الفكاهَةُ في الأدبِ العَرَبيِّ
يتساوى أن يُقال «إن الإنسان حيوان ناطق» وإن «الإنسان حيوان ضاحك»؛ فإن الضحك والنطق خاصتان من خواص الإنسان لا يشاركه فيهما سائر الحيوان، وإذا صح أن المفارقات المنطقية هي أساس الضحك كله، وأن الإنسان يضحك إذا رأى سخافة لا تليق بالحي العاقل؛ فالخاصتان إذن هما خاصة واحدة في صورتين مختلفتين.
وكيفما كان القول في علاقة الضحك بالمنطق فالأمر الذي لا شك فيه أن الضحك خاصة إنسانية لا تُشاهَد في حيوان آخر ولا تخلو منها أمة من أمم بني آدم وحواء، وكل ما هنالك من اختلاف بين الأمم في هذه الخاصة فإنما هو كالاختلاف بينها في المزايا الإنسانية بأنواعها وأطوارها، وإنما هو الاختلاف في الدرجة أو الشكل أو الوضوح أو أسلوب التعبير، ولا يزيد بحال من الأحوال عن هذا الاختلاف الشائع في كلام اللغات، وهي المزية التي تلازم جميع الناطقين.
فلا يُقال عن أمة من الأمم إنها «أمة فكاهة» أو إنها أمة «مجردة من الفكاهة»، وإنما تجري التفرقة بينها بألوان الفكاهة وأساليب التعبير عنها ودلالة هذا التعبير على الأخلاق والعادات وملكات الفهم والذوق، وهي ضروب من التفرقة يضيق بها الحصر؛ لأنها تتصل بجميع المعاني الإنسانية في حياة الفرد أو في حياة الجماعة.
فإذا أردنا أن نبين الفكاهة العربية بلون من ألوانها الغالبة عليها، فقد يكون أصدق بيان عنها بكلمات معدودة: «إنها فكاهة النكتة السريعة، والعبارة الوجيزة، والولع بإبراز صفة المروءة والفطنة وازدراء صفة اللؤم والذلة …» ولا يظهر هذا المعنى العميق في طبيعة الفكاهة العربية من كلام ورد على لسان شاعر كما يظهر من كلام النجاشي في هجاء بني العجلان؛ حيث يقول:
ثم يقول:
فإن الشاعر هنا نظر إلى الضعف والهوان، فجعلهما سببًا للتحقير والسخرية ولم يحمد معهما اجتناب الغدر والظلم؛ لدلالتهما هنا على الضعف والضعة لا على العفة وصدق النية.
وعلى هذا النحو، نستطيع أن نقول إن الهزل والمهزلة باللغة العربية يتقاربان، وإن العربي لا يضحك من شيء إلا بحثت فيه فوجدت له معنى من معاني السخف وهو الضعف، ومعنى من معاني الفكاهة وهو العيُّ وضعف العقل واللسان.
ومن أصالة الفكاهة في طبع العربي أنها لازمته مع خشونة البادية، كما لازمته مع حياة الحضارة من عصورها القديمة إلى عصورها الحديثة، فليس أكثر في كتب الأدب من ملح الأعراب وطرائف أهل البادية التي يقول الجاحظ (أحد أمراء الفكاهة العربية): «إنها لا تُجارَى في سهولتها وبساطتها ونفاذها، ويُروَى منه الكثير المعجب في طوايا كتبه كما رواها غيره من كتاب النوادر والأخبار.»
أما فكاهة الحضارة عند العرب فليس أدل على شيوعها وإقبال جمهرة الناس عليها من صناعة «الندماء» التي كانت تعرض في الأسواق والأندية العامة، ولا تختص بها قصور الأمراء وأصحاب اليسار.
ومن هؤلاء الندماء الشعبيين كان «ابن المغازلي» الذي قيل عنه إنه كان ببغداد يتكلم عن الطرق بالأخبار والنوادر، وقد حدَّث عن خبره مع الخليفة المعتضد، فقال: «سلمت فرد السلام وهو ينظر في كتاب، فنظر في أكثره وأنا واقف، ثم أطبقه ورفع رأسه إليَّ وقال: أنت ابن المغازلي؟ فقلت: نعم يا مولاي! قال: بلغني أنك تحكي وتُضحِك بنوادر عجيبة … فقلت: يا أمير المؤمنين، الحاجة تفتِّق الحيلة … فقال: هاتِ ما عندك، فإن أضحكتني أجزتك بخمسمائة درهم، وإن أنا لم أضحك أصفعك بذلك الجراب عشر صفعات … ثم أخذت في النوادر والحكايات فلم أدع حكاية أعرابي، ولا نحوي، ولا قاضٍ، ولا نبطي، ولا سندي، ولا زنجي، ولا خادم، ولا تركي، ولا شاطر، ولا عيار، ولا نادرة، ولا حكاية … إلا وأحضرتها، حتى نفد كل ما عندي وفترت ولم يبقَ ورائي خادم ولا غلام إلا وقد ماتوا من الضحك، وهو مقطب لا يبتسم، فقلت: قد نفد ما عندي، ووالله ما رأيت مثلك قط. قال لي: هيه! ما عندك. فقلت: ما بقي لي سوى نادرة واحدة، قال: هاتها، قلت: وعدتني أن تجعل جائزتي عشر صفعات وأسألك أن تضعفها لي وتضيف إليها عشر صفعات أخرى، فأراد أن يضحك ثم تماسك، وقال: نفعل … يا غلام! خذ بيده، ثم مددت ظهري فصُفِعتُ بالجراب صفعة لكأنما سقطت علي قطعة من جبل، وإذا هو مملوء حصى مدورًا، فصُفِعتُ عشرًا، فكادت أن تنفصل رقبتي وطنت أذناي وانقدح الشعاع من عيني، فصحت: يا سيدي! نصيحة، فرفع الصفع بعد أن عزم على العشرين، فقال: قل نصيحتك، فقلت: يا سيدي! إنه ليس في الديانة أحسن من الأمانة وأقبح من الخيانة، وقد ضمنت للخادم الذي أدخلني نصف الجائزة، وأمير المؤمنين بفضله وكرمه قد أضعفها، وقد استوفيت نصفي وبقي نصفه … فضحك حتى استلقى، واستفزه ما كان سمع فتحامل له، فما زال يضرب بيديه الأرض ويفحص برجليه ويمسك بمراق بطنه، حتى إذا سكن قال: عليَّ به، فأُتي به وأمر بصفعه، فقال: وما جنايتي؟! فقلت له: هذه جائزتي وأنت شريكي فيها، وقد استوفيت نصيبي منها وبقي نصيبك، فلما أخذه الصفع وطرق قفاه الوقع، أقبلت ألومه وأقول له: قلت لك: إنني ضعيف معيل، وشكوت إليك الحاجة والمسكنة وأقول لك: خذ ربعها أو سدسها وأنت تقول: لا آخذ إلا نصفها، ولو علمت أن أمير المؤمنين — أطال الله بقاءه — جائزته الصفع، وهبتها لك كلها، فعاد إلى الضحك من عتابي للخادم، فلما استوفى نصيبه أخرج صرة فيها خمسمائة درهم وقال: هذه كنت أعددتها لك فلم يدعك فضولك حتى أحضرت شريكًا لك، فقلت: وأين الأمانة؟ فقسمها بيننا وانصرفت …»
وهذه نادرة تكشف لنا عن قيمة النوادر التي أُولِع بها العرب لمعرفة التاريخ، فإنها ترجح بعدة كتب في تاريخ عصرها بما تكشف عنه من أخلاق الخلفاء في ضبط النفس ومعاملة المتكسبين بأشغال البطالة، وبما تكشف عنه من أخلاق الخلفاء في ضبط النفس ومعاملة المتكسبين بأشغال البطالة، وبما تكشف عنه من أخلاق الأتباع والخدم عندهم، ومن عادات المجتمع يومذاك في الجد والهزل وعادات ندماء الفكاهة في جدهم وهزلهم كذلك … ولكن دلالتها فيما يعنينا هنا هي إحصاء وجوه الفكاهة وأسباب المضحكات فيما كان يرويه ابن المغازلي من نوادر أصحاب الصناعات وأبناء الأجناس والطوائف، فإننا نعلم من هذا الإحصاء العارض أن الفكاهة العربية كانت تدور على «النقد الاجتماعي» الذي يلتفت إلى مواطن الغرابة والملاحظة من أصحاب المناصب أو السوقة، وإلى جوانب الحذلقة والادعاء في العلماء والجهلاء، وأشباه هذه الجوانب التي أوشكت أن تجمع كل ما تدور عليه فنون «النقد الاجتماعي» المشهورة في الآداب العالمية، وليس للفكاهة من ناحيتها الاجتماعية وظيفة أصلح من هذه الوظيفة وقدرة أبلغ من هذه القدرة للكشف عن معاني الجد والهزل، أو معاني الصراحة والغموض، أو معاني الاستقامة والالتواء، من النفس الإنسانية.
هذه كلمة موجزة عن سليقة الفكاهة في الأمة العربية، ولا بد أن يكون لهذه السليقة مكانها الذي يلائمها من مراجع الأدب العربي ومن أقوال أدباء العرب في النظم والنثر، كما ينبغي أن يكون كل أدب صادق التعبير عن أحوال أمته النفسية والاجتماعية.
وقد كان لهذه المملكة نصيبها الوافي بين كتب الأدب العربي على صور متعددة، أظهرها وأقلها كلفة وعملًا كتب النوادر والأخبار وكتب الأمثال وتفسيراتها، فلا توجد اليوم لغة بين اللغات الحية جمعت مثل ما جمعته اللغة العربية من هذا التراث الحافل بألوان العبر وطرائف الأمزجة وغرائب الأطوار فيما وعاه الرواة والقصاصون من الحكايات أو الأمثال، ومن مناسبات كل حكاية وكل مثل في تاريخه ومعرض سياقه.
أما فكاهات الشعر والنثر العربيين فمدارها الأكبر «أولًا» على القصائد التي نُظِمت في النقد الاجتماعي الذي اصطلحنا على تسميته بالهجاء، ولا يصرفنا جانبه «الشخصي» عن الجانب الأهم والأعم، بين جوانبه المتعددة، وهو ذلك الجانب الذي نعلم منه مواضع الحمد والذم في أخلاق الأمة وأخلاق الرعاة والرعايا على التعميم، فمهما يكن من بواعث الهجاء عند الشعراء فلا ريب أن قصائدهم الباقية لدينا تحفظ لنا معرضًا واسعًا لأحوال الأدباء «أولًا» وأحوال الرؤساء والكبراء «ثانيًا»، وأحوال الجمهرة الغالبة بعد ذلك فيما تقيمه لنفسها من موازين التعظيم أو التحقير، وفي الصفات المطلوبة المثالية أو الصفات الشائعة الواقعية، وهي بغية الباحثين في معارض النقد الاجتماعي حيث كان، ولعلنا نصدق السليقة العربية وصفها الجامع حين نقول إن النقد الاجتماعي الذي يمثله شعر الهجاء يرينا أن العربي يقرن بين «الهزال والمهزلة»، وأن المضحك عنده هو الشيء الهزيل في العمل أو القول، فلا تخلو حالة مضحكة عنده من الكشف عن ضعف أو ذلة أو عن عي وفهاهة، وهما آفة الجنان وآفة اللسان.
أما الكلام المنثور فيما عدا الأخبار والأمثال فالنموذج العربي منه هو نموذج المقامة أو المقالة التي تُساق مساقها وتجري مجرى التخيل في التعبير عن الواقع.
فالمقامات هي المعرض الأدبي في النثر الغربي لغرائب الأخلاق بين أبناء الطوائف الاجتماعية من الولاة والجند والقضاة والتجار والدهاقين، وموضوعها يجمع بين موضوع القصة الصغيرة والمقالة النقدية في آداب العصر الحديث، وقد كان كتاب العرب يكتبون المقالة النقدية بأسلوب المقامة، ويودعونها الصور الخيالية المضحكة لمن يوجهون النقد إليه، كما كان يفعل أبو حيان أستاذ هذا الأسلوب في سخريته بأعداء الفلسفة والعلوم الحديثة في زمانه، ومنه قوله عن الكاتب المشهور أحمد بن ثوابة وهو يلقي على لسانه أنه قال عن أحد علماء التنجيم: «… فأخذ القلم ونكت نكتة … تخيلها بصري وتوهمها طرفي كأصغر من حبة الذر، فزمزم عليها من وساوسه وتلا عليها من أسفار أباطيله، ثم أعلن عليها جاهرًا بإفكه، وأقبل علي وقال: أيها الرجل! إن هذه النقطة شيء لا جزء له، فقلت: أضللتني ورب الكعبة، وما الشيء الذي لا جزء له؟ فقال: كالبسيط … فقلت أنا: وما البسيط؟ فقال: كالله والنفس! فقلت له: إنك من الملحدين، أتضرب لله الأمثال والله يقول: فَلَا تَضْرِبُوا لِلهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
على أن الأديب العربي يعالج موضوع الفكاهة وهو على حذر وتقية، ويكاد يثني قلمه بعنان على الاسترسال والتبسط فيه؛ لأن معنى الأدب يرادف في لغة الأدب العربي معنى السمت أو معنى «اللياقة» بالعرف الحديث، فيحمد الأديب لنفسه أن يفهم المضحكات ويروي أخبارها، ولكنه لا يحمد لها أن يغرق في موضوعها أو يكون هدفًا لها ومادة من موادها؛ ولهذا نرى أئمة الأدب من أمثال ابن قتيبة والجاحظ وابن عبد ربه يتقدمون بالاعتذار أو بالتوضيح والتفسير قبل سرد الأضاحيك والفكاهات، بل يكتب الأديب عن الظرف والظرفاء فيقدم للكتاب بالنهي عن الإفراط في الضحك والمزاح كما فعل محمد بن إسحاق الوشاء في مقدمته لكتاب الظرف والظرفاء؛ حيث يقول: «إن كثرة المزاح يذل المرء، ويضع القدر، ويزيل المروءة …»
ومن خالف هذه السنة من الأدباء فإنما كان «يحترف الهزل»، ويتكسب بتعريض نفسه للضحك والعبث ويعلم أنه يسقط مروءته بذلك، ولكنه يتقبل ما يصيبه لاضطراره إليه أو قلة اعتداده بوقاره، ومن هذه الطائفة أمثال أبي دلامة وأبي العنبس الصعيدي وأبي العبر وأبي الشمقمق وذي الرقاعتين وغيرهم وغيرهم من المتقدمين والمتأخرين، وبين هؤلاء الأدباء المضحكين نشأت صناعة التقليد الساخر التي لم يعرفها الغربيون قبل الزمن الأخير، ومن هؤلاء ذو الرقاعتين الذي عارض مقصورة ابن دريد، فقال:
ومنهم بين المحدثين الشيخ عامر الأنبوطي الذي حكى ألفية ابن مالك، فقال:
وحكى لامية العجم للطغرائي، فقال:
وبهذا الفن يُضاف أسلوب التقليد الساخر إلى أساليب النقد الاجتماعي في قصائد الهجاء والمقامات والمقالات التصويرية إلى جانب الأمثال والنوادر وسائر فكاهات الأدب في اللغة العربية، ولا يعوز الأدب العربي من أساليب الفكاهة التي تشيع الآن في الآداب العالمية غير أساليب المسرح والرواية، وهما من ألوان الأدب التي نشأت بين الأوروبيين ولم تنشأ بين العرب لأسباب ترجع إلى الاختلاف في شعائر العبادة على عهد الوثنية الأولى.
أما فكاهات الأدب العربي في العصر الحديث فإن المشابهة بين موضوعاتها وموضوعات الآداب العالمية متقاربة متناظرة، يقترن فيها أدب المسرح والقصة بأدب القصيدة والمقالة والتقليد الساخر والمثل السائر، فإن يكن بينهما فارق ظاهر فهو كما أسلفنا «فارق النكتة السريعة والعبارة الوجيزة والولع بإبراز صفة المروءة والفطنة وازدراء صفة اللؤم والذلة» مع الاختلاف بين عربي الأمس وعربي اليوم في تقدير معنى المروءة وآدابها، فإنها من الأمور التي لا تثبت على وتيرة واحدة في عصرين أو حضارتين.