التعليمُ عِنْد العَرب
كان التعليم عند عرب الجاهلية يجري على سُنَّة الفطرة الأولى، وهي أن يتلقى الأبناء عن الآباء ما يحتاجون إليه من الصناعات والمعارف، سواء في معيشة المجتمع أو في المعيشة البيتية، فكانوا يتعلمون الفروسية وما تشتمل عليه من ركوب الخيل والمصارعة واستعمال السلاح وبعض الألعاب الرياضية، ويضيفون إلى العلم بالفروسية علمًا آخر بشئون الثقافة التي كانت مُيسَّرة في ذلك الزمان، وهي تتلخص في رواية الأخبار وحفظ الأشعار والدراية بالأنساب والأمثال، مع طرف من العلم بالنجوم والأنواء ودلالات الطريق.
ومن سروات القوم من كان يصحب أبناءه في قوافل التجارة حين يبلغون أشُدَّهم ويتهيأون للاستقلال بالمعاملات التجارية وتصرف الأموال، ولا يندر في هذه الحال أن يعلموهم الكتابة والحساب.
أما الأعمال البيتية كالنسج وعلاج الألبان وصنع الخبز والطعام ونصب الخيام، فما كان منها من عمل الرجل أو النساء تعلمه الأطفال على السواء في أحضان الأسرة على ذلك الأسلوب الفطري، وكان مُعوِّلهم في تعلمه على المشاهدة أو التدرب والمحاولة المتكررة، كما يتعلم صبيان الصناعات في قرى الريف إلى هذه الأيام.
ولما عرفوا حياة المدن درجوا على عادة تنم على الحصافة وبعد النظر في تقويم أبدان الناشئة وخلائقها واستدامة الصلة بين روح البداوة وروح الحضارة العربية، وهي إرسال الأبناء في سن الطفولة إلى الصحراء ليتعودوا فيها مقاومة العناصر الجوية ومزاولة الصعاب ويتحرزوا بهذا الحرز الطبيعي من ترف المدنية ووباله على النفوس والأجساد، وطرأ بعد ذلك سبب آخر للمثابرة على هذه العادة إلى ما بعد أيام الجاهلية، وهو تصحيح اللسان من العجمة واللحن واستحياء خلائق المروءة العربية في الجيل الذي فارق الجزيرة إلى الأمصار القصية بعد الفتوح، ولم ينسَ أول خليفة أقام ملكه في الشام أن يرسل ابنه إلى باديتها ليتربى فيها على هذه السنة العربية العريقة، فنشأ يزيد بن معاوية مع أمه ميسون بنت بحدل الكلبية في صحراء بني كلب، وأخذ من الصحراء خير ما كان فيها، وهو الفصاحة وحب الصيد ورياضة الحيوان.
وكانت للعرب صناعات خاصة، كالشعر والكهانة والطب والعيافة والدلالة يتعلمونها كذلك على أسلوب النقل والتلقين، فالشاعر يتبعه الراوية ويحفظ عنه شعره وشعر غيره ثم ينظم هو الشعر حين يقدر على نظمه، والكهَّان والأطباء والعيافون والأدلاء يصحبون أبناءهم وذويهم ليدربوهم ويزودوهم بأسرارهم، ويتركوهم من بعدهم خلفاء لهم على ذلك الميراث.
وربما اجتمع تعليم الحرب والأدب في أستاذ واحد كما يؤخذ من هذين البيتين:
أو ربما تعلم الولد في أحضان الأسرة كل هذا أو معظم هذا كما يُؤخَذ من هذين البيتين:
ولم تزل هذه طريقة التدريب والتنشئة في الصحراء من أزمنة الجاهلية إلى الزمن الحديث.
ثم اتسعت الحضارة العربية في الآفاق، وقصرت تلك الأساليب الفطرية عن الوفاء بحاجة الدولة إلى المتعلمين لهذه الصناعة، وهم درجات يمكن أن نحصرها في درجتين اثنتين:
أولاهما: تعليم الأطفال إلى السن التي يحفظون فيها القرآن كله أو بعضه، ويلمون فيها بقواعد الكتابة والحساب، وكان ذلك موكولًا إلى أناس من الحفاظ يتوسطون بين مرتبة الأميين ومرتبة المثقفين، ولا يُحسَبون منهم في كثير من الأحوال.
ويرتقي الطالب من هذه المرتبة إلى ما فوقها، وهي مرتبة التوسع في التحصيل، أو مرتبة التخصص والاستقصاء، وينشدها الطالب في حلقات الدرس العامة، وأكثرها في المساجد التي يجلس فيها الأساتذة لإلقاء دروسهم على كل من يحضرها، ويواصل حضورها على اختلاف موضوعاتها، من فقه ولغة وأدب ومنطق وطبيعيات ورياضيات، وقد كانت دروس الرياضيات والمنطق أيضًا مما يُلقَى في مساجد العبادة صدرًا من بداية الدولة الإسلامية، ثم عكف طلابها على بيوت أساتذتها أو على المدارس التي كانت تُفتَح للدرس دون العبادة، ولا سيما المدارس المقصورة على تخريج الأطباء.
ولا شك أن هذا «البرنامج التعليمي» العام قد صاحب الدولة العربية إلى العهد الأخير الذي أدركناه، ولا تزال بقاياه مشهودة في مصر وفي غيرها من البلاد الإسلامية، فلم تزل الحلقات والمكاتب المعروفة عندنا باسم «الكتاتيب» هي أماكن التعليم التي يؤمها الكبار والصغار منذ أوائل الدولة العربية إلى عهد قريب.
لكن الحلقات والمكاتب لم تستأثر بالتعليم كله في عصور الدولة العربية ولا سيما عصورها الذهبية، وإنما كانت هي مثابة «التعليم العام» المباح لكل من يحضره ويواصل حضوره، ووراء ذلك تعليم لا يُباح لكل طالب، ولا يحضره غير أهله في رأي أساتذته القادرين عليه، وهذا التعليم المضنون به على غير أهله قسمان: قسم يتصل بحكمة الدين، وقسم يتصل بالحكمة على الإطلاق، أو قسم المتصوفة وعلماء الكلام، وقسم الفلاسفة وعلماء الطبيعيات والرياضيات.
فالغزالي، وهو قدوة الأساتذة الأولين، يرى أن يقصر العلم في مسائل الكلام العويصة على صفوة المتعلمين الأطهار درجات بعد درجات، أو كما قال في كتابه إلجام العوام عن علم الكلام: «فقد خُلِق الناس أشتاتًا متفاوتين كمعادن الذهب والفضة وسائر الجواهر، فانظر إلى تفاوتها وتباعد ما بينها صورة ولونًا وخاصية ونفاسة، فكذلك القلوب معادن لسائر جواهر المعارف، فبعضها معدن النبوة والولاية ومعرفة الله تعالى، وبعضها معدن للشهوات البهيمية والأخلاق الشيطانية …»
والغالب في المتصوفة أنهم كانوا يمتحنون قدرة المريد على الوصول بما ينشده من معرفة «السر الأعظم» الذي يتوق إليه جميع الباحثين عن الحقيقة، فما دام مقصده منه قوة التسلط أو القدرة على تسخير العناصر المادية والإتيان بالخوارق فهو بعيد عن مرتبة الوصول، فإذا أنست نفسه إلى سعادة المعرفة لغير مأرب من هذه المآرب الجسدية، واكتفى من البحث بأن يعرف ليعرف، وأن يخلص إلى الحقيقة ليسعد بالخلوص إليها، فهو قد استغنى عن القيادة الروحية وبلغ الغاية التي لا يُفاجَأ فيها بإنكار تلك المطالب أو إنكار السعي إليها، ويومئذ لا يسوؤه أن يعلم كما علم الغزالي «أن الخلائق — وإن اتسعت معرفتهم وغزر علمهم — فإذا أضيف ذلك إلى علم الله سبحانه؛ فما أوتوا من العلم إلا قليلًا.»
وحجر الغزالي على التعليم بهذه القيود لا يُحسَب من الحجر الديني على العقول كما وهم بعض المتأخرين؛ لأن مذهبه في ذلك مذهب العارفين بعقول الناس من قديم الزمن، وفي طليعتهم سقراط أستاذ أفلاطون ومن بعده أرسطو وسائر حكماء اليونان، فقد كان سقراط ينكر الكتاب؛ لأنه علم مفتوح لمن يدرك ومن لا يدرك، ويؤثر التعليم بالاختصاص والانتقاء والاستبراء، ولم يكن بين الغزالي وفلاسفة الإسلام فرق يُذكَر في جوهر هذا المذهب؛ لأن أولئك الفلاسفة كانوا يدينون بقصر العلم على أهله وتخصيصه بمن هو قادر عليه، ونحسبهم على صواب فيما اعتقدوه من «إلجام العوام عن هذا المقام»، ولو كانت هناك وسيلة التمييز العامي الذي سيظل عاميًّا طول حياته لوجب أن يمتنع العلم عن العوام ولا يسمح لهم منه إلا بما هم مضطرون إليه قادرون على فهمه، ولكن المحظور في هذه المسألة آتٍ من صعوبة التمييز بين العامي بحكم البيئة والعامي بحكم الطبيعة التي لا تقبل التبديل، وربَّ رجل من سواد الناس يُفتَح له باب العلم فلا يقف فيه دون أقصى الغايات.
وإذا كان الغزالي قدوة الأساتذة الأولين، وهم المتصوفة وعلماء الكلام، فلعل الفارابي هو قدوة الأساتذة الآخرين، وهم الفلاسفة وعلماء الطبيعيات والرياضيات، وهو كالغزالي في تحريمه العلم الرفيع على سفلة الناس، وقد خطر له أن أرسطو كان يتعمد «الإغماض» تعمدًا لثلاثة أغراض، وهي: استبراء طبيعة المتعلم هل يصلح للتعليم أو لا يصلح، وأن تُبذَل الفلسفة لمن يستحقها لا لجميع الناس، وأن يُروَّض الفكر بالتعب في الطب.
وقد استوجب الفارابي على طالب العلم الرفيع أو الحكمة الخاصة دروسًا عددها «فيما ينبغي أن يقدم قبل تعلم الفلسفة»، ومنها الهندسة والطبائع والمنطق ورياضة النفس على حب الحق والأنفة من الشهوات، ومتى استعد بهذه العدة تهيأ له أن يبلغ «الغاية التي يقصد إليها في تعليم الفلسفة، وهي معرفة الخالق تعالى وأنه واحد غير متحرك، وأنه العلة الفاعلة لجميع الأشياء، وأنه المرتب لهذا العالم بجوده وحكمته وعدله، وأما الأعمال التي يعملها الفيلسوف فهي التشبه بالخالق بمقدار طاقة الإنسان.»
ولسنا نستوعب «برنامج التعليم» كله عند العرب بما قدمناه على وجه الإجمال.
ففي هذا البرنامج المطلق برنامج «مخصوص»؛ لأنه مُقيَّد بمطالب القصور والبيوتات من أعلى تلك المطالب إلى أدناها، وأقرب ما نشبهه به في عصرنا الحاضر هو «الدرس الخصوصي» الذي يستأثر به العلية ومن هم في حكم الحاشية والأعوان.
ويدخل في هذا البرنامج تعليم الملوك والأمراء والكبراء، وهو فن من التعليم له شروط ومؤهلات جمع زبدتها شهاب الدين بن محمد بن أبي الربيع في الكتاب الذي ألفه للخليفة المعتصم بالله باسم «سلوك المالك في تدبير الممالك»، وجاء فيه بما ينبغي أن يتعلمه الرئيس لسياسة نفسه وسياسة الشرفاء والرعية والعبيد، وقسم العمل على ثلاثة أنحاء، وهي: «سياسة الإنسان نفسه وبدنه، أي: سيرته في نفسه بالأعمال الصالحة، وسياسة المنزل، أي: سيرته مع أهله وماله وولده وعبيده، وسياسة أهل نوعه، أي: سيرته التي لا يستغني عنها ما دام حيًّا …» ثم أحصى فيه الصفات التي تُطلَب في الوزير مثلًا، وهي: «حسن العلم بالدين، وحسن العقل، والحلم، وحلاوة اللسان، وبلاغة القلم، وكرم الأخلاق، وسهولة الحجاب، واعتقاد الخير، والصلاح، وقلة اللهو، وكتمان السر، وصحة الجسم، وجودة التفكير …»
وقد كثر عدد المعلمين الذين يستجيبون إلى مطالب القصور والبيوتات من أعلاها إلى أدناها، فكان منهم من يعلمون الجواري والوصفاء ويخرجونهم في فنون الأدب والموسيقى والمحاضرة وتربية الأبناء، ويغالون بأثمانهم على قدر حظهم من العلم والتدريب، وكان منهم معلمو الصناعات البيتية والدقائق الفنية التي لا تُرام في غير القصور والبيوتات.
وأهم من هؤلاء جميعًا أولئك المعلمون الذين يستعدون لتخريج أبناء السراة في كل ضرب من ضروب المعرفة التي تكمل بها مروءة الشرفاء، وكان لهؤلاء المعلمين فن يشبه فن التربية الحديثة والنظم «البداجوجية» فيما يُساس به الطفل، وما يُباح له وما يُحرَّم عليه، وما يُشجَّع به على التعليم، ويُبسَط له بعد إيجاز أو يُفصَّل له بعد اقتضاب، ويبدو لنا أن ما كُتِب عن فن التدريس باللغة العربية إنما كُتِب لهذا الطراز من المعلمين «الخصوصيين»؛ لأن طبقة المعلمين في المكاتب الشعبية لم ترتفع إلى هذا المقام من التخير والاصطفاء، ولأن العلماء أصحاب الحلقات لم يكن من شأنهم تعليم البيان، وقد وفى شرح هذا الفن في كتاب الباحث الفاضل الدكتور «أحمد فؤاد الأهواني» عن «التعليم في رأي القابسي» فهو أفضل المراجع العربية في هذا الباب.
وخلاصة ما يُقال عن التعليم عند العرب أنهم كان لهم تعليم يغنيهم ولا يقصرون به عن شأن حضارتهم، وأن منه ما هو أنفع من تعليمنا الآن، ونعني به تعليم الحلقات وتعليم الاصطفاء والاستبراء، فلولا أن تعميم التعليم فريضة من فرائض العصر الحاضر لكانت الحلقات أنفع من الجامعات، وكان استبراء المريدين أنفع من التخصص على النظام الحديث؛ لأن التعليم قبل كل شيء هو اتصال روح بروح واقتباس حياة من حياة، وليس هذا على أتمه بميسور مع التعليم الذي لا محيص فيه من بعض الآلية في النظام، وفي كل آلية جور على حرية الإنسان.