مُشكِلة المعجَمات العربيَّة الحديثة
لا تزال للمعجمات العربية مشكلة قائمة يتصدى لها المشتغلون باللغة، ويحاولون جميعًا أن يكون المعجم الحديث مستدركًا للنقص في المعجمات العربية القديمة، تارة من ناحية الترتيب والتبويب، وتارة من ناحية الاختصار والتخلص من الإطالة والتكرار، وتارة أخرى من ناحية أهم وأولى بالاستدراك في حينها، وهي ناحية الاستيفاء بإضافة المفردات التي استُحدِثت في العهود الأخيرة من ألفاظ الحضارة ومصطلحات العلوم ومخترعات الصناعة، ونُقِلت إلى لغتنا من طريق التعريب أو من طريق التوليد أو من طريق الترجمة بتصرف أو بغير تصرف على حسب الأحوال.
وأحدث المعجمات على هذا النمط معجم «المنجد» الذي توفر على تأليفه الأب لويس معلوف اليسوعي، وظهرت طبعته الأولى سنة ١٨٠٠، ثم توالت طبعاته مع التوسع فيه إلى أن ظهرت طبعته السادسة منذ بضع سنوات وهي على أحدث مثال من نظام المعجمات في لغات الحضارة، جميلة الطبع والترتيب، وافية المادة والبيان، ملمة بطائفة صالحة من الألفاظ المولدة والدخيلة والمعربة جرت على الأقلام الفصيحة وانتظمت في جملة المفردات العربية المقبولة لصعوبة الاستغناء عنها بغيرها، ولا تقل هذه الطبعة عن أوفى طبعات المعجم الفرنسي في مثل حجمه من عمل مؤسسة «لاروس» المشهورة؛ لأنها تحتوي — غير المفردات اللغوية — بابًا للأسماء الجغرافية، وبابًا آخر للتراجم، وبابًا ثالثًا للأمثال، مع التوضيح بالصور والخرائط والرسوم.
ولم تتوسع هذه الطبعة في جمع ألفاظ الحضارة ومصطلحات العلم والصناعة، ولا نرى أن ذلك يعيبها أو أنه نقص يتيسر استدراكه في المعجمات العامة بهذا الحجم أو أكبر منه؛ لأن النظام الذي جرى عليه واضعو المعجمات الحديثة باللغات الأوروبية يخصص لكل علم أو صناعة معجمًا مستقلًّا لا يتعرض لغير مصطلحاتها وألفاظها، وذلك بعد أن بلغت هذه المصطلحات والألفاظ عددًا يكفي لتأليف معجم خاص بكل منها تزيد صفحاته على المئات، ولا تمس الحاجة إليه عند البحث عن الكلمات اللغوية في معجماتها العامة، وبخاصة بعد أن توفر أناس منا على وضع المعجمات المستقلة لبعض العلوم والصناعات، ولا يزال المدد الوافر يتوالى على هذه المعجمات المستقلة لاستمرار العمل في تدريس العلوم باللغة العربية والاستغناء شيئًا فشيئًا عن مصادرها الأوروبية.
ولم يظهر بعد «المنجد» معجم من تأليف الأفراد، ولكن ظهر في السنة الماضية معجم المجمع اللغوي «الوسيط» في جزأين يبلغ عدد صفحاته ألفًا وثمانين صفحة يشتملان على نحو ثلاثين ألف مادة وستمائة صورة، ويبين الدكتور إبراهيم مدكور مزيته على معجمات القرن العشرين فيقول: إنه «دون نزاع أوضح وأدق وأضبط وأحكم منهجًا وأحدث طريقة، وهو فوق ذلك مجدد ومعاصر، يضع ألفاظ القرن العشرين إلى جانب ألفاظ الجاهلية والإسلام، ويهدم الحدود الزمانية والمكانية التي أُقِيمتْ خطأ حول عصور اللغة المختلفة.»
وهذا المعجم الوسيط أوسع تناولًا لألفاظ الحضارة من «المنجد»، ولكنه — على أية حال — لا يغني عن المعجمات المستقلة للعلوم والصناعات، ولم يأخذ مؤلفوه أنفسهم بالاستغناء عنها، وليس في وسع مؤلف أن يأخذ نفسه بمثل هذا في معجم من المعجمات العامة كائنًا ما كان حجمه، وقد نظر المجمع في تخصيص بعض المراجع المستقلة بأغراضها، فابتدأ منها بمعجم مستقل للقرآن الكريم، وهو مقصور على الألفاظ القرآنية بتفسيراتها اللغوية وبغير توسع في التفسيرات التي تُحسَب من قبيل الرأي والاجتهاد على مذاهب الفقهاء.
والمجمع دائم الاشتغال بتأليف معجمه الكبير الذي ينتظر أن يستدرك كل نقص يستطاع استدراكه في الترتيب والشرح، أو في البحث عن الأصول، أو في استيفاء المعرب والدخيل، مع الإحاطة بأكبر عدد ميسور من ألفاظ الحضارة ومصطلحات العلوم والصناعات.
والمعهود في أعمال المجامع أنها أطول أمدًا من أعمال الأفراد، فإن معجم الأكاديمية الفرنسية قد استغرق العمل فيها أكثر من مائة سنة، ولم يسلم بعد هذا من مواضع النقد لإفراطه على المحافظة على النهج القديم كما اتبعه أعضاء الأكاديمية عند ابتداء وضعه.
وطول الأمد في أعمال المجامع ضرورة لا حيلة فيها ولا وجه للاعتراض عليها؛ لأن الخطة التي يتفق عليها ثلاثون أو أربعون متجددون بين حين وحين أصعب تنفيذًا من الخطة التي يفرغ لها المؤلف الواحد بينه وبين نفسه، ولا يطالبه أحد بمراجعتها وإعادة النظر فيها، فقد حدث خلال تأليف الصفحات الأولى من المعجم الكبير أنها أُعِيدت إلى المؤتمر أكثر من أربع مرات للنظر في ملاحظات الأعضاء الجدد أو الأعضاء الأوائل الذين بدا لهم بعد الشروع في تأليفه رأي غير الذي اختاروه عند ابتدائه.
ومن هذه الملاحظات ما كان يدعو إلى إعادة النظر في ترتيب المواد بحسب الحروف الأولى أو الأخيرة، وفي تضمين الأعلام أو عزلها، وفي ذكر المرادفات السامية والأجنبية على العموم أو الاقتصار على الضروري منها، وفي التزام التسلسل التاريخي لمعاني الكلمات مع إثبات الشواهد من أقوال الشعراء والكتاب أو العدول عن ذلك لصعوبة السير عليه في معجمات اللغة العربية.
ومن الملاحظات التي أُعِيدَ النظرُ فيها مسألة التقسيم والترتيب في المادة الواحدة، هل تُشرَح الكلمة شرحًا واحدًا متصلًا من بدايتها إلى نهايتها، أو تُقسَّم المادة إلى أبواب يُشرَح كل باب على حدة، ولا يُنتقَل إلى ما يليه إلا بعد الفراغ منه واستيفائه إلى غايته؟
ونضرب لذلك مثلًا مادة القاف والدال والميم، أي: مادة «قدم»، فهي تحتوي: معنى السبق، ومعنى القدوم، ومعنى مضي الزمن الطويل، ومعنى النفاذ، ومعنى الرِّجل، ومعنى الشجاعة، وفيها معنى القياس الذي هو جزء من اليردة، ومعنى الآلة التي يستخدمها النجارون، وغير ذلك معانٍ شتى تتولد بالاشتقاق وباستعمال الفعل المزيد على جميع الأوزان.
فهل يتصل الشرح ويُعاد إلى الباب بعد الانتقال منه على حسب ترتيب الحروف، أو ينفصل كل معنى بقسم لا يشترك فيه مع غيره، وإن تشابهت حروف الكلمات؟
هذا مثل من أمثلة الملاحظات الكثيرة التي استوجبت إعادة النظر في خطة التأليف قبل المضي فيه على المنهج المتفق عليه.
ويُضاف إلى هذه المعوقات التي لا بد منها أن الأعمال «الرسمية» ترتبط بقراراتها وتواريخها، ولا يتأتى تعديلها أو استئنافها بغير الرجوع إلى قرارات أخرى تتطلب الوقت الطويل لاتخاذ «إجراءاتها» وإصدار الإذن «بالاعتمادات» التي تُرصَد للإنفاق عليها، ولو اقتضى الأمر زيادة خبير واحد إلى لجنة التأليف لما تيسر ذلك قبل معاودة الإذن بهذه الإضافة إلى «مصروفات المشروع»، ومعاودة السلسلة الإدارية كرة أخرى من الألف إلى الياء، وقد تعترض ذلك أحوال كأحوال الحرب وما يشبهها يتبدل فيها نظام توريد الورق من نوع معين، ونظام الطبع في جهة محدودة، ونظام المعاملة بين الجهات الحكومية والجهات الأهلية التي تُعهَد إليها مهمة التحضير والطباعة.
وبما صادف المعجم الكبير من هذه العوارض أنه ارتبط — من الخطوة الأولى — بمعجم الدكتور فيشر الذي كان قد اعتزم تأليفه على المنهج المقرر لتأليف ذلك المعجم الكبير، وكان الدكتور فيشر قد أعلن عزمه على تأليفه لأول مرة بمؤتمر المستشرقين في باسل (سنة ١٩٠٧)، وجاء في محضر المؤتمر لتلك السنة أن الدكتور «قد أبان أن القواميس العربية الموجودة التي ألفها الغربيون، وبخاصة تلك التي عالجت الفصحى لعهدها القديم، لا تفي بحال من الأحوال بالمطالب العلمية؛ لأسباب أهمها أنها لم تعتمد على كتب الأدب الموجودة، بل نشأت من القواميس التي ألفها العرب، وإن كانت هذه قيمة جدًّا».
ثم جاء في المحضر أن الدكتور فيشر «لا يرى أن ينفرد بالعمل بل يجب اشتراك غيره من العلماء معه.»
ثم نُدِب الدكتور فيشر لإدارة القسم العربي الإسلامي لمعهد الاستشراق بمدينة ليبزج، فاختار من تلاميذه نخبة تعمل معه لإعداد البحوث اللازمة للبدء بتنفيذ مشروعه، ولم يزل هذا المشروع في مرحلة التمهيد إلى سنة ١٩٢٤ إذا اطلع أحد الناشرين الألمان على نموذج منه، فأبلغ الدكتور استعداده للقيام على طبعه وتدبير نفقاته، ولم يكن يقدِّر في تلك المرحلة مصاعب التنفيذ إلى تمام تأليف المعجم وطبعه، فلما عرف من تفصيلاته كل ما يحتاج إليه جهدًا ونفقة، عدل عن عزمه وأبلغ المؤلف وتلاميذه بعدوله، وكان مجمع اللغة العربية قد تألف وضم إليه فئة ممتازة من المستشرقين الأوروبيين منهم الدكتور فيشر والدكتور ليتمان الألمانيان، وعلم الأعضاء بمشروع فيشر كما علم فيشر بالبرنامج المقرر لأعمال المجمع اللغوي وفي مقدمتها تأليف المعجم التاريخي الكبير، فتم الاتفاق على ولاية المجمع لهذا العمل باعتباره تنفيذًا لبرنامجه المقرر، وأعان الدكتور بما عنده من المراجع المطبوعة والمخطوطة وأماكن المراجعة والتحضير، ويسر له العمل بمعونة موظفيه الخبراء وأعضائه المتطوعين للمشاركة فيه، ولم تمضِ سنتان على ابتداء البحث في خطة التأليف وجمع المواد المتفرقة وكتابة الجزازات لكل مادة على حدة حتى نشبت الحرب العالمية الكبرى، وانقطع الدكتور فيشر عن حضور جلسات المجمع بضع سنوات، ثم انقطعت أخباره وتبين بعد العلم بخبر وفاته أن أوراقه التي حملها معه إلى بلده قد تبددت وضاع منها الكثير بغير أمل في الحصول عليه، فلم يرَ المجمع في هذه الحالة بدًّا من تعديل العقود التي كانت مبرمة بين المؤلف ووزارة التربية، ولم يكن في وسعه أن ينشئ قبل ذلك معجمًا آخر إلى جانب المعجم المتفق عليه، ولا أن يلغي تلك العقود قبل التحقق من مسوغات إلغائها أو تعديلها.
وتدل النماذج التي انتهى العمل فيها من معجم فيشر، على جهد كبير في التبسط والاستطراد، يزيد على الحاجة في معجمات اللغة ويحيط بمعانٍ للكلمات ليست من قبيل الإحاطة اللغوية، كاستطراده في حرف الهمزة، بعد الكلام على استخدام الهمزة للنداء، إلى الكلام على جميع أحرف النداء، وإتيانه بمادة «النوم» في كلمة «أخذ» لقوله تعالى: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ وأمثال ذلك من ضروب التوسع التي يصعب الاسترسال فيها على هذا النحو في سائر الحروف، فبدا للجميع أن يعيد النظر في جزازات المواد ليثبت منها ما يصح أن يدخل في نطاق المعجمات اللغوية، ويحيل البقية إلى مواضع الانتفاع بها في غير هذه المعجمات عند التفكير في تأليفها.
هذه بعض العوارض التي يسهو عنها الذين يقفون بعيدًا — على البر — ليستبطئوا عمل المجمع في معجمه الكبير، وهي — كما نرى — عوارض معهودة في كل عمل من أعمال الجماعات يجري على «السنن الرسمية»، ولا مناص له من الجري عليها، ولكن الواقع أن المعجم الكبير مشروع يطول العمل فيه سواء صادفته هذه العوارض أو لم يصادفه عارض منها، فإذا تم تأليفه خلال ثلاثين سنة فذلك توفيق يُغبَط عليه، بالقياس إلى أعمال المجامع التي توافر لها من المعدات على طول الزمن ما ليس بالمتوافر للمجامع العربية.
ولا يبعد أن يظهر من المعجمات الكبيرة في هذه الأثناء معجم أو معجمان بعناية الأفراد المنطلقين من ضوابط الأعمال الجماعية، ولكن المعجم الذي تتولاه الجماعة يظل مع هذا مطلوبًا لمزايا فيه لا تتيسر للفرد الواحد، مهما يكن مبلغه من المعرفة والاجتهاد.
ويتسع الوقت ولا ريب لظهور عشرات المعجمات العلمية والصناعية المستقلة بأغراضها في هذه الأثناء، وتلك هي المعجمات التي يلوح لنا أن المحرر الفاضل يسأل عنها، ويسمي مشكلتها بمشكلة المعجمات العربية، وليس لها حل عند واضعي المعجمات الكبرى بالغًا ما بلغ بها الاتساع والاستقصاء، ولكنها تحل على أحسن وجه بالمعجم المستقل لكل موضوع من موضوعات العلوم والصناعات وألفاظ الحضارة على الإجمال.