الفصل الثاني
… وذاك — أيها السادة — صاحب الذكرى، كما ترون؛ لم تَسِرْ به الحياةُ على خطٍّ واحدٍ؛ بل على خطوطٍ عِدةً، متوازيةً تارةً، متقاطعةً تارةً أُخرى، تتناوب قِصَرًا وطولًا، شطرَ غاياتها، كمدِّ البحرِ وجَزْرِهِ، وفقَ مُلابسة الدنيا ومناسبة الزمن. وإنه لمن سعد الطالع أن الوجود لم يتغنَّ به، كما يصنع بالخلق عادةً، على الوتيرة الواحدة — مِنْ سَعْدِ المنْشِد والسامعيه على السواء. لكن التلخيص والتبسيط قد يصوران تلك السيرة، مجردةً من الملابسة الدنيوية، والمناسبة الزمنية، تدور على محوريها من القول والعمل، من جودة القول وصلاح العمل.
قال الشعر بالفصحى سالكًا الجدَد، وهواه في العامية، ابنتها الحسناء غير الشرعية. عمل في الإدارة «النظامية» لكن حنينه إلى هامشها؛ النضال حتى التمرد. وإنه لَمِمَّا يشغل الذهن حقًّا، هذا الاتصال البعيد الغور، الأصيل عند الشعراء، بين عبقرية القول وعبقرية العمل. فالمتنبي مات على إيمانٍ بأنه حُرِم كل شيء لأنه لم يُعطَ ولاية، ورنبو دَفَن ذاته، تاجرًا مغامرًا، في أنكد عيش. ناهيك بأبي نواس، ذلك الماجن الذي يتوعد في بعض شعره البصري جادًّا، بأن «سيبغي الغنى، إمَّا جليس خليفة، أو مُخيف سبيل.
فكأني بالشعراء يعييهم الخلقُ بالكلمة، في دنيا الصور والفِكَر، فيلوذون بدنيانا، ليضعوا طابعهم في طينتها المجبولة بعرق البشر ودمهم، وهكذا يهبطون من حالق، فيثأرون من أنفسهم؛ إذ يحسبون أنهم يثأرون لها، فيا للفجيعة!
على أن صاحب هذه الذكرى وُفِّق أخيرًا، إلى التوفيق بين القول الجيِّد والعمل والصالح، في ذلك المزيج الفذِّ «كلنا للوطن». فالنشيد اللبناني، ككل نشيد وطني يحيا في الجماهير، هو كلام متجدد الروعة، وفعال باقي الأثر.
كنت أفكر في الكتاب العربي. أقول: الكتاب العربي، وأعني: اللغة العربية، لكن ليس بوصفها أداة للعبارة عن إدراك الإنسان وتصوره وإحساسه، شأن سائر اللغات — أداة وحسب — بل أيضًا بما حُمِّلَتْه تلك الأداة، قديمًا وحديثًا، من روائع المنظوم والمنثور، في كل فن، ومن كل لون. ولا حاجة بي إلى القول إن تفكيري هذا لم يكن تفكير كاتب من الكتَّاب، بل تفكير قارئ من القارئين.
وكنت في الوقت نفسه أستعرض، عن غير قصد ولا روية، بسرعة البرق الخاطف، صورًا ناصعة وباهتة من حياتي، في مختلف أطوارها وبيئاتها المادية والمعنوية؛ فانتهيت — ولست أجد في ذلك غرابة ولا غضاضة — إلى هذه النتيجة البسيطة المركبة على السواء، وهي أني، بعد كل حساب، مدين للكتاب العربي بأرغد شطر من عمري.
لقد عرفت، كأيٍّ من خلق الله — من غمار الناس، فلا محلَّ للتواضع الكاذب — حالات لذة وبهجة وهناء، مما تيسِّره لنا، أو تُغدقه علينا، هذه الحياة الدنيا. لكن ما أعطانيه الكتاب العربي هو أبعد غورًا وألصق بسويدائي، وأكثر شمولًا وأبقى على الأيام، وأصفى جوهرًا وأسمى من كل ما عداه. وليس في هذا الحكم إجحاف بأيِّ حقٍّ، ولا نكران لأيِّ جميل. كذلك أدخلت في الحساب، ومنذ البداية، قضية «السن» أيضًا، سوى أني لا أعرف في حياتنا من المباهج والملاذ ما ليس يمازجه أو يعقبه كثمالة الكأس، شيء من الخيبة أو الندم أو القلق، خلا مباهج الكتاب وملاذه؛ الكتاب الجيد الذي تقرؤه أكثر من مرَّة، فكلَّ مرَّة يزيدك لذة وابتهاجًا.
كنت أُفكر في الكتاب العربي، في متعته الباقية وجوهره الصافي، لما جائني نعيُ شيخنا الغلاييني — رحمه الله. لا أريد أن استبق الحوادث، فأذكُر علَّامة بيروت وفقيد اللغة العربية، بما هو أهله، قبل أن تقام لإحياء ذكراه وتكريمها حفلة أو حفلات يتبارى فيها الشعراءُ والخطباءُ. لا، لكن هذا الكتاب العربي الذي كنت أُفكر فيه، ليس يفترق في ذهني — وفي ذهني خاصة — عن صورة للغلاييني وهو فتى. هو في أول عهده بالتدريس، وأنا في أول عهدي بالدراسة؛ يعلِّمنا العربية فيجيد تعليمنا، ويؤدبنا بها فيحسن تأديبنا، بكل ما أُوتيه من معرفة وإيمان. إني — وكثير أمثالي في هذا البلد — مدين للشيخ مصطفى الغلاييني، بأفضل ما عندي من معرفة وإيمان بلغة الضاد، ومدين له بما قد يكون خيرًا من هذا كله؛ مدين له بالانطباع الأول، بالدفعة الأولى. وإنْ أنسَ لا أنسَ كيف كان — رحمه الله — يعلِّمنا العربية وقواعدها، في مؤلفاته وهي بعدُ مخطوطة، في حيِّز التأليف، قبل أن تصير «سلسلة الدروس العربية» المطبوعة والمتداولة في أيدي الألوف من الطلَّاب، في جميع الأقطار، فكأنَّنا كنا نحضر مولد تلك الكتب النافعة، أو كأن لنا في وضعها حظًّا.
منذ نحو ثلاثة أعوام، نظَّمت ورزارة التربية والفنون الجميلة، سلسلة محاضرات أُذيعت من محطة بيروت، في موضوع «الثقافة ومظاهرها المختلفة في لبنان»، وقد طُلِب يومذاك إلى فقيدنا الكبير أن يحدِّثَ المستمعين عن اللغة العربية ونصيب لبنان منها، فألقى — رحمه الله — محاضرةً قيِّمةً لا يزال أثرها في نفوس الكثيرين مِمَّن سمعوها أو قرءوا نصَّها. في تلك المحاضرة أتى الغلايينيُّ على تعداد عشرات الأسماء لأعلام اللبنانيين الذين كان لهم في تدريس العربية ونشر آدابها أوفر نصيب، مبتدئًا بالشيخين محمد الحوت وناصيف اليازجي، ومنتهيًا بالمعلمين جبر ضومط وأحمد عباس الأزهري. وهذه اليوم في تاج العربية الذي يزيِّن مفرق لبنان، جوهرة جديدة فريدة. رحم الله أستاذنا الغلاييني بقدر ما أشرب قلوبنا من محبَّة للكتاب العربي.
لخمسة عشر عامًا خلت، كنت أزاول المحاماة على طريقة خاصة؛ أعني: أتمرَّس بها كتمرُّس أبي الطيب المتنبي بالآفات، لا المحاماة تنقاد إليَّ صاغرة، ولا أنا أبشُّ لها متزلفًا، فكنتُ أدعو الله سرًّا وعلانيةً أن يصرفها عني بالتي هي أحسن؛ كي لا يكون من ذلك عليَّ حُجة، ولا سيما عند الذين لا شأن لهم معي، وهكذا الناس.
في ذلك الوقت العصيب أغارت مجلة «الكَشَّاف» بخيلها ورجلها، وبين بكرة وضحاها احتلَّت مكتبي، كأنما أُلهمت أن تملأ فراغه، مخافة أن يطير. وإذا قلت: «بخيلها ورجلها» فقد أسميت — لا أكثر ولا أقل — بهاء الدين الطَبَّاع مدير تلك المجلة، الذي كان والحمد لله، بمختلف حركاته وجميع أصواته، جيشًا وحده. لكن لم يكن لهذا الجيش اللَّجِب من العتاد، سوى قلب صادق شجاع، وهو على ما يظهر دون الكفاية.
وكان أمين الريحاني يعطف على الكشفية، وكان هذا العطف يتجلى في أجمل صوره؛ مقالة يمدُّ بها مجلتهم «الكَشَّاف» كلَّ شهر أو شهرين، لا يكاد ينقطع مددُه، ولا حاجة إلى القول إن خير ما في أجزاء تلك المجلة، كان فصولًا للريحاني من كتابه القيِّم «تاريخ نجد الحديث» قبل طبعه، بذلها بسخاء وأريحية لم أعرف لهما مثيلًا عند كبار مؤلفينا. لكن ظللت زمنًا نفسي تحدثني وهي فخور، بأنه إنما يفعل هذا إكرامًا لي، ثم لم ألبث حتى علمت أنه سخاء في الطبع وأريحية في الفطرة، شاءَ الريحاني أن يؤثر بهما «القلب الصادق الشجاع» عسى أن يثبت للملأ أن هذا وحده، رغم كل شيء، قد يكفي أحيانًا. وأصبحت مجلة «الكَشَّاف» ولها أمين الريحاني — ليس لها إِلَّاه — وكفى!
الآن، وكأن ذلك العمر البعيد القريب سفينة عصفت بها أهواء وأنواء لا أدري أيهما كان أشدَّ هَولًا، وقد تحطَّمت السفينة وضاعت حمولتها بين سمع الزمان وبصره، تعود بي الذكرى الأمينة إلى الحقبة السعيدة، هنيهات أنا منها في واحة المسافر بلغ منه الظمأ والعَياء. في هذه الواحة لا أفتَأ أتمثَّل الريحاني، كلما قدم بيروت من صومعته في الفريكة، مُقبلًا علينا بوجهه الطلق، فلا يستقر به المجلس حتى يسأل متلهفًا: «كيف المجلَّة؟» ثم يلتف إلى الطَبَّاع قائلًا بلهجة المعتذر: «وبهاء؟ كيف صحته؟» وترنُّ في أنحاء الغرفة الضيِّقة، ضحكة بريئة لا تحَفُّظ فيها ولا إسفاف، عادلة بين السخر الطاري، والوداد المقيم. أمَّا بهاء الدين فيكون مشغولًا عن الجواب بانتظار المدد الذي يأتيه، أغلب الأحيان، في صورة مقالة، أو فصل من كتاب لم يُطبَع، أو بعض فصل.
فمن تراث ذلك الزمن الرغد الذي تُجِدُّهُ الذكرى اليوم، حتى كأني لم أُبارحه قيد لحظة أو شبر؛ وُرَيقاتٌ معدوداتٌ بخط الريحاني، لست أدري كيف ولماذا حفظتها، منذ نُشِرت في أحد أجزاء «الكَشَّاف» سنة ١٩٢٨، وها هي، بعد أن لبثت في دُرجي أعوامًا كالأسماء المنسية المطوية في غيابة الذاكرة، تنبعث فجأة وتطفو كحطام السفينة الغريقة بين السماء والماء؛ صحائف خطَّها قلم الريحاني، واضحة مثل نفسه، مستقيمة استقامة تفكيره، بذلك الخط المعروف المألوف لدى أرباب الصحف في العالمين القديم والجديد؛ خط وسط بين التربيع والتدوير. وهنا، على زوايا الوريقات الثمينة، لَطْخٌ أسود من بصمات مرتِّب الحروف الذي قرأها — ولا بُدَّ — متهجِّئًا، فأنا أيضًا ما زلت أقرأ هذه الصحائف بضرب من التهجئة الذهنية، لست أخرم من معانيها ومقاصدها معنى أو مقصدًا، فلا أزداد إلا إعجابًا بها. ثم تغلبني الذكرى، وترجع بي القهقرى، حتى إذا اكتنفني ذلك الماضي، علمت علم اليقين أني ما ادَّخرتها يومذاك، إلا لهذا الإعجاب الذي يعاودني الساعة، ممزوجًا بالحنين.
تلك الصحائف مقالة عنوانها «في ربيع اليأس» هي عندي من أروع ما كتبه الريحاني، وأبقاه على وجه الأيام، حكى فيها حكاية نفسه، مهملًا الفضول، نابذًا القشور التي تلازم حياة أيِّ إنسان مهما يكن عظيمًا، ولا سيما إذا كان عظيمًا. ترجمة حال بقلم صاحبها، متبلورة، صافية كالذهب الإبريز، بل لوحة رسم عليها المصور البارع خطوط آرائه في المجتمع والسياسة والدين، في المبدأ والمصير وما بينهما، وسط هالة من الذكريات الخاصة تنبض إحساسًا، وتفيض قوة إيحاء. في هذه المقالة «فتح الريحاني — كما يقول — كتاب النفس، ليُطلِعَ قارئَه العزيز على صفحة من صفحاته الشخصية الخصوصية». وهو كتاب لم يكن الريحاني، بوازع من الأَنَفة الحييَّة، ليفتحه إلَّا في النادر القليل، ولقد يُخيَّل إليَّ حينًا أنه إنما أنشأ هذا المقال الفذَّ خلال أزمة نفسانية لم نعرف مداها، انتقل فيها من شتاء اليأس إلى ربيعه، لكنه لم يخرج من اليأس، تتغير الفصول وتبقى الدنيا كما هي. وكان عزاء الريحاني في تلك الأزمة النفسانية أن «ليأسه — كما يقول — سُلمًا لولبيًّا من الأشواق والآمال، وأنه وهو المقيم في وادي الفريكة، في هذا الزمان، زهرة من يأس الأنبياء؛ زهرة نوَّرت، فذوت، فتناثرت أوراقها، ثم انتثرت من قلبها بذور الحياة، فحملتها الرياح إلى النواحي الأربع من الأرض».
لا أعرف مَن ترجم للريحاني بأصدق من هذا الكلام.
في الأدب العربي الحديث ما يصح أن نسميه «المدرسة الأمريكية»، ولعلَّ هذه المدرسة، في اختلاط المحاولات وفوضى التيارات، أبرز مدارسنا الأدبية الجديدة خصائص، وأوضحها مميزات؛ سواء أمِنْ ناحيةِ التفكير، أم مِن ناحية التعبير. كادت هذه المدرسة، في الأدب العربي الحديث، تكون كالجزيرة الحائرة، تبحث في عرض الأوقيانوس عن ساحل تستقر فيه وتلتصق به، وهي في الأدب العربي على إطلاقه — قديمه والجديد — أشد حيرة وأنأى غربة، فكأن لم يكن من همِّ أصحاب هذه المدرسة، ولا سيما في نشأتها الأولى، إلا أن يأووا من الأدب في أرض عذراء بور، لا حائط ولا شجر؛ كي يزرعوا هم، ويرفعوا الجدران. وقديمًا اتهموا الشعب الأمريكي نفسه بحداثة العهد في الآداب والفنون وسائر أسباب الثقافة، فزعموا أن لا ماضي له، أي لا تقاليد. لقد اتسم الأدب الغربي في المهجر، بهذه السمة ذاتها، لا أكثر ولا أقل، وهي أحقُّ أن تُطلَق عليه من صفة «الثورة» التي ادعاها، أو نحلوه إيَّاها.
يقول «ريمي دي غورمون»: «كل تبديل يطرأ على أدب أمَّةٍ من الأُمم، فلا بُدَّ أن يكون ناشئًا عن عِلةٍ خارجيةٍ» أو أجنبية. فالأقرب إلى الصواب أن يُعزَى التبديل الذي طرأ على أدبنا العربي، بتأثير أصحاب المدرسة الأمريكية، إلى هذا الضرب من العوامل، وهو في ألوان الشعور وطرائق التفكير، أظهر منه وأبقى في أساليب الإنشاء وأنماط التعبير. وإذا كان أدب المهجر كُوَّة أطلَّ منها الأدبُ العربي على الدنيا الجديدة، فإن أصحابه قد جاءوا الأدب العربي من خارج.
انتهى الريحاني من وضع أول مؤلفاته «المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية» في ١١ تموز سنة ١٩٠١. ويقول في مذكرات ذلك اليوم القصيِّ: «ولكن سوف لا أطبعها قبل أن أصير قادرًا على تصليح لغتها بنفسي …»
على أنَّ البندَ الأول في برنامجه عهدذاك هو أن يتعلم اللغة العربية وقواعدها في «بحث المطالب». منذ ذلك العهد ألَّف الريحاني في العربية أكثر من ثلاثين كتابًا، في مواضيع شتَّى وبأساليب مختلفة، وكان يُوفَّق إلى إفراغ كل موضوع في أفضل أساليبه. لقد تطور إنشاؤه خلال هذه الأربعين عامًا التي حفلت بالدأب المتواصل والإنتاج المنتظم، تطورًا عجيبًا، كان أبلغ الأثر فيه — على ما نرجح — لرحلاته العديدة في الأقطار العربية؛ إذ أصبح فيما يكتبه، متوجِّهًا نحو أكبر عدد ممكن من الناطقين بالضاد؛ فازداد ترسله دقةً وسلاسةً ونبض حياة بكل معنى الكلمة، لكن أمين الريحاني لم يقطع صلته بالماضي تمامًا، بماضيه هو، بين رفاق النشأة الأولى في «مدرسة» المهجر، وبقي طوال عمره الكوَّة المفتوحة بين الشرق والغرب، يدخل منها النور وتلعب الريح.
أشياء كثيرة تذكِّرنا هذه الأيام بأمين الريحاني، شتى لكن غير متنافرة، حتى ولا متعارضة، بل بالضد، أولها الصدام الضخم الذي يشهده العالم — ويشهد نهايته — بين قوى التقدم والرجعية، لإنشاء مجتمع جديد يتمتع فيه الأفراد والشعوب بأكثر ما يمكن من اليسر والحرية، وقد كان أول كتاب أصدره الريحاني بالعربية عام ١٩٠٣ «موجز تاريخ الثورة الفرنسية»، ثم استمر بقية عمره يناضل من أجل المبادئ التي أعلنتها الثورة الكبرى. وثانيها مشيُ الشعب اللبناني قُدُمًا نحو استكمال شروط السيادة والحياة الاستقلالية، وقد كان الريحاني من أنشط العاملين، بقلمه ولسانه، في الحقل الوطني، يُلمَس أثرُ ذلك في كل ما كتبه وأذاعه. وثالثها مشاورات التعاون العربي الذي كان الريحاني من أصدق الداعين إليه، والساعين له، عن الطريق المثلى، طريق التعارف بين مختلف الأقطار العربية، يُعرِّف العرب بأنفسهم، ويُعرِّف بعضهم إلى بعض، في مؤلفات قيِّمة ممتعة، من «ملوك العرب» إلى «قلب لبنان» آخِرِ كتابٍ له لم يتمَّه. وأخيرًا هذا المهرجان الألفي لمولد أبي العلاء الذي كان الريحاني سبَّاقًا إلى نظم مختارات من شعره في ترجمة إنكليزية جيدة، ينتقل القارئ الغربي بها إلى جوِّ «اللزوميات»، وكانت هذه الترجمة أول مؤلفاته بالإنكليزية سنة ١٩٠٣.
إن أمين الريحاني توفي في الثالث عشر من أيلول سنة ١٩٤٠، وقد كنتُ ونفرًا من إخواني، تعوَّدنا أن نقول، في مثل ذلك اليوم من كل عام، كلمات نعرض فيها لِنَوَاحٍ من هذا الذهن الفريد الذي لو أُتيح له أن يعيش سنين معدودات، زيادةً عمَّا قُدِّر له، لرأى بعيني رأسه تحقيق تلك الأشياء العزيزة عليه، والتي كانت بعض أمانيه الغالية. على أنه بوسعنا القول إن أمين الريحاني لم يكن غائبًا، لا عن مشاورات التعاون، ولا عن العيد الألفي، فضلًا عن المراحل التي يجتازها لبنان نحو التمرس بحكمه الوطني الديمقراطي الصحيح.
ليس الريحاني بغائب تمامًا؛ فما أكثر ما اقتبسته الصحف هذه الأيام من مؤلفاته النفيسة عن الأقطار العربية، حتى كأنَّ هذه المؤلفات مرجعها الوحيد. وَلَنِعْمَ الرأي ارتآه شقيق الريحاني ألبرت؛ إذ أصدر في أيلول من هذا العام، طبعة رابعة من ترجمة «اللزوميات» الإنكليزية، مُساهمةً في إحياء ذكرى المعري. فإذا كان أمين الريحاني لم يَفُتْهُ، برغم الموت، تكريمُ شاعره العربي المختار، فلن يفوتنا نحن الأحياء تذكير الناسين من بني قومنا، هذه السنة أيضًا، بأنَّ الريحاني في أسفاره — بالمعْنَيَيْن — كان طليعة التعاون العربي الذي تلهج به الألسنة، وتُعقَد له المؤتمرات. كما أن الريحاني، بسبقه إلى نظم طرائف من آراء المعرِّي وصوره بالإنكليزية، منذ أربعين عامًا ونيف، كان خير أُنموذج لذلك الإشعاع اللبناني الذي يتجلَّى في مظاهر متنوِّعة، ليست الكتابة نثرًا وشعرًا باللغات الأجنبية أضعفها شأنًا، ولا أقلَّها جدوى. إن اللبناني إنسانٌ مُولعٌ بالتغَرُّب، تغريه به عوامل عارضة وأصيلة؛ التغَرُّب مادَّةً ومعنىً، بالجسد والروح، للأخذ والعطاء. هكذا كانت حياة الريحاني رحلتين اثنتين؛ رحلة إلى الشرق ورحلة إلى الغرب، وتبقى الفريكة مرفأه الأمين، وحصنه الحصين. كاد الريحاني، في سيرته وفي كتابته، أن يكون رمزًا.