التَّيارات المعاصرة في النَّقد الأدبي
هذا كتاب جامع في تاريخ النقد الأدبي عندنا منذ أكثر من مائة سنة، وهي الفترة التي يصح أن تُوصَف بالمعاصرة، إذا حسبت أدوار الأدب بالعصور التي يتسع العصر منها للسلف والخلف في الجيل الواحد.
وقد تحرى مؤلفه الفاضل أن يضمنه إلمامة كافية بأسلوب كل كاتب معروف من كتاب اللغة العربية في هذه الفترة، وتحرى ذلك ليتخذ من عرض الأسلوب وسيلة إلى عرض مذهب الكاتب في النقد، ثم عرض آراء النقاد في مذهبه، فلم يفته تسجيل أسلوب من أساليب الكتابة يتناوله النقد وتدور حوله مقاييس النقاد.
وطريقة المؤلف في هذا الكتاب الجامع هي الطريقة المدرسية لتعليم الطلاب، ولكنها في الوقت نفسه طريقة المطالعة الشائقة والتاريخ الصالح لمراجعة القراء على اختلاف الأذواق.
ومع التزام الدكتور طبانة لمنهج الحيدة في الكتب التعليمية لم يخلُ كلامه في سياق العرض من تعليق عابر يشف عن استخفافه بما هو خليق بالاستخفاف، مما تضطره أمانة العرض إلى نقله للتوضيح والاستشهاد.
ومن أمثلة ذلك حيدته التي جمعت بين الأمانة العلمية والرأي «الشخصي» في التعقيب على قصيدة «حرة» عنوانها القصيدة «ك»، وفيها يقول القائل ستره الله:
فقد نقل المؤلف هذه الأبيات، وكان من واجبه أن يعتذر لقرائه من إضاعة أوقاتهم في قراءتها وبحثها، لولا أنه يضطر إلى الاعتذار من جهة أخرى إذا هو أسقطها ولم يثبتها في موضعها بين أساليب ناظميها، فكان بديعًا في توفيقه بين الواجبين حين قال بعد إيرادها: «ولست أقدم هذا النموذج من باب الطرافة، أو قصدًا لإضحاك أحد، فهذا هو نموذج حقيقي من ديوان الشاعر الذي يبلغ حوالي مائتي صفحة …»
وعلى هذا النحو من أمانة التسجيل، وحيدة المعلم، ومرضاة الناقد لذوقه، تتابعت الصفحات والفصول على أكثر من أربعمائة صفحة بالقطع الكبير، لا تخلو إحداها من معلومات نافعة، أو شاهد مطلوب، أو رأي عن أديب من أصحاب الأساليب، أو قياس لهذا الرأي بمقاييس النقاد من مدرسة عصره أو مدارس النقد في شتى العصور.
ويبتدئ الكتاب بفصل عن المفاهيم والقيم العامة تبعًا لاختلاف الثقافات وتراوحها بين بقايا المحافظة وطوالع التجديد.
يليه فصل عن اتجاهات النقد المعاصر يشتمل على تعريف مجمل بخصائص الأدب العربي ومميزاته الجوهرية، يستطرد إلى إعادة النظر في النقد العربي القديم ودراسة التفاعل بين الأدب العربي والآداب الأجنبية.
ويليه فصل عن نقد الأغراض الأدبية ومنها وظيفة الأدب في الإصلاح الاجتماعي وعلاقة البلاغة بدقة التعبير عن الأساليب العلمية.
يليه فصل عن لغة الأدب وما طرأ عليها من التجوز في قواعد اللغة ومن محاولة التقريب بين الفصحى والعامية، ومن تغليب العامية على الرواية المسرحية أو على الحوار بين شخوص الرواية، ويتخلل ذلك شرح لقيمة الأدب الشعبي وقوة معانيه وأفكاره.
يليه الفصل الخامس عن صورة الأدب من المنظوم والمنثور، وصورة المنظوم من الأوزان العروضية أو الانطلاق من جميع الأوزان أو التوسط بين رعاية البحور الموروثة ورعاية التفاعيل دون البحور.
يليه الفصل السادس في نقد المعاني الأدبية وسرقات المعاني أو الألفاظ، ومما يدعو إليه بعضهم في الزمن الأخير من قلة الاكتراث للمعنى والمدلول، أو ما يسمونه باللامعقول، وما يُلاحَظ على النقاد أحيانًا من الشتات والإخلال بالوحدة الواجبة في قواعد النقد وخطط الكتابة ودعوات التفكير.
ويطلع القارئ على هذه الفصول المتناسقة وهو على ثقة من الوقوف فيها على المادة الصالحة للحكم على آراء المؤلف وآراء النقاد، فلا يتقبل الحكم على مذهب من المذاهب غيبًا أو اتكالًا على القول المعروض عليه، ولا يزال في وسعه أن يوافق المؤلف أو يخالفه وبين يديه السند الذي يعتمد عليه في الحالتين، ولو كان من الطلاب الذين يتلقون معلوماتهم من الكتاب تلقي الطالب من الأستاذ.
فإذا تصرف المؤلف بالرأي مرة على نحو يتحلل به من قيود الحيدة لم يغلق على القارئ باب الاستقلال بالرأي، بل يجد نفسه حجة على الرأي المستقل وعلى المخالفة بالفهم والاستدلال.
ولم يهمل المؤلف من تقسيم مدارس النقد التي انتهت إليها مذاهب المعاصرين، ولكنه جاء بها متفرقة في مناسباتها ومعارض النظر إليها خلال الكلام على أساليب الكتاب والنقاد، ولعله كان يستطيع أن يوفق بين إيراد المناسبة في مواطنها المتفرقة خلال الصفحات وبين الكلام على مدارس النقد جميعًا في فصل مستقل يحقق فيه انتساب كل ناقد إلى مدرسته النقدية، ولا يدع أشتات المناسبات موزعة بين الصفحات والفصول، تفتح الباب للخطأ الكثير عند تقسيم الكتَّاب والنقاد على حساب «المدارس» والأذواق.
ونود أن نجتزئ هنا بمثل واحد على عادتنا في البحوث الموجزة التي تضيق عن شروح الإسهاب ومطارح الاستشهاد.
إن مدارس النقد جميعًا توشك أن تنحصر في ثلاث:
مدرسة التحليل النفسي، ومدرسة الدراسة الاجتماعية، ومدرسة الأذواق الفنية.
ومدرسة التحليل النفسي هي أقرب المدارس إلى الرأي الذي ندين به في نقد الأدب ونقد التراجم ونقد الدعوات الفكرية جمعاء؛ لأن العلم بنفس الأديب، أو البطل التاريخي يستلزم العلم بمقومات هذه النفس من أحوال عصره وأطوار الثقافة والفن فيه، وليس من عرفنا بنفس الأديب في حاجة إلى تعريفنا بعصره وراء هذا الغرض المطلوب، ولا هو في حاجة إلى تعريفنا بالبواعث الفنية التي تميل به من أسلوب إلى أسلوب.
وللنقد — كما تقدم — مدرسة أخرى محترمة كثيرة الأنصار في العصر الحديث على الخصوص، بعد استفاضة البحوث حول الدعوات الاجتماعية وعلاقة الأديب بمطالب عصره، وموضع الملاحظة على هذه المدرسة أن الذي يعرفنا بأحوال المجتمع وحسب لا يستطيع أن يعرفنا بأسباب الفوارق الكثيرة التي تُشاهَد بين عشرات الأدباء من أبناء العصر الواحد، ولا غنى له عن الرجوع إلى «النفسيات» مع التعويل على «الاجتماعيات» في مسائل الأدب والتاريخ.
أما المدرسة الفنية فهي مدرسة البلاغة والذوق ومدرسة المعاني الرائقة والتعبير الجميل، وهي تلجئنا لا محالة إلى ذوق الأديب وذوق الناقد على السواء، ومتى وصلنا إلى الذوق فقد وصلنا إلى «النفسيات»، ووصلنا قبلها إلى الاجتماعيات على الإجمال.
إذا وضحت الفوارق بين هذه الفوارق وضح معها الخطأ الذي جعل الباحث النابه الأستاذ محمد خلف الله يسلك الدكتور طه حسين بين نقاد التحليل النفسي، ويكاد أن يسلكني بين هؤلاء النقاد من باب الإضافة، لا من باب الأصالة ولا من باب التعميم الذي يشمل الكلام على شخوص «العبقريات» وشخوص الأدباء الكثيرين؛ أمثال: ابن الرومي، وأبي نواس، وأبي الطيب، وأبي العلاء … إلخ.
ولقد أدى السهو عن هذه الفوارق بين المدارس إلى هذا الخطأ في تقدير باحث من خيرة الباحثين عندنا في تواريخ الفكر والأدب، فهو الذي ساق الأستاذ خلف الله إلى مخالفة الدكتور طه حسين نفسه في مذهبه النقدي، وهو الذي صرح غير مرة أنه لا يحب للأدباء أن يشغلوا أنفسهم بالدراسات النفسية كلما عرضوا لقرائح الشعراء بالوصف والبيان، وقد كان تطبيق التحليلات النفسية على أبي نواس أكبر وجوه النقد التي أخذها الدكتور طه على كتابنا عن هذا الشاعر، الذي يغري قبل غيره بتطبيق دراسات التحليل عليه.
إلا أن الأستاذ طبانة لم يضيع على القراء شيئًا ذا خطر بنسيان هذا الفصل من فصول كتابه الجامع المستفيض؛ لأن تعليقاته على مناهج النقاد عصرًا بعد عصر قد تكفي كل الكفاية لتحقيق الغرض من تأليف أمثال هذا الكتاب، وذلك هو بيان النقص عند أدعياء النقد بين المعاصرين، وهي وجوه شتى من النقائص الكثيرة قد تتلخص في سطر واحد يغني عن صفحات … ففي سطر واحد يدل المؤرخ على أدعياء النقد الحديث كل الدلالة حين يقول عنهم إنهم نقاد بغير أداة.
إن الناقد الذي توافرت له أداة النقد من المعرفة واللغة والأمانة والاطلاع على مراجع النقاد هو أديب قادر على الإنتاج، مخصب القريحة بثمرات الإجادة والافتنان، مميز للمحاسن غير مقصور الفهم على تمييز النقائص والعيوب؛ لأنه عارف بالقدرة التي تنتج المحاسن وترتفع به إلى الإجادة في التفكير والتعبير، وقل أن يحتاج الناقد إلى من يعلمه مواطن العيوب من علمه بمواطن الحسنات؛ لأن أجهل الجهلاء بالبناء قد يدرك عيوب القصور والصروح، كما يدرك عيوب الخصائص والأكواخ.
وكتاب الدكتور طبانة يرفع القناع عن علة الاندفاع إلى هذه المذاهب الخاوية التي يروِّج لها دعاة النقد بغير أداته … فإنهم فضوليون على موائد الأدب لا يحسنون الطهو ولا يبذلون نفقة الطعام، ولا تُستجَاب عندهم دعوة الضيوف، فلا عجب يسقطون من أداة النقد عندهم كل عدة غير عدة الدعوى بغير حجة وبغير ميزان، وهكذا يكون النقد للأدب الذي لا تُشترَط فيه اللغة ولا العروض ولا المعنى ولا القياس المطرد في منطق العقول … كلا … بل لا يُشترَط فيه العقل ولا يُراد فيه من الأديب والناقد غير الخوض في لجاج مهزول مجهول، لا معقول ولا مقبول.