الإنسَانيَّة في سِنِّ الرُّشد
نريد أن نستقبل هذه السنة الجديدة متفائلين … أترانا نريد ذلك لأن التفاؤل أحب إلى النفس الإنسانية وأقرب إلى هواها وأيسر لها من التشاؤم والشكاية؟
نشك في ذلك:
نشك في أن التفاؤل أحب إلى النفس الإنسانية من الشكوى والتذمر؛ لأن راحة الشكوى عند فريق من الناس على الأقل أقرب من راحة التفاؤل، إن كانت الشكوى تنفس عن صدورهم وترفع عنهم أثقال هموهم، وهي إلى جانب ذلك وسيلة لإعفاء النفس من تبعاتها وإلقاء التبعات على غيرها، سواء كان «الغير» ما يسمونه «بالدهر» ويصفونه بغدر الزمان، أو كان الغير المشكو منه إنسانًا من الناس.
والنفس تحب الشكوى بعد هذا وذاك؛ لأنها حالة سلبية لا تتطلب الجهد والكلفة، ولعلها في كثير من الأحيان بمثابة «اعتذار» للحياة بقلة الطاقة وقلة الإمكان!
التفاؤل واجب
فليس من الثابت أن التفاؤل أحب إلى الإنسان من التشاؤم، إذا كان التشاؤم يعطيهم حق الشكاية والاعتذار، ولسنا نريد أن نتفاءل في مطلع السنة الجديدة مجاراة للهوى وطلبًا للراحة في كل باب، بل يسرنا أن نقول إننا نتفاءل؛ لأن التفاؤل واجب، ولأننا نستطيع أن نعتمد فيه على أسباب صحيحة تزداد ظهورًا في عصرنا الحاضر، عامًا بعد عام، ولم تكن ظاهرة قبل هذه السنين الأخيرة من القرن العشرين فمن أسباب التفاؤل عندنا أن العالم الإنساني قد تقارب وتشابك حتى أصبحت العزلة فيه مستحيلة على الأقوياء والضعفاء، وعلى القريب في مواقع الكرة الأرضية والبعيد.
ومن أسبابه أن الأقوياء والضعفاء معًا قد أدركوا في هذا العصر حاجتهم إلى التعاون والاشتراك في الواجبات.
ومن أسبابه أن الاشتراك في الواجبات من شأنه حتمًا لزامًا أن يفرض على الموافقين والمخالفين ضرورة الاشتراك في الحقوق.
أهم سبب للتفاؤل
ومن أسبابه، بل أهم أسبابه، أن المشكلات الكبرى تثبت للأقوياء الأغنياء أنهم أحوج من الضعفاء الفقراء إلى طلب التعاون وإلى التفاهم على احترام الحقوق، فقد يستغني الضعيف عن معونة القوي في هذا الزمن قبل أن يستغني القوي عن معونة الضعيف برضاه.
وإذا وزنَّا الأمور بميزان السلم والحرب فليس في وسع أحد أن يتفاءل في زماننا حتى يجزم بابتعاد خطر الحرب، ويطمئن إلى دوام السلام، ولكننا نستطيع أن نجزم بالفرق الكبير في هذه المسألة بين الأمس واليوم … فمما لا شك فيه أن الحرب كانت «عملية» مكسبة للمنتصرين إلى زمن قريب، فلما جاء القرن الحاضر قلَّت مكاسبها وازدادت مغارمها، وكاد المنتصر يحمل فيها أكبر الغُرمين وأفدح الخسارتين.
هذه الأسباب صالحة للتفاؤل بحق، لا يستطيع ذو عينين أن يغمض عنه عينيه، وهي لا ريب تطور في الحياة الإنسانية جدير بالتسجيل والانتباه.
إن مشكلات العالم كثيرة
إن الأمم تختلف عليها وقلما تتفق على مشكلة منها.
إن الأمم المتحدة هي في الواقع «أمم غير متحدة» كما يقول الساخرون والمتهكمون وهذا كله صحيح، وسيظل صحيحًا في القرن الحاضر والقرن التالي والعشرة القرون التي تليه، وحسبنا هذا الآن فلا نقول في العشرين والثلاثين والأربعين.
مشكلات العالم ستزداد
ستظل مشكلات العالم كثيرة وتزداد كثرة.
ستختلف الأمم عليها ولا تتفق على معظمها.
ستبقى هيئة الأمم «غير متحدة» كما بقيت إلى اليوم كل مجموعة من آحاد الناس فضلًا عن الأمم والشعوب.
ولكن ليس المهم هو هذا في مقام التفاؤل والتشاؤم، وليس الأمل أن يتفق الناس على شيء فإنهم مختلفون ولا يزالون مختلفين!
وإنما المهم هو أن نسأل: ماذا يصنعون حين يختلفون؟ وما هي نتيجة الخلاف والاختلاف؟
كانوا يختلفون قبل مائة سنة أو مائتين فيعمد القوي إلى ابتلاع الضعيف بغير عذر ولا احتيال لمداراة عدوانه، بل مع الفخر والمجاهرة بالقدرة على العدوان.
فأصبحوا اليوم يختلفون ويلتمسون العلل والمعاذير من نصوص المعاهدات والقوانين.
أتراه فرقًا صغيرًا لا يغير ولا يبدل في حقيقة الواقع كما يزعم بعض المتخلفين؟!
كلا؛ ليس هذا بالفرق الصغير، وليس بين الهمجية الأولى والحضارة الراقية من فرق أكبر منه على جميع الاعتبارات، فإن القوي في أمم الحضارة لا يزال قويًّا ولا يزال قادرًا على أمور كثيرة يعجز عنها الضعيف، ولكننا نغتبط بالحضارة؛ لأنها تلجئه إلى الحيلة وتضطره إلى التذرع بالنصوص والأحكام، ولا تسمح له بأن يبطش بالضعيف وأن يغتصب منه حقه جهرة في غير مبالاة ولا اعتذار.
الفوارق بين الأقوياء والضعفاء
ولقد وُضِعت الشرائع وانتظمت المحاكم لتطبيقها، فهل نستطيع بعد ألوف السنين أن نزعم أن الفوارق بين الأقوياء والضعفاء قد زالت، وأن الاختلاف بينهم لا يجري اليوم ولا يجري غدًا إلا على شريعة الحق والإنصاف؟
ليس في الناس من يزعم ذلك، وليس في الناس مع هذا من يقول: إن بقاء الشرائع والمحاكم وزوالها يستويان.
وهذا بعينه ما يُقال، أو يصح أن يُقال عن الوسائل العالمية الحديثة التي تلجئ القوة إلى المداراة والاحتيال لتحقيق غاياتها، فإن هذه السوائل لا تبطل الفوارق بين القوة والضعف وبين القدرة والعجز، ولكننا لا نقول من أجل ذلك: إن وجودها وعدمها سواء.
إن التفاؤل نظر إلى الماضي قبل النظر إلى المستقبل، فلن يتعلم الإنسان كيف يتفاءل لو كان المستقبل هو كل ما ينظر إليه وكل ما يدخل في تقديره واعتباره.
فلنرجع بالنظر مائة سنة، أو نرجع به ألفي سنة، فنحن أقدر على الرجاء وأخبر بما نرجوه، ونحن إذن نتفاءل بحساب أو نتشاءم بحساب.
لو بُعِث سقراط
ماذا يقول سقراط إن عاد إلى الحياة؟
ماذا يقول إن علم أن دولة من الدول تملك القذيفة الذرية ولا يتأتى لها أن تستخدمها كما تريد، وأن تفرض بها إرادتها على من لا يملكها؟
مهما يكن المانع لها أن تبطش بهذا السلاح فهو مانع لم يكن له نظير في عهد سقراط.
لم تكن ظروف السياسة أو ظروف التجارة أو ظروف المعاملات على اختلافها مانعًا كهذا المانع قبل ألفي سنة، فإن لم يكن ذلك سببًا قويًّا من أسباب التفاؤل، فأسباب التفاؤل لعمري ماذا تكون؟!
ومن الواجب أن نذكر أن العلاقات السياسية ليست هي الألف والباء في الحياة الإنسانية، وأن ثقافة الإنسان ومعارف الإنسان وأشواق الإنسان تمضي في طريقها وتصنع الأعاجيب سنة بعد سنة وجيلًا في أعقاب جيل، وأنها على مدى الأزمنة ستفعل فعلها لا محالة في الإصلاح، وفي التطور والارتقاء، وأن الإنسان الذي خرج من ظلمات الوحشية جاهلًا بقوانين الطبيعة لن تكون الحضارة مقبرة له وهو يعرف تلك القوانين.
الإنسانية في سن الرشد
ونخطو خطوة أخرى مع التفاؤل فنقول: إن الإنسانية اليوم في سن الرشد، وإن أزماتها الروحية هي أزمات هذه السن كما تعودناها في سن النضج حيثما وصلت إليها بنية الكائن الحي، ولا سيما الكائن الحي من بني آدم وحواء.
وأزمات سن الرشد متعبة، ولكن من ذا الذي يرجع إلى الطفولة؛ لأنه يتعب من شبابه؟
تعب ولا جدال
ولكن الراحة ليست كل شيء، فكل قدرة يتغلب بها الكائن الحي على التعب هي أعز من الراحة وأنفس، وهي الأمل الذي نتعلق به مع الزمن وفي وجه الزمن، وهما مناط التفاؤل والرجاء.
أجل، وهي القدرة التي نلوذ بها في قرارة النفس البشرية وننظر إليها متفائلين قائلين في مطلع هذه السنة الجديدة: عام سعيد، وكل عام وأنتم بخير.