الكُتبُ بين الإهْدَاء والشِّراءِ
كان الدكتور شبلي شميل — أول من بشَّر بمذهب داروين في اللغة العربية — طبيبًا يعالج المرضى ويشتغل بالمباحث الفكرية والاجتماعية، ويميل من مذاهب الاجتماع إلى مذهب المعتدلين من الاشتراكيين.
وكانت عيادته لا تعمل؛ لأن المرضى كانوا يتجنبونه ويعتقدون أن الله لا يشفي مريضًا على يديه؛ لاشتهاره بالكفر والإلحاد.
وأراد أن يطبع مجموعة رسائله ومقالاته فلم يستطع؛ لأنها كانت تقع في مجلدين ضخمين، فاكتتب له بالمبلغ اللازم بعض المعجبين به، وشاء الرجل أن يعلن جميلهم، فنشر أسماءهم في ذيل المجلد الأول ومعها بيان ما تبرعوا به من كثير أو قليل على السواء.
وأعلن أن ثمن المجلدين معًا مائة قرش.
فاستعظمت الثمن وكتبت إليه بين الجد والدعابة أقول: إنه اشتراكي من طراز عجيب؛ لأن الاشتراكيين يستكثرون على الأغنياء احتكار المال، فإذا به يحتكر لهم العلم ويحرم منه كل من لا يستطيع بذل جنيه في كتاب، وهم ألوف وملايين.
فوقعت الدعابة من صاحبنا موقع الإقناع، وأرسل إليَّ الكتاب هدية بعنواني في أسوان، وأعلن في الصحف أنه قد خصص مائة نسخة من الكتاب لطلابه من فقراء القراء.
على هذا المبدأ — فيما أعتقد — يصح إهداء الكتب واستهداؤها: مؤلف لم يتكلف شيئًا في طبع كتابه، وقارئ لا طاقة له بشراء الكتاب، ففي هذه الحالة يحسن بالمؤلف أن يخصص من كتابه نسخًا للإهداء، ولا يُعاب على القارئ غير المستطيع أن يستهديه.
أما الأندية والجماعات فلا حق لها في استهداء كتاب على الإطلاق كائنًا ما كان ثمنه؛ لأن الجماعة أقدر من الفرد على الشراء؛ ولأن النسخة الواحدة يشتريها نادٍ من الأندية التي يختلف عليها العشرات والمئات من الأعضاء هي في الحقيقة خسارة على المؤلف؛ إذ كانت تقوم في النادي مقام مائة نسخة أو مائتي نسخة يشتريها آحاد متفرقون.
كتبت في هذا الموضوع منذ سنوات، وأثاره الأستاذ الصاوي في الأيام الأخيرة، ولا يزال على ما يظهر في حاجة إلى إعادة وإفادة؛ لأن الطلبات التي من هذا القبيل تُعاد في كل أسبوع.
ولو أنني أتناول هذا الموضوع لما يعنيني خاصة لاستطعت أن أجيب بكلمة موجزة تغني عن الإسهاب، كتلك الكلمة التي أجاب بها الضابط التركي حين حاكموه؛ لأنه لم يطلق المدافع تحية للأمير حين عبر بقلعته.
سألوه: لم قصرت في تحية الأمير؟
فقال: عندي أسباب كثيرة.
سألوه: ما هي؟
فقال: أولًا لم يكن في القلعة بارود.
قالوا: حسبك، فلا حاجة إلى بقية الأسباب.
وفي وسعي أنا أن أقول للأندية والجماعات — وقد قلت ذلك غير مرة — إنني لم أطبع منذ خمس عشرة سنة كتابًا على نفقتي، وإنما يتولى الناشرون طبع كتبي على نفقتهم، ولا يخصني من نسخ الكتاب إلا عدد محدود أحتفظ به لإعادة الطبع أو للإهداء إلى زملائي الذين يهدون إليَّ ما يؤلفون.
ولكن الموضوع جدير بأن يُتناوَل من غير هذه الوجهة، ولا حاجة بي أن أقول: إنني — مع ما قدمت — أهدي ما أستطيع إهداءه لمن لا يستطيع شراءه، فليس المهم في هذه المسألة بضع نسخ تُهدَى أو لا تُهدَى وتُشترَى أو لا تُشترَى، وإنما المهم ما وراء ذلك كله من الدلالة على قيمة الثقافة أو قيمة المطالب الفكرية في البلد وهي شيء جدير بعناية الكتاب والقراء.
لو كانت المطالب الفكرية دخلت عندنا في حساب الضروريات التي لا غنى عنها لنظر الناس إلى استهداء كتاب كما ينظرون إلى استهداء رغيف أو ثوب أو طربوش، وهم يأنفون من استهداء شيء من هذه الأشياء.
ولكن المطالب الفكرية لا تزال بين الكثيرين منا معدودة من النوافل التي لا يعيبك أن تقصر في اقتنائها.
فأنت تملكها أو لا تملكها، وتستهديها أو لا تستهديها، فليس في ذلك ما يُلاحظ وليس فيه ما يُعاب.
إنك تلمح هذا في كثير من العادات التي تشمل الأغنياء والفقراء.
دخلت بعض القصور التي بُنِيَتْ في الريف على أحدث طراز، فلم أجد فيها مكانًا للمكتبة، وفي بعضها مع ذلك مكان للصور المتحركة.
وسمع الناس أن أديبًا باع كتابًا ببضع مئات من الجنيهات ففغروا الأفواه دهشة واستعظامًا، وقد سمعوا في المجلس نفسه أن مغنيًا تناول ثلاثة أضعاف ذلك المبلغ من أجل أنشودة في رواية سينمائية فلم يستغربوا خبر الغناء كما استغربوا خبر التأليف!
وقد يبدو لنا — حتى من الناشر الجاهل وهو يعيش من الكتب ويقتني منها البيوت والضياع — أن تأليف الكتب عمل ليس له حقوق، وأن المؤلف لا يحق له أن يربح من كتبه ما يقيم أوده، فإذا تبيَّن له أن مؤلفًا يتطلع إلى حصة من الربح تساوي حصته، دخل في وهمه أنه مغبون وأن ذلك المؤلف يختلس منه حقه ويشتط عليه في طلبه، وهو على أية حال لا يصنع للكتاب شيئًا غير أن يعرضه لشاريه أو يرسله إلى طالبيه.
وحتى الساعة لم يُوجَد في الشرق العربي كاتب واحد يستطيع أن يتَّخذ من تأليف الكتب صناعة مستقلة عن غيرها، وقد وُجِد في الأقطار الأوروبية مئات من الكتاب يؤلف أحدهم كتابًا في كل سنة أو في كل سنتين، ويعيش من بيعه وترجمته عيشة الموسرين، بل عيشة كبار الموسرين.
فالمسألة هينة إذا نظرنا إلى عدد النسخ التي تُهدَى أو تُستهدَى، ولكنها ليست بهينة إذا نظرنا إلى دلالتها على قيمة المطالب الفكرية في بلادنا، وعرفنا منها أن هذه المطالب لم تدخل بعدُ عندنا في حساب الضروريات.
إن الكتب يجب أن تُنشَر بين الأغنياء والفقراء، ولكن من هو المسئول عن نشرها؟
ليس المؤلف بطبيعة الحال؛ لأنه لا يعيش من كتبه فضلًا عن أن يتبرع منها بما فوق الحاجة.
وإنما المسئول هو الدولة أو الأمة بجميع طبقاتها.
فعلى الأغنياء أن يتبرعوا بشراء الكتب وهبتها للمكتبات الشعبية، وعلى مجالس الأقاليم أن تفتح من المكتبات العامة ما تستطيع.
وإذا جاء اليوم الذي تشيع فيه القراءة بين جميع الطبقات، فيومئذ يُطبَع من الكتاب الواحد طبعة غالية وطبعة أو طبعات رخيصة، ويستطيع القارئ أن يقتني النسخة إن شاء بمائة قرش، وأن يقتنيها من الكتاب نفسه إن شاء بقروش أو مليمات.
وتحقيق هذه الأمنية لا يتطلب من أحد في الشرق العربي أكثر من أن يُذكَر، وهو يلمس رأسه أنه يطالبه بشيء في داخله، وأن مطالبه كلها لا تنقضي إذا تكفل له بعمامة أو طربوش أو مشط أو عدة حلاقة أو قرص أسبيرين.