خَليل مُطران … أرْوَع ما كَتَب
كتاب في نحو مائة وسبعين صفحة من القطع الكبير، يُعتبَر من كتب الجمع والرواية كما يُعتبَر من كتب النقد والتأليف.
وضعه الباحث المؤرخ الناقد الدكتور محمد صبري، وجمع فيه طائفة صالحة من منثور الشعر الكاتب خليل مطران، وصرف عنايته فيه إلى استقصاء المقالات والنبذ التي نشرتها الصحف والمجلات ولم تظهر قبل الآن في مجموعة واحدة، وهذا هو جانب الجمع والرواية.
أما جانب النقد والتأليف فهو شامل للمقدمة الوافية التي كتبها الدكتور محمد صبري وصدر بها الكتاب، ومعها نخبة من التعليقات يتخلل بها مقالات مطران وشذراته بما يقتضيه المقام من الشرح تارة والمناقشة تارة أخرى، ويجيد كعادته في هذه الشروح والمناقشات، ويفيد.
وقد جاءت مقدمة الكتاب في مكانها وفي موعدها؛ لأنها تعين على التعريف بفضل مطران الناثر، وتصحح الدعاوى الفاشية بين الأدباء الناشئين الذين تغرهم تلك الطنطنة الجوفاء بأسماء المذاهب الأدبية والمدارس الفنية كما راجت زمنًا في صحف الأدب الرخيص بين الغربيين، وقد تفيد الناقد الأصيل المطبوع ولكنها تضلل الناقد المقلد عن الحقيقة المقصودة؛ لأنها تشغله بالأسماء عن المسميات وبالقشور عن اللباب، وقد يصل أصحابها أنفسهم في وضع أسماء المذاهب وفي تطبيقها على الموضوعات.
ويكفي أن نختار مثلًا واحدًا لهذه التقسيمات والتطبيقات نلمس منه ذلك الخطأ البعيد في النظر إلى حقيقة الكلام ذهابًا مع العناوين التي يحلقونه بها، وهذا المثل الواحد هو تقسيمهم الشعر إلى شعر انبعاث وحركة «ديناميكي» وشعر استقرار ووقوف أو سكون «ستاتيكي»، وهو كما يقولون غالب على الأدب العربي منذ عصر الجاهلية إلى العصور الحديثة.
وقد أشار الدكتور صبري إلى هذه التفرقة في مقدمته مستشهدًا بكلام الأستاذ إسماعيل أدهم نقلًا عن الدكتور جرمانوس، فقال: إن الأستاذ إسماعيل أدهم استشهد برأي الدكتور يوليوس جرمانوس … ومثال ذلك واضح في وصف طرفة للجمل؛ إذ يصفه بدقة تشريحية ولكن تعوزه الطاقة على التجرد من الذاتية، وأنت لو طالعت في الإلياذة كيف يصور هوميروس درع أخيلوس حيث تصهر الدروع وتطرق وتنحت وتصقل أمام بصر السامعين الذهني لأمكنك أن تعرف الفارق الكبير بين طبيعة الشعر العربي وطبيعة الشعر الغربي، فإن الأخيرة زحمة في قوتها ونشوئها الدرامي، ومن هذا أمكننا أن نقف على السبب الذي قعد بالشعر العربي عن التصوير؛ لأن التصوير يستلزم التجرد عن الذاتية والعرض للظواهر الطبيعية في طبيعتها الموضوعية، ولا ينبغي أن ينسينا هذا النقص استكمال الشعر العربي من ناحية أخرى — ناحية الذاتية — وهذا ما يظهر عند شاعر قوي الروح العربية كالمتنبي …
وقد ناقش الدكتور صبري هذه الآراء واستطرد منها إلى مناقشة آراء المفرقين بين الأدب العربي والأدب الغربي بهذه المقاييس التي تحمل أسماء «الموضوعية والذاتية والدينامية والاستاتيكية» وما شابهها من العناوين والأسماء، وحبذا هي من مقاييس لولا أنها تضلل الأذهان عما تقيسه وتنسيها حقيقة المقصود كلها بالوصف حيث كان في كل لغة وفي كل أمة … فلو ذكر الناقد أن الوصف الصحيح هو التعبير الحي عن إحساس الشاعر بما يدركه لما انقلب عليه الأمر فحكم بنقص التمثيل الدينامي في الشعر العربي وغلبة التمثيل الاستاتيكي عليه، ولو أنه عكس القول لكان أقرب إلى الصواب.
ولنقنع هنا بالمتنبي الذي جاء ذكره في تلك العبارة، فإنه أكبر شعرائنا النابهين الذين لم يشتهروا بالوصف؛ لأنهم اشتهروا بالحكمة، ولكنه — على هذا — يصف مناظر الحركة والانبعاث فيخيل إلينا أنه يعرض أمامنا شريطًا من أشرطة الصور المتحركة التي تتوالى فيها الصور، ونوشك أن نراها بالعين ولا نسمعها بالأذن لفرط الصدق في تمثيل الشعور الحي بما يقع منها في الأبصار والأسماع.
إليك مثلًا وصفه للبحيرة حيث يقول:
فأي «دينامية» هذه التي تعوز هذا الوصف الحي في حركته وسكونه، وفي وقع الصور المتعاقبة من النظر والسمع ووقعها من الخيال؟!
وإليك وصفه للأسد حيث يقول:
فماذا تزيد دينامية الأرض كلها على هذه الصفة التي تكاد تهز القرطاس بالحركة وهي تجري عليه؟
وشبيه بالمتنبي شاعر آخر لم يشتهر بالوصف أيضًا؛ لأنه اشتهر بالحكمة كصاحبه، فقال عنهما أبو العلاء: إن أبا الطيب وأبا تمام حكيمان والشاعر البحتري.
يقول أبو تمام — الحكيم — في وصف الربيع:
ولا نذكر الشعراء الوصافين، أو المشهورين بالوصف، فإن صورة واحدة من كل شاعر منهم تتدفق في جملتها تدفق البحر الخضم، فتغرق الإلياذة بما وسعت من دروع وسيوف!
أحسن الدكتور صبري في نقده لهذه الآراء تمهيدًا لمختاراته من وصف مطران، فإن مطران الناثر — كمطران الشاعر — مثل البلاغة «الدينامية» على قول أصحابنا عشاق العناوين، وإننا لننقل أول وصف له في المجموعة فيغنينا عن المزيد من هذه الأوصاف الحسان؛ لأنها كلها أوصاف لا تعوزها الحركة ولا المناظر التي تراها العين أو يتمثلها الخيال.
نحن يومًا جلوس على شرفة نادٍ، وإذا جمهور من صبية، كبار وصغار، طوال وقصار، يمرون في الطريق وينقلون أقدامهم على نغم موسيقى يعزف بها أمامهم، ويتقدم الموسيقى غلام يحمل صولجان طويلًا ثخينًا يقلبه في قبضته شمالًا ويمينًا، كأنه يشير به إلى المارة أن اخلوا السبيل جانبًا وقفوا منا موقف اتقاء السيل جارفًا والجيش محاربًا … وتتلو صاحب الصولجان الغلمة العازفة الضاربة الجادة اللاعبة، ثم نحن المائة من الأحداث نمشي وراءها صفوفًا متحدة الملبس مختلفة الوجوه صنوفًا، وكل هذا السواد كاسون أبيض مسطرًا بسواد، قويمة قاماتهم، مرفوعة هاماتهم، غضة أبدانهم، بادية من السرور أسنانهم، فقلنا: من الجيش بلا سلاح؟ فقيل: المساجين في مدرسة الإصلاح.
هذه أيضًا إحدى «أفلام» الصور المتحركة التي تتلاحق على القرطاس، ويتبعها في كل صفحة من صفحات الكتاب مقال إن شئت، وإن شئت فشريط يريك كل ما يغني القارئ بالصفات المكتوبة عن الموصوفات المنظورة أو المسموعة، ولا تبتعد في المجاز كثيرًا إذا قلت: إنها من الصور الناطقة؛ لأنك تستطيع أن تعلم من المنظر المشهود كيف نسمعه بأذن الخيال.
وتدل هذه القطعة المختارة — بغير انتقاء — على أسلوب الكتابة في سائر الفصول والشذرات؛ أسلوب فصيح النسق، سليم اللغة، مرسل العبارة لا يترك السجعة المقبولة إذا جاءته في الطريق، ولا تخرجه عن الطريق إذا تعمد أن يلتفت إليها حيث يستدعيها المقام.
ولقد كان صاحب هذا الأسلوب «عصريًّا» في تركيبه لعباراته على نمط الكتابة العصرية في صحافة الأدب على الخصوص، ولكنه سلم مما كان يعرض لأقلام الصحفيين من أخطاء اللغة وخلل التركيب، ولم بجانب الروح العصرية حتى في مجاراته للسلف حين يجنحون إلى التحسين أو السجع والتشبيه، فكتابه «مرآة الأيام في ملخص التاريخ العام» يسمى على منهج الأسماء التي حرص المؤلفون على تسجيعها وتزويق معانيها بعد عصر المخضرمين وأوائل الأمويين، ولكنك لو ترجمته إلى اللغة الفرنسية أو الإنجليزية لما استغربه القارئ ولا حسب أنه منقول من لغة شرقية؛ لأن المؤرخ الغربي أيضًا يعتبر تشبيه التاريخ بالمرآة وصفًا غير بعيد عن لغة الواقع، وعن مقاصد المؤرخين.
وتحتوي المجموعة — مع الوصف — نقدًا أدبيًّا يلم بالموضوعات العربية والموضوعات الأوروبية، وينقد المؤلفات كما ينقد المؤلفين، ويعلق عليها شارح الكتاب فيهدي القارئ إلى ظروف المقال التي يفوتها العلم بها لولا هذا التنبيه إليها، ويستدرك على الكاتب بعض الأمور فيوافقه حينًا ويخالفه حينًا وينم على الإعجاب به في جميع الأحيان، ولا نكتم صديقنا الشارح أننا قد نخالفه لنوافق مطران على كثير مما لاحظه عليه، ومن أمثلة ذلك تعليقه على نقد مطران لرواية «مكبث» إذ يقول إن شكسبير «يقدم لنا مثلًا أعلى من الأمثلة التي تقوم أخلاق الأفراد وتصلح الأسر، وتقيل الأمم من العثرات، ويرينا بأقوى ما نستطيع البراعة سلطان الضمير في كل نفس، ويرينا بأية الحيل تحتاج الغرائز الدنيئة لإفساد الضمير.»
هذه الملاحظة لم يشأ أن يوردها الدكتور صبري دون أن يورد عليها ملاحظة من عنده يقول فيها: «أنا لا أعتقد أن شكسبير وهو يكتب رواية مكبث كان يفكر في الأسرات وإقالة الأمم من العثرات، شكسبير شاعر ينشد الجمال أولًا ويعبر عما يختلج في قلبه من عاطفة ووجدان.»
وهذا صحيح، أو يجوز أن يكون صحيحًا فيما يرجع إلى مقصد شكسبير، ولكنه — صح أو لم يصح — لا يمنعنا أن نقول كما قال مطران: إن شكسبير قدم لنا العبرة كما تقدمها لنا حوادث الزمن، ولا يلزم من اعتبارنا بالحوادث أن تكون الحوادث ذات قصد فيما نتعظ به أو لا من العبر، على مسرح التاريخ أو على مسرح التمثيل.
ونود أن نختم هذا المقال باقتراح على الأستاذ الشارح نخصه به؛ لأنه أحق باستجابته وإنجازه لطول عهده بدراسة مطران في حياته وبعد مماته، فهذا الكتاب — على ما نعتقد — يشوِّق قراء العربية إلى الروائع النثرية التي جنت عليها شهرة الأديب الكبير بالشعر، فكاد ينساها قراء الجيل الحديث، بل نسي مؤرخو مطران أنفسهم أن يذكروها في عداد أعماله وآثاره، ومنها كتابه الذي أشرنا إليه عن التاريخ، وكتابه عن الدكتور شميل ومترجماته التي استقل بها وأودعها من بلاغة العربية ما يصح أن يُنسَب إليه وأن يحتويه كل كتاب يتكلم عن الكاتب مطران، فإذا حسن عند الدكتور صبري يوم يعيد طبع كتابه هذا أن يحيط فيه بنماذج الكتابة المطرانية في جملة موضوعاتها ومناسباتها، فإنه لجدير بهذا الوفاء وهذا الاستيفاء.