الزَّهَاوي وَديوَانه المفقُود
قال — أي: الزهاوي — هل اطلعت على «الأوشال»؟ قد كنت أظن وقد رقَّ عظمي أن زمني لن يمتد بي كثيرًا؛ فسميت مجموعة قصائدي الأخيرة (الأوشال)، ثم نظمت بعد ذلك قصائد أخرى أعتقد أنها آخر ما أنظم في حياتي التي أراني مغادرها قريبًا، وقد جمعتها في ديوان سميته «الثمالة» ليكون آخر ما يُطبَع لي …
قلت: وهل للأستاذ شعر لم يُطبَع غير «الثمالة»؟ قال: أجل، إنه ديوان لا يُنشَر في القرن العشرين.
وكنت قد علمت من الزهاوي نفسه أن له شعرًا كثيرًا لا ينشره، وأنه سيوصي بنشره بعد وفاته، وفارق القاهرة وهو يكرر لي حديثه عن الشعر المطوي الذي يعتقد أنه إذا نُشِر في يوم من الأيام فلن يتسع لنشره بلد غير القاهرة بين البلدان الشرقية.
وقد سمعت أخيرًا أن كتابًا ظهر في القاهرة باسم «الزهاوي وديوانه المفقود»، فاعتقدت لأول وهلة أنه هو مجموعة الشعر التي تحدث عنها الزهاوي إلى الأستاذ أكرم زعيتر ببغداد وأومأ بنبئها إليَّ في القاهرة، واطلعت على الكتاب لمؤلفه «هلال ناجي» فصدق ظني في موضوعه وإن كان المؤلف الأديب قد توسع في أبوابه، فتناول فيه مباحث شتى عن الزهاوي وما كتبه وما كُتِب عنه، غير ديوان «النزغات»، وهو اسم الديوان المفقود.
وحرص المؤلف على تحقيق نسبة «النزغات» إلى الزهاوي فاستقصى الشواهد والقرائن التي تدل على صحة هذه النسبة … وكلها مقنعة — بل قاطعة — في إثبات نظم الشاعر لجملة القصائد والمقطوعات التي احتواها ديوان «النزغات»، كما تركه الزهاوي عند تسليمه إلى الأستاذ سلامة موسى، وعند انتقاله منه إلى الدكتور زكي أبو شادي بغير زيادة فيه، وهو مرقوم على الآلة الكاتبة غير مصحوب بالأصل المخطوط.
على أننا نستطيع أن نصحح نسبة النظم في هذا الديوان إلى الزهاوي من الدليل «الداخلي» في أسلوب الشاعر «النظمي» كما يقول النقاد، وأظهر ما في هذا الدليل «الداخلي» أن أبيات القصائد والمقطوعات تشتمل على كثير من ذلك الشد والفتل الذي يطوع به الشاعر كلماته لأوزان العروض.
فالشاعر الذي يقول:
هو الشاعر الذي يقول في ديوان «النزغات»:
وهو الذي يقول فيه:
وغير ذلك كثير من «الأسلوب النظمي» في سائر منظومات الديوان.
أما الأسلوب «الفكري» فهو كذلك مطابق لأسلوب الزهاوي في كل ما نظم من الشعر منذ عالج نظمه في أوائل حياته، ومما لا شك فيه أن أفكار الديوان المفقود ليست طورًا جديدًا في تكوين آراء الشاعر مع الزمن كما يتوهم القارئ من قول الزهاوي أنه آخر ما نظم وأنه يحتوي أفكارًا لم تُنشَر قبل ذلك في حياته.
إذ المحقق من معارضة دلائل الشك والتردد ودلائل الإيمان واليقين أن هذه الدلائل جميعًا قد وُجِدت في مؤلفاته الباكرة كما وُجِدت في مؤلفاته الأخيرة، على درجة واحدة من القوة والوضوح.
وأغلب الظن أن العالم الديني المفكر الكبير محمد فريد وجدي قد أصاب الحقيقة حين قال في مجلة «الأزهر» مما نقله الأديب هلال ناجي في الصفحة اﻟ ٣٠٠ من كتابه، فإنه لاحظ أن الزهاوي: «يكتب الشيء ثم ينقضه بقول آخر كما فعل في كتابه «الكائنات». فقد جرى فيه على أسلوب الماديين … ثم ختمه بكلمة تحت عنوان — ابتهال — حقر فيها كل الآراء التي قررها في الكتاب، وذكر أنه إنما جرى فيها على أسلوب الماديين لبيان مذهبهم … أما هو فيبرأ إلى الله منهم ومن آرائهم ويرجو من يقرأ الكتاب ألا يعتد بما قرره فيه.»
ثم عقب الأستاذ وجدي على هذا الأسلوب قائلًا: «إنه أسلوب في الكتابة كل ما يمكن أن يعتذر عنه أنه يلجأ إليه هربًا مما قرره.»
وكل ما نزيده على تعقيب الأستاذ وجدي أن الزهاوي قد يبادر في مفتتح كتابه إلى تحقير آراء المتهجمين على الحقائق الكبرى كحقائق عالم الغيب، وما يسميه الباحثون بحقائق ما وراء المادة، فإنه افتتح كتابه «الكائنات» الذي ألفه في مقتبل صباه بين البيتين:
وهذا غاية ما يقوله المفكر المتواضع أمام عظمة الكون لكبح الغلاة من الباحثين في حقائقه عن الشطط الأهوج والغرور الكاذب بقدرة العقل البشري على إدراك هذه الأسرار المطبقة حول حقائق الوجود.
والذي نلاحظه في مواقف الزهاوي العقلية بين الشك واليقين سهولة شكوكه وسهولة ردوده عليها في وقت واحد.
فكل شكوك الزهاوي بلا استثناء مما يقبل الرد والاستخفاف من النظرة الأولى؛ لأنها مبنية على تصور العامة الجهلاء للخرافات والأساطير التي يلصقونها بالدين وهو بريء منها بعيد عنها، وليس من هذه الشكوك شك واحد يقوم على فهم الدين كما ينبغي أن يفهمه المؤمنون به على صحته، وقد كان خطأ الزهاوي الأكبر أنه يتلقى حجة العقائد من الأوهام الشائعة بين المقلدين دون الثقات المجتهدين، وإنما تقوم قضية الدين على الضمير الإنساني الذي يُناط به التمييز بين كل دعوة تشيع في العالم، ولم تقحم حجة الدين قط على ما يفهمه المقلدون أو يفهمه المغرورون بهم من الأدعياء، وإنما تقوم حجته على البصيرة الصادقة والوحي الأمين.
لا جرم كان تقريره لقواعد الإيمان بعد ذلك سهلًا غنيًّا عن جهد التردد والبحث في أمثال تلك الشكوك أن يثوب يقينه إلى يقين الزهاوي الذي عبر عنه بهذه الأبيات في موقف الحساب:
وقبل ذلك يقول من كلمة منثورة: «لم آتِ في حياتي أمرًا إدًّا ولا ارتكبت منكرًا … أنظم الشعر وأودعه عصارة شعوري وتفكيري وأجعله منبرًا أدافع منه عما يتراءى لي أنه الحق غير حاسب لمخالفة الناس إياي حسابًا، وهذا ما كان يثيرهم عليَّ ويجعلهم يعملون على معاكستي حتى همُّوا مرة أن يقتلوني، مع أني معتقد بالوحي مؤمن بالأنبياء وبالمرسلين وملائكة الله وكتبه، وقمت بشعائر الدين كلها؛ فصمت وصليت، وزكيت وجاهدت، وحججت إلى بيت الله، وزرت قبر رسوله الكريم.»
وهو الذي ردد هذه الشهادة في مواطن كثيرة من شعره كما قال في هذا المعنى غير مرة:
وإنه بمثل هذا اليقين لخليق أن يكذب كل هاتيك الشكوك التي تثيرها أوهام الجهلاء وخرافات أصحاب الخرافات من المقلدين.
وجملة القول في الديوان المفقود وفي الدواوين المنشورة أنها طور واحد من الفكر لم يتغير في مدى خمسين سنة، ويوشك أن ينقل كل بيت في ديوان من هذه الدواوين المتتابعة إلى ديوان آخر صدر قبله أو بعده، بغير اختلاف في المعنى أو في النسق أو في الأسلوب، إلا ما تقتضيه المرانة الطويلة من تيسير النظم في نهاية الشوط بعد تعسر فيه عند الابتداء.
والسرعة إلى التفكير مع السرعة إلى العدول عن الفكرة في وقت واحد هما آفة العجلة في مواجهة الزهاوي لمسائل العلم والأدب أو مسائل الاجتماع والأخلاق، فليس أسرع منه إلى اختطاف الرأي الشائع أو اختطاف الرد عليه، ونحسب أن بنية الرجل «مسئولة» كما يقولون عن هذا الولع بالسرعة والقلق من الاستقرار، فإن مصابه بالداء الذي أقعده عن الحركة قد بدأ معه اضطرابًا مقلقًا قبل أن يثقل على أعصابه ويثقله عن حركته، وما أكثر ما نظم في «الصراط» وصعوبة العبور عليه من شعره الأول ومن شعره الأخير.
ولا ريب عندنا ولا عند قراء الزهاوي شعرًا ونثرًا في قدرته الفكرية ولا في ملكته الرياضية، ولكنك تراجعه من بواكيره إلى خواتيمه فيبدو عليه أنه يثب إلى الآراء وثبة بعد وثبة ولا يتطور معها على أمد مديد يتصل فيه الانتقال من مكان إلى مكان، فهو في وثباته المتلاحقة على مكان واحد، يصعد منه وينزل إليه، ويثبت عليه صاعدًا ونازلًا ومترددًا ومستقرًّا، وهكذا كان في آخر ديوان كما كان في أول ديوان، وللقارئ بعده أن يبقيه حيث شاء، بما هو أهل للبقاء.