تَصَوُّفُ إقْبال … منَ الهندِ أو الإسْلام
اشتهر محمد إقبال باسم شاعر الإسلام.
واشتهر كذلك بالشعر الصوفي والبحث في الطرق الصوفية، ورسالته التي نال بها الجائزة مكتوبة عن الصوفيين الفارسيين.
وهنا محل التساؤل: هل استمد إقبال هذا التصوف من مصدر هندي أو من مصدر إسلامي؟ وهل أثر فيه ميراث الوطن أو ميراث العقيدة؟
والتساؤل هنا ضروري من وجوه متعددة، فإن المستشرقين مثلًا يزعمون أن التصوف غريب عن طبيعة الإسلام، ويخلط بعضهم بين الطبيعة العربية والطبيعة الإسلامية، فيقولون: إن سليقة العربي لا تقبل التصوف؛ لأنه نشأ في بلاد صحراوية تحت سماء صافية، بين مناظر مكشوفة لا تخفي عنه شيئًا، ولا تغريه بالغوص على سر من الأسرار.
فهي طبيعة حسية واقعية، وليست كطبائع الأمم التي تنشأ بين الغابات المتشابكة والأغوار السحيقة والجبال السامقة في جو غائم قلما يتكشف عما فوقه من الكواكب حتى الشمس والقمر!
ويخلط أولئك المستشرقون بين الطبيعة العربية والطبيعة الإسلامية، ثم يسيئون فهم الطبيعتين على السواء، فيستغربون ظهور التصوف بين الشعراء المسلمين، ويعللونه تارة بعلة الوراثة القومية، وتارة أخرى بالتعلم والاقتباس.
هذا سبب من أسباب التساؤل عن تصوف إقبال: هل هو من الهند أو من الإسلام؟
وسبب آخر لهذا التساؤل أن المعجبين به من المسلمين أنفسهم يريدون أن يضعوه في مكانة بين الدعوة الإسلامية والدعوة القومية، ويسألون: أي الدعوتين أغلب عليه، وأيتهما أقوى وأعمق في شعره وفي أعماله؟
وكيفما كان مفصل الرأي في الطبيعة العربية فالواقع المحقق أن التصوف ليس بالغريب عن طبيعة الإسلام، وأن المسلم يستطيع أن يستمد أصوله من آيات القرآن الكريم، قبل أن يلتفت إلى مصادر التعليم من الكتب الإسلامية الأخرى أو من الكتب الأجنبية.
فمن الآيات القرآنية التي تجمع التصوف في أصوله قوله تعالى: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. وقوله تعالى: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. وقوله تعالى: وَلِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ. وقوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وقوله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ.
وقصة موسى مع الخضر — عليهما السلام — هي خلاصة القول في علم الظاهر وعلم الباطن، وفي إعداد المؤمن المجتهد لفهم أسرار الأمور قبل الحكم على ظواهر الحياة.
وليس بالمسلِم من حاجة إلى مصدر للتصوف غير هذا المصدر الذي يرجع إليه كل يوم، ولا يحتجب بابه عن قارئ في كتاب الدين.
فهناك تصوف إسلامي أصيل، ولا غرابة في اشتهار إقبال باسم شاعر الإسلام واسم الشاعر المتصوف، فإن الإسلام والتصوف لا يتناقضان.
لكننا إذا سألنا بعد ذلك عن مصدر تصوفه، فأي المرجعين هو المرجع الذي نعول عليه، وما هي الشواهد التي نستشهد بها على طبيعة التصوف في شعر إقبال، بل في حياة إقبال؟
إننا لا نحتاج إلى شواهد الكتب، فإنها تضطرب في كل مضطرب، ولا تخلو هي نفسها من حاجة إلى إعادة هذا السؤال.
ولا نحتاج إلى إحصاء الطرق الصوفية في الإسلام وقبل الإسلام، فإن هذه الطرق لم تخلص قط من تعدد النشأة واختلاط الأمزجة القومية.
وإنما نحتاج إلى شيء واحد وهو تمييز التصوف بنوع من نوعيه المعروفين، وهما: التصوف الذي يرفض الحياة، والتصوف الذي يقبل الحياة، أو هو على الأقل لا يحسب رفضها شرطًا لازمًا من شروط الخلاص والنجاة.
فمما لا شك فيه أن التصوف الهندي يقوم على رفض الحياة وطلب الخلاص من دولاب الولادة والموت، وسبيل هذا الخلاص أن ينكر الإنسان جسده ويقطع نسله ولا يشغل باله بهمٍّ من هموم الحياة، بل يعتزلها بعيدًا منها ومن سائر الأحياء حيثما استطاع.
ومما لا شك فيه أن تصوف إقبال ليس من هذا القبيل، وأنه لا يقوم على نبذ الحياة ولا على إنكار الجسد ولا على ترك العمل والجهاد في المطالب العامة والخاصة، بل هو على نقيض ذلك قائم على مضاعفة العمل، ورفض العزلة والتواكل، والتسامي بالنفس عن منزلة القنوع والاستسلام.
وآراء إقبال مطابقة لسيرته الواقعية في فهم التصوف على هذا المذهب، فإنه يقول عن تصوف العزلة: إنه بدعة طرأت على الإسلام من بعض النحل الإيرانية القديمة، وإن البحث عن سر للحياة لا يعني رفضها والإعراض عنها، بل يعني أن نرتفع بها إلى غاية أكبر وأقدس من ظاهرها، وألا تكون شواغلها الظاهرة صارفة لنا عن حقيقة معناها.
هذه الصوفية هي «الصوفية الإقبالية» التي لا يطول البحث عنها في شعره ونثره ولا في سيرة حياته وسجل مساعيه وأعماله، فهو متصوف؛ لأنه يطلب للحياة سرًّا لا يراه طالبه من النظرة الأولى؛ وهو مسلم لأن السر لا يوجب عليه أن يعاف نصيبه من الدنيا ولا يكفه عن العمل، بل يطلب منه العمل الذي يراه الله والرسول والمؤمنون: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
وليس من مقتضى هذا العمل «إنكار الذات»؛ لأن قوة العمل قوة للعامل يحقق بها كماله كما يحقق بها الكمال في قومه ودنياه.
ولهذا كان «إثبات الذات» لباب الفلسفة الإقبالية، وكانت معرفة النفس سبيلًا إلى معرفة الله ومعرفة الكون، ورائد إقبال في هذا المذهب هو قول النبي ﷺ: «من عرف نفسه فقد عرف ربه.» وهو أصل من أصول الصوفية الإسلامية يُضاف إلى أصولها التي قدمنا أمثلتها من القرآن الكريم.
ولو أنصف الناقدون الغربيون إقبالًا لاعتبروه رائدًا من رواد الوجودية المتدينة؛ لأن كلامه المستفيض عن «أسرار الذات» أوفى من كل ما كتبه الوجوديون عن الذاتية، وسابق للكثير مما كتبوه وحاولوا أن ينشئوا به عقيدة جديدة، وما هو في صميمه إلا عقيدة المسلم إذا تصوف وتعبد لربه على المثال الذي اختاره إقبال.
ولقد بنى إقبال فلسفته الوجودية على الحب والفقر والشجاعة والسماحة، ولكنه فسر الفقر بقلة المبالاة بجزاء العمل، وقال عنه: إنه يجلب الإكسير إلى خلقة الطين والماء.
أما الحب عنده فهو الذي يعين على العمل بغير أمل في الجزاء.
إن لب الحياة مكنون في العمل، وإن الفرح بالخلق والإنشاء هو قانون الحياة، فانهضوا واخلقوا لكم دنيا جديدة، لفوا أرواحكم باللهيب، وليكن كل منكم كإبراهيم.
والكاتب الهندي إقبال سنغ يصفه، فيقول: «إن إقبالًا لم يكن — ولا هو يحسب نفسه — من زمرة المتأملين … وإنه لا يقنع بأن يترجم الدنيا ويفسرها حتى ينقحها ويغيرها.»
وقد صدرت أخيرًا في لندن مجموعة «فورستر» الكاتب الإنجليزي الذي اختبر الهند والشرق العربي عن كثب، وفيها فصل كتبه عن إقبال يقول فيه: «إنه كان مناضلًا وكان يؤمن بالذات، ويؤمن بها على اعتبارها وحدة تُنال، وليست فلسفته أسئلة عن الحقيقة، بل وصايا لمن يريد أن يعرف كيف يكون النضال في سبيلها.»
وفي ختام هذا الفصل يقول: «إن محمد إقبال عبقري ذو عبقرية آمرة، وربما خالفته أحيانًا حيث أوافق تاجور، ولكن إقبالًا هو الذي أوثر قراءته؛ لأنني أعرف أين أنا معه، وإنه لواحد من العلمين البارزين للثقافة الهندية الحديثة، وجهلنا به قد جاوز المألوف.»
نعم؛ قد جاوز الجهل بإقبال ما هو مألوف بين الغربيين في شأن أمثاله ونظرائه، ولكنهم اليوم قد أخذوا يقرءون عنه ويتساءلون: أين نحن منه؟ هل هو ظاهرة هندية أو ظاهرة إسلامية؟ هل هو قريب منا أو بعيد عنا؟
ونعتقد أن هذا التساؤل لا يطول بعد العلم بالقليل من أقواله وآثاره، وأن «عبقريته العلمية» قريبة إلى الذهن الأوروبي العامل، فلا يطول الزمن حتى يرى كل قارئ له من أبناء الغرب كما رأى فورستر «أنه يعرف أين هو من إقبال.»
أما المعجبون به من قراء العربية — وهم يزدادون يومًا بعد يوم — فلن يشق عليهم أن يضعوه في مكانه بين الدعوة القومية والدعوة الإسلامية، فإن أمة الباكستان هي بنشأتها وحدة قومية قامت على الدين، فلا تناقض في انتساب إقبال إلى الوطن وإلى الإسلام.
أما الرسالة الفذة التي انفرد فيها إقبال بمكان خاص بين المصلحين المسلمين فهي أنه أخرج الصوفية من حدودها الضيقة، فجعلها تشمل الأمم الإسلامية بأسرها، فليست هي طائفة هذا الشيخ أو صحبة ذلك الولي، وليست هي رياضة يرتاضها بينه وبين نفسه، ولكنها هي الطريقة الإسلامية التي تصلح لكل فرد مسلم ولكل أمة مسلمة.
وإذا سأل عن تصوفه: هل هو من الهند أو من الإسلام؟
فالجواب: إنه تصوف من الإسلام للإسلام، وأنه كاسم صاحبه تصوف الإقبال على الحياة وعلى العمل كما أُمِر به المسلمون وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَۖ.