عَالمُ الغَد
عالم الغد، أو النظام العالمي الجديد هو خلاصة فلسفة «ولز» التي دأب على نشرها في السنوات الأخيرة، وهي فلسفة تدور في جملتها على محور واحد قلما تعدوه، ونعني به مستقبل النظم الحكومية والمبادئ الأخلاقية في العالم الذي نرجوه: عالم الحضارة والسلام.
وهذا الكاتب العالمي — ولز — من أكفأ الكتاب لخوض هذه المباحث والإجادة فيها؛ لأنه عاصر الحوادث الكبرى في التاريخ الحديث، ونظر إليها بعين الفتى ابن العشرين وعين الرجل ابن الأربعين وعين الشيخ ابن السبعين والثمانين، واستعد لفهمها بثقافة علمية طويلة مشتركة في كثير من العلوم الطبيعية والمعارف التاريخية والفلسفية، فاطلع على الكيمياء واستمع إلى العلامة الجليل الأستاذ هكسلي الكبير في علم الحياة، وساهم في الصناعات الآلية، ومارس النقد والقصة والتاريخ، وطُبِع على حب الخير لبني الإنسان وكراهة البغاة والمتجبرين، وصعد في سلم المعيشة من طبقة الطفل ابن بائع الصيني الفقير والخادمة الوضيعة إلى طبقة السراة الذين يحسبون دخلهم بعشرات الألوف.
قيل إنه تنبأ بصنع الدبابة قبل الحرب العالمية الماضية بأكثر من عشر سنين، وقيل إنه صاحب الفضل — أثناء تلك الحرب — في اختراع وسيلة النقل التي عرفت باسم التلفراج، وقيل إنه عاون حكومته بقدرته الفنية كما عاونها بقدرته الكتابية، ولكنه في نبوءاته العلمية أو تحقيقاته الصناعية لا يتجاوز مرتبة الصانع الماهر والمخترع الناجح، وليست به حاجة إلى أكثر من رسم «تصميم» الآلة المخترعة لتصبح النبوءة عنها في حكم الواقع الملموس ولا تبقى منه بقية للمشاهدة العيانية غير التنفيذ.
أما النبوءة في مستقبل النظم السياسية والمبادئ الأخلاقية في عالم الغد فتلك هي المرتبة التي لا تسمو إليها كل نفس ولا يحيط بها كل خيال، ولا بد لها من خصال روح ومدارك عقل ومزايا خلق ومثابرة جهد لا تتهيأ لغير الصفوة المختارين من الدعاة والمرشدين.
كذلك لا يُفهَم من خدمة «ولز» لحكومته في الحروب العالمية أنه من جملة أولئك «المستخدمين» السياسيين الذين تستغرقهم مصلحة الدولة، فلا تدع فيهم فضلة لخدمة «النوع الإنساني» كله، أو خدمة العالم على اختلاف أجناسه وأقوامه، فإنه لما حِيل بينه وبين التصريح بآرائه الجريئة خلال الحرب العالمية الماضية لم يحفل بالرقابة المضروبة على الأقلام، ولا بالعقوبة التي تصيبه كما أصابت غيره من أحرار المفكرين، وأقدم على طبع كتابه عن الحرب والمستقبل غير مكترث بأوامر الرقيب، وهي مجازفة في البلاد الإنجليزية قد تسقط بالكاتب إلى الحضيض، ولكن الرجل قد جرى فيها على شنشنة معروفة فيه، وهي تقديس حرية الرأي في كل وقت وكل حالة، وعلى الرغم من كل خطة وكل ضرورة، والإيمان بأن هذه الحرية هي ضمان السلم والتقدم في عالم الغد المنشود.
ويتنبأ «ولز» — أو يرجو على الأصح — أن يصير العالم على نظام متَّحد في الحكومة لا تجور فيه دولة كبيرة على دولة صغيرة، وأن هذا النظام «سيتم خطوة خطوة هنا وهناك» كما قال في الكتاب الذي نحن بصدده، كيف؟ قال: «كما تم ابتداع الطيران، وكما تمت إلى الآن منظمات عالمية كاتحاد البريد والصحة البحرية ومقاومة الرقيق والتعاون البوليسي وجماعات الصليب الأحمر وما إليها»، أو كما قال في تاريخه الموجز للعالم: «ربما تنبهت الدنيا يومًا، فإذا هي محكومة من حيث لا تشعر في الشئون المشتركة بينها كما تحكم المنظمة الواحدة، وهي مع ذلك يعز عليها أن تدرك أن حكومة عالمية قائمة …»
ولا يعتمد ولز على تدبيرات الساسة وإجراءات الحكومات كما يعتمد على التعليم والدعوة الروحية أو الفكرية، ويشمل بالتعليم أمم آسيا التي يحكمها المستعمرون، فيقول عن هذه الأمم: «إن عددًا كبيرًا من هؤلاء الناس لهم أذهان كالأذهان الأوروبية المتوسطة أو خير منها، وإنك لتستطيع في جيل واحد أن تثقف العالم كله إلى مستوى خريج كمبردج — وهو ليس بالمستوى الشامخ جدًّا — إن كان لديك ما يكفي من المعاهد والأجهزة والمعلمين»، ثم يتساءل: «لمَ لا نقرر أن الاتحاد حيثما امتد يعني تعليمًا قويًّا جديدًا في البنغال وفي جاوة وفي حكومة الكنغو الحرة، كما في تنيسيا أو جرجيا أو إسكتلندا أو أيرلندا؟! لمَ لا نُقِلُّ بعض الإقلال من التفكير في التحرير التدريجي بالتصويت وتجارب الاستقلال المحلي وما إليهما من الأفكار القديمة؟ ونكثر بعض الإكثار من تحرير العقل، لمَ لا نترك هذه الشقشقة القديمة عن الشعوب التي لم تنضج سياسيًّا؟»
ولا يفصل ولز بين التقدم السياسي والتقدم الاقتصادي في التوجه بالأمم إلى هذه الغاية المرموقة من الوحدة العالمية، ولكنه لا يبالي بوحدة العملة كما يبالي بوحدة المعيشة ووحدة التربية؛ لأنه لا قيمة للنقد ولا معنى لتوحيده إن لم يكن عنوانًا على معيشة واحدة أو نظرة واحدة إلى أغراض الحياة وخيراتها ووسائل المتعة فيها.
ولن تنجح هذه الوحدة ما لم تقم على الاعتراف بحقوق الإنسان بغير تمييز بين العقائد والأجناس والألوان، وهي تتلخص في: حق الغذاء، والكساء، والعناية الطبية، والتعليم الكافي، وحرية الاشتغال بالصناعات، وحرية المعاملة، وحماية النفس والملك، وحرية الانتقال في أنحاء العالم، ومنع السجن إلا لجريمة، ومنع التجنيد وما إليه إلا بالاختيار.
ويعتقد «ولز» أن الثورة لازمة للتقدم في هذه الوجهة الإنسانية الشاملة، ولكنها ثورة من نوع غير نوعي الثورة اللذين عرفهما البشر فيما مضى، ويسميهما بالثورة الكاثوليكية والثورة الشيوعية؛ لأن الثورة الأولى تقترن بتاريخ الأمم الكاثوليكية أو التي تجاهد مع الكنيسة، كثورات فرنسا وإسبانيا والمكسيك وأمريكا الجنوبية؛ ولأن الثورة الثانية هي وليدة المؤامرات أو التنظيمات العرضية التي تدل على تطور باطني يتناول ضمير الإنسان ويرتفع به في مدارج الأخلاق والآداب.
وإنما ثورة ولز ثورة صاعدة يقوم بها أوفر الناس نصيبًا من الثقافة والبواعث الخلقية والقدرة على التوجيه والإيحاء، وتنبيه الهمم إلى التشبه والاقتداء.
ومن أساليب التعليم اللازم لتحقيق هذه الثورة تحقير من تعود الناس أن يعظموهم من السفاحين والطغاة المعتدين، وهو لا يصطنع الكذب لإقناع الناس بحقارة هؤلاء «الأبطال» المقدسين؛ لأن الوقائع التاريخية كافية لتمثيلهم أمام الناس في الصورة المزدراة، فلم يكن لهم نصيب عظيم من العقل أو الملكات الذهنية، وأعجب من ذلك أنهم لم يكونوا على نصيب عظيم من الرجولة، على خلاف ما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، فالإسكندر كان له عاشقون، ويليوس قيصر كان يُقال عنه: إنه رجل كل امرأة وامرأة لكل رجل، والزأريوس كان يسعى إلى الدير ليخرج منه فتى كانت زوجته تهواه، ونابليون كان في حياته الشخصية كما يعلم قراء تراجمه الخفية، وكان بعد موته موضع العجب بين المشرحين لفرط المشابهة في تكوينه بين جسده وأجساد النساء.
وقد حرص ولز في تواريخه العالمية على تمثيل هؤلاء «الأبطال» في صورتهم الصحيحة، لتذهب عنهم تلك الهالة الكاذبة التي تغري الناس بسفك الدماء أو تعظيم من يسفك الدماء، ومما توخاه في ذلك أن يفرق الناس بين القدرة على التعمير والقدرة على التدمير، وأن يبطلوا الإعجاب بالطغاة من طريق الإعجاب بالقوة والجبروت؛ لأن الطغاة في الواقع أصحاب مزاج خاص يرشحهم لتلقي الصناعة الممقوتة، وليس من اللازم أن يكون ذلك المزاج مقرونًا بالبأس والفحولة والاقتدار.
أما الدواعي الفكرية التي تدعو الكاتب الكبير إلى انتظار هذا التغيير العالمي، فهي من قبيل النتائج المحتومة لا من قبيل الأماني والأحلام؛ لأن المخترعات الحديثة قد ألغت المسافات والأبعاد، فأصبحت العزلة والتحصن وراء الحدود ضربًا من المحال، ومتى زالت الحدود على الأرض فلا سبيل إلى بقائها في عالم النظم السياسية: كان ذلك ممكنًا في عهد الحصان والسيف والقوس والبندقية، ولكنه لا يمكن ولا يدوم طويلًا إن أمكن في عصر الطيارة والكهرباء ومحدثات العلم التي أوشكت أن تسبق الخيال بالعيان.
وإلى جانب هذه الغير العلمية تندفع البواعث البيولوجية بالعالم إلى حالة غير حالته اليوم وغير حالاته فيما تقدم من أطوار التاريخ؛ لأن نشوء الملايين من الشباب القلق الذي يواجه معضلات الكون وينتظر عليها جوابًا غير تلك الأجوبة المسكتة التي كانت تريح عقول الآباء والأجداد هو الحافز «البيولوجي» الدائم إلى التغيير في هذا الاتجاه؛ لأن الفشل قد صحب القادة والزعماء الذين يصرون على بقاء الدنيا كما كانت عليه في مشتجر المطامع والخصومات، ولن يفلح هؤلاء القادة في اجتذاب القلوب إليهم بدعوة قائمة على بقاء القديم في السياسة أو الاقتصاد أو الأخلاق.
وليس ولز شيوعيًّا ولكنه اشتراكي من أنصار الأعمال الجماعية التي تحد من حرية الفرد في الاستغلال، ولا تحد من حريته في التثمير والإنتاج، وليس هو «ديمقراطيًّا» من أشياع النظم البرلمانية التي تحتكر الحزبية وأساليب الانتخاب، ولكنه يفضل على أساليب الانتخاب التي تشيع اليوم بين الأمم الديمقراطية أساليب التمثيل النسبي وما يتبعها من فسح المجال أمام فريق جديد من العاملين في السياسة غير فريق المحترفين والدعاة المشعوذين.
ومن تعريفاته للملكية والاشتراكية في كتبه المختلفة يُخيَّل إليك أن الكاتب عربي أصيل ينقل المصطلحات من لسان العرب أو القاموس المحيط، فليست الاشتراكية في جوهرها عنده إلا نقدًا مختلفًا لنظام الملكية أو نظام الامتلاك كأنه ما كان، وليس الامتلاك من مخترعات الطبقات الاجتماعية كما يقول الشيوعيون؛ لأن الملك في حقيقته هو كل ما يدافع عنه الإنسان أو الحيوان، وهذا هو معنى الحوزة أو الحمى أو الحرم أو الذمار كما تعرفه لغة الضاد.
قال عن روسيا وستالين: «كانت الثورة كغيرها من ثورات الذين لا يملكون منذ فجر التاريخ، استولت فيها عبادة الأبطال على الجماهير الهائجة، ولم يكن بد من ظهور زعيم … وما انقضت عشرون سنة حتى أخذوا يعبدون ستالين، وكان في الأصل رجلًا ثوريًّا على شيء من الأمانة، طموحًا غير عبقري … وتتم الدورة فلا تجد تغييرًا ما، كما هي الحال في كل ثورة جموح أخرى، فقد زال عدد كبير من الناس وحل محلهم عدد كبير آخر، وكأن روسيا تعود أدراجها إلى النقطة التي بدأت منها، أي: إلى استبدادية وطنية: جدارتها محل شك وغايتها مبهمة غير محدودة، وأنا أعتقد أن ستالين رجل أمين صادق النية، وهو يؤمن بالجماعية في بساطة ووضوح، ولا يزال يؤمن بأنه يقصد الخير لروسيا والشعوب التي تقع تحت سلطانها، وبلغ من اعتداده بنفسه، أنه لا يصبر على نقد أو معارضة، وقد لا يكون خلفه مثله استقامة أو عدم تحيز.»
وما اقتبسناه هنا هو مثل صالح لعبارة الكتاب كما ترجمه إلى العربية الأديبان الفاضلان الأستاذ عبد الحميد يونس والأستاذ حافظ جلال مترجمًا، دائرة المعارف الإسلامية، وراجعنا فقرات منه على النسخة الإنجليزية فألفيناها على جانب من الدقة وأمانة النقل والأداء، مع سلاسة في اللفظ وصحة في اللغة، وكل ما يُلاحَظ عليه سهوات أو هنات متفرقات بين صفحات لا تخل بجوهر معناه، ولا تحول بين الكاتب العربي وبين النفاذ إلى اللباب الذي تضمنته النسخة الإنجليزية، كما جاء مثلًا في الصفحة التاسعة وتكرر في صفحات أخرى؛ حيث يقولان: «وليست هناك ثمة حاجة» وثمة بمعنى هناك، أو حيث يقولان في الصفحة الأربعين: «ويجد أمثال فرنكلين روزفلت أنفسهم مشرفون» … وهو سهو ظاهر، أو حيث يقولان: «ولم يكن عند ألمانيا من الصناعة ما عند الناطقين بالإنجليزية فطمحت إلى الجوزاء» ترجمة لما جاء في الأصل؛ حيث يقول الكاتب: «وطمحت إلى مكان في الشمس، إلى حيز تعيش فيه» والمعنيان مختلفان، أو حيث يقولان صفحة ٦٤: «وكلما زاد سلطان الحكومة كلما اشتدت الحاجة»، ولا موضع لكلما الثانية في الجملة.
وهذه كلها — كما أسلفنا — من قبيل السهوات والهنات، ولا غضاضة منها على العمل النافع الذي أسدياه إلى اللغة العربية في أوانه؛ لأن البحث عن عالم الغد باب لم يُطرَق عندنا في أذهان أكثر الكُتَّاب فضلًا عن أذهان أكثر القُرَّاء، ولو عُنِينا به حق عنايته لوجب أن يكون لدينا في موضوعه عشرات من الكتب المترجمة وعشرات مثلها من الكتب المبتكرة على حسب ما عندنا من الأحوال العالمية؛ لأننا نحب أن نصل إلى عالم الغد عاملين مؤثرين لا تابعين متأثرين، ونحب أن نسبقه بالتفكير والتدبير ولا ننتهي إليه لاحقين متخلفين مدفوعين مع الزحام كأنما نُساق إليه مُسخَّرين منقادين، فترجمة هذا الكتاب في هذه الأيام عمل مشكور «وفرض كفاية» كما يقول الفقهاء حين يميزون بين درجات الفروض، ولكنه جدير أن يعلمنا أن النظر إلى عالم الغد فرض عين لا يسقط عن شرقي أو عربي في هذا الزمان.