقري. إن الرجعية حيثما كانت، تَلَغُ في كل إناءٍ، فلا تدع فرصةً إلا اغتنمتها، وقد اغتنمت الرجعية الفرنسية، هذه المرة، فرصةَ هتلر القائل وهو الكاذب: «ليست الديمقراطية سوى أكذوبة.» وغوبلز الصارخ وهو ينبح القمر: «إن عام ١٧٨٩ سيُلغى من التاريخ.» حقًّا إن الرجعية حريصة على تقاليدها، فهي لم تحد قيد شعرة، عن خطة مهاجري الثورة الذين ائتمروا والأجنبي، ومشوا صفًّا واحدًا في خدمة ملك بروسيا، لمحاربة جيوش الجمهورية الأولى. لكن للشعب الفرنسي، وهو من أعظم شعوب الدنيا ثورية واندفاعًا إلى الإصلاح، تقاليدَه أيضًا، وليس يحيد عنها قيد شعرة ساعة الخطر. إن المقاومة الفرنسية، في داخل وفي خارج، تحمل المشعل الوهَّاج الذي لا ينطفئ؛ مشعل الحرية وحقوق الإنسان والتقدم.
من حقكم الآن، وأنا أهِمُّ بالانصراف، أن تسألوني: (ونحن ما شأننا؟ أين مشعل تقدمنا وحريتنا، وحقوق «إنسانيتنا»؟) هذه أيضًا أقصوصة من تلك الأقاصيص القديمة الجديدة؛ كالحكومات التي تروح وتجيء، والمؤتمرات التي تنعقد وتنفض، والسياسات التي تتبدَّل وتبقى هي هي … كقصص الحيات لا تنتهي إذا لم يوضع لها حدٌّ.
مَن منكم لم يرَ في ساحات هذه العاصمة البهلوان الذي يزدحم الناس حوله، فيشهدهم من مخاريقه العجب العجاب؟ أنا لستُ أنسى صنعه بالمشعل، كيف يلوح به في الفضاء فإذا نوره يخطف الأبصار، ثم يبتلعه فإذا لا نور ولا نار! هو مشعبذ محتال، لكن انطفاء النور في فمه حقيقة مشهودة، وواقع راهن. فإذا أردتم أن تعرفوا أين مشعل تقدمكم وحريتكم وحقوقكم، فاطلبوه في حلق السياسة «الممتازة»، اطلبوه ثمة قبل فوات الأوان، فإنَّ حَلْق السياسةِ أقرب الطرق إلى جوفها.
يأتي على كل امرئ، وكذلك على كل أُمَّة، حينٌ من الدهر، يجب فيه أن تختار، ولا سيما أن تُحسن الاختيار. وأكبر الظن أن اللبنانيين اليوم سيكفون السياسةَ عناءَ الاختيار لهم، أو عنهم، أو باسمهم. سيختارون هم بأنفسهم لأنفسهم، ويجربون هكذا حظهم. فَلْنثبت للملأ أن مبادئ الثورة الفرنسية وما سواها من الحركات التقدمية، ليست فقط في الكتب التي نقرؤها، بل هي أيضًا في الحياة التي نحياها.
صديق اللبنانيين، سجين فيشي بضع سنين، من قادة الشعب الفرنسي في مناضلته النازية منذ كانت، وهو في السابقين الأولين.
إن صفة واحدة من هذه الصفات، إن مأثرة واحدة من هذه المآثر، كافية لأن تجعل المرء عندنا جديرًا بالتكرمة الخالصة، والحفاوة البالغة، فكيف و«جاك غريزا» قد اجتمعت فيه كل تلك الصفات، كل تلك المآثر؟
على أني لست أضمن أن لا صفات له ولا مآثر، إلا ما ذكرت.
آه! نسيت أن أقول لكم إنه شيوعي أيضًا. إنكم ولا ريب ستحتجون بأن «أيضًا» هذه هي في غير موضعها هنا؛ بهذا كان يجب أن تبتدئ وبه تنتهي، فعلامَ التطويل؟!
وسترون عمَّا قليل، كيف يقابل «جاك غريزا» تكرمتنا وحفاوتنا: لقد فهم — ولم يرضَ بأن يفهم شيئًا آخَر — أننا نطالبه بحديث مسهب، بمحاضرة عن «مقاومة الشعب الفرنسي وفرنسا الجديدة»: ذلك في نظره هو كل هذا الاحتفال.
وسترون أنه تكلَّف وحده من الجهد أكثر مما تكلفنا نحن جميعًا، فأتى — يا للضيف الكريم! حاملًا إلى مُضيفيه «الزوادة» الفاخرة، المنشطة، المحيية، رادًّا التحية بمثلها، بل بخيرٍ منها.
إن «جاك غريزا» وصحبه يعرفون كيف يصرفون هذه الحفلات والتظاهرات عن وجوههم إلى وجهاتها؛ الوجهات التي هم يرونها أحق بالتكرمة والحفاوة، إلى الأشياء الباقية والقيم الرفيعة التي لا معنى للحياة بدونها.
إن «جاك غريزا» وصحبه الذين صمدوا في الجحيم النازي أو في «تفرعاته» للتعذيب، للتنكيل، للتقتيل، للإبادة، راسخي القدم، ثابتي الجنان، عالي الجبين، يعرفون كيف يحنون رءوسهم الأبيَّة؛ كي تتجاوزها باقاتُ الزهر التي يرشقون بها، إلى تلك الأشياء الباقية، والقيم الرفيعة التي لا معنى للحياة بدونها: إلى وطنهم، إلى شعبهم، إلى مَثلهم الإنساني الأعلى … ولعل ذلك، والحق يقال، ناشئ عن أنهم تعودوا من الرشق، إلى زمنٍ قريب، غير هذا النوع الزاهر!
لسنا من الذين يتصنعون اليأس من الشعب الفرنسي تصنعًا. لسنا من الذين يوطنون أنفسهم على «ضرورة» اليأس من الشعب الفرنسي، أكثر من أي شعب من الشعوب، وكأنهم يريدون أن يخصُّوهُ بهذه «المعاملة الممتازة» كي يتفرغوا لهوى أجنبيٍّ آخر، لرجاءٍ «متضخم». أجل، لسنا من هؤلاء.
إننا — ولسنا نخشى لومة لائم، ونحن فوق تهمة أي متهم — نرحب بفرنسا الجديدة كما يصورها «جاك غريزا» صديق اللبنانيين، ورفاقه أصدقاء الشعوب.
تلك الصداقة التي نرحب بها، والتي لا محل لسواها، لا في عقولنا ولا في قلوبنا، صداقة الوطن المستقل لوطنٍ مستقل، والشعب الحر لشعبٍ حر، والجماهير العاملة لجماهيرٍ عاملة، ليست صداقة فئة هنالك لفئة هنا، هي أحرى بأن تُدعى «شركة» أي أن تُسمى باسمها.
ذلك الضرب من الصداقة هو الذي أنطق «جاك غريزا»، هنا في بيروت، منذ عام ١٩٣٨ بهذه الكلمة: «نحن لا نريد استقلال لبنان وحسب. نحن نريد استقلال الشعب اللبناني أيضًا.» ولا حاجة بي إلى القول إن استقلال الشعب اللبناني — في رأي «جاك غريزا» وفي رأينا — إنما هو تحرره، تحرر جماهيره، تحررها بكل معنى الكلمة، بمعناها العميق الشامل؛ ذلك هو الاستقلال الأمثل.
والآن، قبل أن يفرَّ «جاك غريزا» من معركة الزهر هذه، ويلجأ إلى محاضرته الحصينة ليؤذنَ لي أن أحيي في شخصه المناضل، شيوعيي الفرنسيس والعالم أجمع، طليعةَ جيش التقدم والمساواة والحرية. إن مستقبل الإنسان مَدين لهؤلاء.
قلت: مستقبل الإنسان!
منذ عام، وإذا شئتم أن يصح الحساب تمامًا وجب أن نقول: منذ عام وأسبوع …
من أين جاء ذلك الأسبوع؟ لقد غاظنا جدًّا ذلك الأسبوع، غاظنا من كل الوجوه، لكن بوسعنا، وبوسعنا نحن وحدنا، أن نفترض أن ذلك الأسبوع لم يكن، لسبب بسيط هو أنه لا محل له من الإعراب؛ فلولا ذلك الأسبوع، ما كنا اليوم في السابع من أيار، لولاه كنا حيث ينبغي أن نكون، أي في الأول من أيار، نحتفل في الموعد المضروب لعيد العمل والعمال.
لقد أردتم بملء إرادتكم، بمحض اختياركم، أن يُؤخَّر الاحتفال؛ ضنًّا بهذا العيد المجيد أن تشوبه أية شائبة، أيًّا كان مصدرها، وأيًّا يكون مصيرها. إن كثيرًا من الأعياد لا تنتظر، يجب أن يُحتفل لها في وقتها، وإلَّا لم يبقَ لها موضع أو موضوع. أما عيد العمل والعمال، أول أيار، فهو يعرف أن ينتظر، إنه تعوَّد الصبرَ الطويل، إنه كقضية العمل والعمال نفسها، يعرف أن ينتظر، ويعرف أن ينتصر.
إذن لقد انقضى عام، منذ اجتمعنا في هذا المكان لهذه المناسبة، عام ضخم سمين حافل بأحداث لها ما بعدها، نكاد من أجلها نغتفر له الذيل الذي أُلحق به إلحاقًا، أو أُلصق إلصاقًا، ونكاد نضرب صفحًا عن التأخير في موعد عيدنا.
في ذلك العام السعيد، طرد الجيش الأحمر من الأراضي السوفييتية، الوحش النازي، وهو الآن رافع يده الجبَّارة لينزل به الضربة القاضية. وهكذا أعطى الاتحاد السوفييتي البرهان على أن قضية الحق والحرية في العالم بأسره، تمشي بخطى سريعة، بخطى محتمة، إلى النصر المبين، إلى النصر المحتوم. لقد أعطى الاتحاد السوفيياتي على ذلك آخِر برهان، لآخِر المشكِّكين.
وفي هذا العام السعيد أيضًا تمكَّن الشعب اللبناني من ممارسة شطر كبير من خصائص استقلاله وسيادته القومية، التي ظل محرومًا منها خلال قرون متطاولة. وهو يسير قدمًا نحو استكمال سيادته واستقلاله، محمولًا على جناحي تلك الروح الجديدة التي تتجلي رغم كل شيء، رغم كل الأشياء التي لا يُعتدُّ بها، في إرادة اللبنانيين الواعين المخلصين، على اختلاف طوائفهم وأجناسهم، أن يعيشوا معًا أبناء شعبٍ واحدٍ حر، في وطنٍ واحدٍ سعيد. ونحن على يقين من أن هذه الروح ستبقى متجلية في جهود اللبنانيين المتوافرة، لحفظ كيانهم الوطني وتعزيز كرامتهم القومية، كما أننا على يقين من أن هذه الروح الخيِّرة تتجلى بأروع مظاهرها وأنبلها وأبقاها، في العمال ومنظماتهم الرشيدة.
لقد أنقذ العمال الحرية في العالم، فليس بدعًا أن يُنتظَر منهم أن يحفظوا الحرية في لبنان. ليس أول أيار عيد العمال وحسب، فهو أيضًا عرس الحرية، وإنما هو عرس الحرية لأنه عيد العمال.