شُعَراء المهْجَر الجَنُوبيِّ
إن المهاجر بطبيعته إنسان طليق مقدام، ليس يطيق البقاء حيث يضيق به المقام، ولا يهاب المخاطرة بالإقدام على المجهول، إذا كان «المعلوم» الذي يعرفه ويعيش فيه يكلفه ما هو أشد عليه من المخاطرة، وهو الصبر على الحجر والهوان.
والمهاجرون إلى الجنوب في أمريكا الجنوبية أحوج إلى هذه الخصلة من إخوانهم الذين هاجروا إلى أمريكا الشمالية؛ لأن المهاجر إلى ولايات الشمال من العالم الجديد ينزل بأرض ممهدة ويقدم على خطط مرسومة معبَّدة، ويكاد يَعرِف كل ما سيصيبه في هجرته قبل فراقه لوطنه، فلا يبقى بين يديه غير التجربة التي لا اقتحام فيها، وعلى خلاف ذلك مهاجر الجنوب.
إنه ليجدد «نصف مجازفة» كولمبس بعد نزوله بدار الهجرة، وإنه ليصنع لنفسه من جديد كل ما صنعه المقتحمون من حوله ولو كانوا من أبناء القارة الأصلاء، وإنه باسم المكتشف لأحرى منه باسم المهاجر الغريب! … وهكذا كل من حوله من الغرباء، وغير الغرباء.
وهو على هذه الحالة أحوج من سائر المهاجرين إلى العلاقة الروحية بكل ما فارقه في دار مولده أو دار نشأته الأولى.
وماذا فارق في ذلك المولد؟ أو في ذلك المنشأ؟
إننا إذا استقصيناه وحاولنا أن نجمعه في علاقة واحدة لم نجد في النهاية غير علاقة اللغة وتراث اللغة، وكل ما تحفظه اللغة بمبناها ومعناها.
فإنه لم يفارق من أجواء بلاده الروحية جو العقيدة الدينية؛ لأن أكثر المهاجرين من المؤمنين بالدين المسيحي يتبعون الكنائس التي يتبعها أبناء القارة الجنوبية.
وإنه لم يفارق أجواء الطبيعة ومناظرها، فإننا إذا أغضينا النظر عن ولع الإنسان بمناظر بلاده كيفما كانت، لم نكد نفقد في أقاليم القارة الجنوبية لوحة من لوحات الطبيعة نتملاها في لبنان وسورية، بين الهضاب والآجام، أو بين الجداول والينابيع، أو بين البراري والسهول، أو بين مواسم الغيوث ومواسم الصحو والصفاء.
إنما فارق المهاجر العربي إلى الجنوب جوًّا واحدًا من أجواء بلاده الروحية ينقطع عنه حين يتصل به المقام في وطنه الجديد، ولا سيما في عصر البحث عن الجامعات الروحية في كل اتجاه.
إنما فارق اللغة، وإنما فارقها وليس لديه أعز منها ولا أحق منها بالحنين والتذكار.
لا جرم تصبح هذه العلاقة عنده «عصبية» متوهجة تطوي في ثناياها كل ما عداها من عصبيات وعلاقات، ويوشك أن تنقل إليها حماسة الدين وألفة الطبيعة وحدَّة النخوة الوطنية، ويهون المساس بكل شيء، ولا يهون المساس بهذه البقية الباقية من أمانة القلب واللسان.
إن هذه «العصبية» قد أوشكت أن تكون «أسلوبًا مشتركًا» بين جميع المهاجرين لا يعرفون من أساليب اللغة أسلوبًا غيره، فكلهم مظهر «لغوي» واحد من مظاهر تلك العصبية الشاملة، وكلهم «متكلم» عربي قبل كل شيء، ثم هو «فلان بن فلان» بعد ذلك.
ولقد أطلق أدباء المهجر الجنوبي على أنفسهم «العصبة الأندلسية» بحق ودراية؛ لأن الأندلس القديمة هي النسخة الوحيدة التي سبقت نسخة العصبة الأندلسية الجديدة في تاريخ اللغة العربية، على هذا الطراز.
ففي الأندلس وحدها — قبل الآن — عرفنا الأفذاذ من كبار الشعراء كابن هانئ وابن زيدون وابن خفاجة وابن حمديس، كما عرفنا غيرهم عشرات من هذه الطبقة، ولكننا لم نعرف بينهم — على فحولتهم — فارقًا في أسلوب التعبير ولا في جرس اللغة يتيسر للقارئ أن يلمحه من النظرة الأولى، فليس بينهم ذلك الفارق الذي تلمحه في عصر واحد بين أساليب أبي تمام والبحتري وابن الرومي، أو بين أساليب بشار وأبي العتاهية وأبي نواس، أو بين البارودي وصبري وشوقي وحافظ ومطران في العصر الحديث.
كلا ليس هناك ألسنة أفراد يختلفون، بل ليس هناك غير لسان القومية الواحدة ينطق ببديهة واحدة، ولا يسمح «للشخصية» على قوتها أن تتغلب عليه بسمة من سماتها المستقلة، وإن كانت «الشخصية الفذة» لتنصف نفسها كما تشاء فيما عدا اللغة والأسلوب، تنصف نفسها فيما تتميز به الشخصيات القوية من مزايا الأخلاق والضمائر وأسرار البداءة والعبقريات.
ولقد تميز ابن زيدون وابن حمديس وابن خفاجة بالشيء الكثير من خصائص الفكر والذوق والإلهام.
وهكذا يتميز شعراء المهجر الجنوبيون بجملة من مزايا الفن والذوق والبصيرة تحيط بآفاق من الشعر الجيد الأصيل، لا تقل عن تلك الآفاق التي سبح فيها أسلافهم الأندلسيون الأولون.
يكاد أسلوب النظم أن يكون أسلوب شاعر واحد في فترة واحدة من الزمن، ولكنك تترجمهم إلى لغة أخرى، أو تقرؤهم بلسان المعنى دون لسان اللفظ، فلا تخطئ بينهم تلك الفوارق التي تفصل بين عشرات من الشعراء بملامح الفكر والسليقة.
ففي ديوان الشاعر القروي ملامح من صور الطبيعة تغلب على صور البيت وصور المجتمع، ولا يبدو فيها البيت ولا المجتمع إلا كما تبدو فصيلة من الأحياء يُسمَّون بالآدميين، ثم لا تعرف لهم قانونًا ولا شريعة غير قانون الفردوس على المحبة أو قانون الغاب على البغضاء والعدوان، وكلاهما قانون زرع وماء وحياة.
وفي دواوين إلياس فرحات يظهر آدم من وراء ذلك الفردوس ولكنه آدم الذي عرف إبليس لعبة بعد لعبة، فتعلم منه السخرية الضاحكة، ثم جرد تلك السخرية من أشواك الكيد والخبث، ومن عواقب الندم والحسرة.
وفي شفيق معلوف «عبقر» تمتد الهجرة من عالم الإنس إلى وادي الجن، ومن جوف الواقع إلى أطراف الخيال، وتقترب العدوة بين هذه البحور المتباعدة حتى لينسى نزيل «عبقر» أين هو من رحلات البر والبحر … ويُخيَّل إليه في لحظة بعد لحظة أنه لم يبرح زحلة بلبنان أو سان باولو بالبرازيل … ويوشك المعلوفون أن يكونوا جميعًا إخوة في لحمة الأدب كأخوتهم في لحمة النسب، بين يدي سليمان هو يحبس الجن في القماقم أن ينطلق على بساط الريح.
وتقرأ «جورج صيدح» فلا تفوتك فيه أشواق الطبيعة التي تعهدها في دواوين زملائه، ولكنك لا تتمثله في صورة من الصور إلا رأيت في ظهارة الصورة أبراج المدينة ومداخن المصانع ومعالم الأسوار.
ومعظم الشعراء من المهجريين آباء وأزواج، ولكنك لا تتمثل القنصلين — إلياس وزكي — إلا تمثلت زوجًا يمشي مع زوجة، ووالدًا يحنو على طفل في يمينه أو بين ذراعيه.
وتتراءى ألوان من هذه الملامح في كثير من شعراء العصبة الأندلسية لا نحصيهم هنا، ولا تتيسر لنا مراجعتهم في هذا المقام، ولكنهم جميعًا يتلاقون في تمثال واحد شامخ الهامة مكين القدمين، نسمِّيه تمثال «العصبية اللغوية» أو القومية التي تلخصت في كلمة واحدة هي كلمة «العربية»، ونهضت برسالة في تاريخ الأدب العربي لا تشبهها رسالة أخرى في جميع أدوار هذا التاريخ.
ونحسب أن مدرسة العصبة الأندلسية تنفرد بهذه الخاصة التي تُعَدُّ من النقائض للوهلة الأولى، ثم يزول عنها كل وصف من أوصاف التناقض متى رجعنا إلى القوة الخارقة التي اجتمعت في حنين المهجريين الجنوبيين إلى اللغة، فصنعت ما تصنعه القوة الخارقة من المعجزات.
تلك الخاصة التي انفردت بها العصبة الأندلسية هي فرط المحافظة وفرط التجديد في وقت واحد.
فالمهجريون الجنوبيون لم يقبلوا قط دعوة من دعوات الهدم باسم التجديد في قواعد اللغة أو قواعد العروض أو قواعد الآداب السلفية في جملتها، وقد أعرضوا عن كل دعوة من هذا القبيل وساعدهم على الإعراض عنها، أنها جاءت من مبدئها ضعيفة هزيلة لا تقنع أحدًا بالإصغاء إليها، فكان الداعون إلى إهمال قواعد العروض أو قواعد النحو أصحاب مذهب قديم ليس أقدم منه، ولا أسهل منه على الجاهل والعاجز ومن لا يحسن الأداء بالكلام الموزون أو الكلام المنثور ولا التعبير باللهجة الفصحى أو اللهجة العامية، وذلك المذهب القديم العتيق هو العجز عن الفصاحة والقدرة على الركاكة، أو العجز عن الصواب والقدرة على الخطأ، وليس هذا مذهبًا يقنع أحدًا بالتجديد أو بترك القديم؛ لأنه هو بذاته أقدم من أقدم الأقدمين.
وعلى هذه المحافظة في وجه كل دعوة من دعوات الهدم أثبت المهجريون الجنوبيون أنهم أقدر من المجددين المزعومين على استخدام أوزان الموشحة وأوزان الرباعية والمقطوعة في ضروب النظم الغنائي وضروب النظم الملحمية على اختلاف الموضوعات.
وقد ذهب المهجريون المحافظون أشواطًا وراء أشواط المجددين المزعومين، فليس من هؤلاء المحافظين من لم يكن له مذهب مستقل في العقيدة الإلهية أو السماحة الدينية، وليس منهم من أحجم عن رأي حديث من آراء العلم الاجتماعي جمودًا على القديم وإشفاقًا من تكاليف الحرية الفكرية، بل كان منهم أناس تطرفوا في اتباع هذه الآراء عند ظهورها، وذهبوا معها إلى غاية مداها، ولم يعدلوا عنها متقيدين بقيود المحافظة العمياء؛ بل عدلوا عنها لأنهم عرفوها وحققوها خيرًا من معرفة الجامدين عليها والمتعصبين لها، جريًا على سنن التقليد والمحاكاة.
وإذا وقف الفريقان معًا موقف المناجزة بالحرية والقدرة، فلن يستطيع المجددون المزعومون أن يتهموا أشد المحافظين حفاظًا على عقيدته بالتخلف في ميدان الحرية والإقدام على سلطة مرهوبة في وطنه الأصيل أو وطنه الحديث، ولكن المحافظ «المزعوم» يستطيع بغير مشقة أن ينكر عليه حرية السماحة الفكرية كما يستطيع أن ينكر عليه قدرته على تصحيح الأسلوب، ويسجل عليه خلو الجديد الذي يدعو إليه من كل قدرة يحاولها من يريد.
وبهذه الخاصة «المنفردة» في تاريخ الآداب العربية يتميز الأدب المهجري في الجنوب، وينفرد المحافظون من شعرائهم بهذه «الشخصية» الشاملة التي انطوت فيها جميع «الشخصيات» بين أطواء العبقرية العربية، والتي برزت من ورائها ألوان من ملامح الروح والسليقة يعتز بها طلاب الثروة الأدبية في كل عهد من العهود.