الوَعْي السِّيَاسي في البلاد العربيَّة
يُفهَم من الوعي السياسي معنيان: أحدهما يطابق معنى الوعي القومي أو الوعي الوطني، والآخر يطابق معنى الوعي الاجتماعي أو الوعي المدني.
أما الوعي القومي فلا شك أن نصيب الأمم العربية منه موفور منذ أقدم العصور، وهو في الغالب يقوم على عنصرين من العصبية وحياة الحرية، وقد كانت العصبية على أشُدها في أمة العرب الأولى، وهم أبناء الجزيرة العربية؛ لأنها كانت أمة قبائل تعتز بأعراقها وأصولها، وترى الكرامة كل الكرامة في المحافظة على أنسابها والغيرة على ذمارها، وقد كان العربي حرًّا في حله وترحاله، حرًّا في أقواله وأفعاله، يهيم حيث شاء ويقول ويفعل كل ما يشاء، ولا يحد من حريته إلا حرية الآخرين من أبناء الجزيرة، الذين يغارون على حقوقهم من الحرية كما يغار هو عليها.
وقد تمكن الشعور بالقومية في نفوس العرب لسبب آخر، وهو الحيوية القوية، فإن أول مظهر من مظاهر الحيوية في الفرد والأمة على السواء هو الثقة بالنفس والاعتداد ﺑ «الشخصية»، وقد كانت حيوية العرب في عهد فطرتهم سليمة لم تشبها عوارض الوهن والانحلال، وكانت حولهم أمم ذوات دول غالبة وسلطان شامخ، كالفرس والروم والأحباش، فإذا اعتز العربي بشأنه بين تلك الأمم فهو لا يفاخرها بالدولة؛ لأن دولاتها أعظم من دولته ولا يفاخرها بالغنى، فإن أموالها أوفر من أمواله، ولا يفاخرها بالحضارة، فإن نصيبها من الحضارة أوسع من نصيبه، ولكنه يعوض ذلك كله بفخر العنصر وعزة القومية، فهو عنده كفاءة مجد الدولة ومجد الثروة ومجد الحضارة، فلا جرم يفرط في الاعتصام به وهو يريد أن يعلو بينها، ولا يريد أن يستكين.
وبلغ من اعتداده بهذا الفخر أن بعض الأكاسرة أراد أن يصهر إلى أحد أمراء الحيرة — وهم خاضعون لعرشه — فأنف أن يقبل مصاهرته، وقال تلك الكلمة المشهورة: «أليس له في مها العراقين ما يغنيه؟» وهي غاية في النخوة القومية لا تتجاوزها غاية بين القديم من الأجيال البشرية والحديث.
كان هذا والعرب في جاهليتهم لا ثروة لهم ولا صولة بين الدول الكبرى، فلما قامت لهم بعد الإسلام دولة أضخم من تلك الدول تجاوزوا هم تلك الغاية التي لم يتجاوزها أحد غيرهم، وأضافوا عزة السلطان إلى عزة العنصر وعزة العقيدة، ثم تحركت الشعوب لمقاومة هذا السلطان الجانح، فقابلوها بعصبية أشد منها وأقوى، ولم تضعف هذه العصبية بعد ضعف الدولة وتفكك أوصالها؛ فإنهم عادوا إليها يعتصمون بها حيث لم تكن لهم عصمة سواها، فكان وعيهم السياسي بهذا المعنى على أتمه وأشده في جميع هذه الأطوار.
وليس يقدح في هذه الحقيقة أنهم خضعوا للحكم الغريب عنهم، كما حدث مثلًا في عهد الدولة العثمانية؛ إذ كان ذلك قد حدث يوم كانت جامعة الأمة وجامعة الدين شيئين غير منفصلين، وكان هذا التوافق بين الجامعتين أمرًا عامًّا بين أمم الشرق وأمم الغرب بلا اختلاف، وعلة ذلك — كما قلنا في كتابنا عن أثر العرب في الحضارة الأوروبية — «أنه لم يكن من الميسور أن تنشأ الوطنية بمعناها الحديث قبل القرن الثامن عشر، أو قبل الأطوار الاجتماعية التي تقدمتها، وكان ممهدًا لظهورها وانتقالها من حيز الغرائز المشتركة إلى حيز الصلات الروحية والثقافية التي ينفرد بها الإنسان في مجتمعاته؛ لأن هذه الأطوار كانت تناقض الوطنية في بعض الأحوال، وكانت تخفيها في أحوال أخرى، وكانت على الجملة خطوات سابقة لا بد منها قبل التطرق إلى الخطوات التي تليها، فكان لا بد من تطور عهد الإقطاع قبل شعور الإنسان بوطنه في نطاقه الواسع ومصالحه المتشابكة؛ لأن انتماء الناس إلى إقطاعات متعددة في قطر واحد يربطهم بضروب شتى من الولاء للسادة المتعددين الذين يسيطرون عليها، ويعوِّدهم ضروبًا من المخالفات والمخاصمات تتغلب فيها الزمرة والطائفة على الأمة والدولة نفسها في بعض الأمور، وكان لا بد من تطور الجامعة الدينية قبل الشعور بمعنى هذه الوطنية؛ لأن الإنسان يرضى في الجامعات الدينية أن يحكمه من ليس من أبناء وطنه لاتفاق الحاكم والمحكوم في العقيدة والمراسم الروحية، ويكره أن يحكمه من لا يدين بدينه، ولو كان من بلده وجواره، ولا يزال كذلك حتى يتعذر حكم الأوطان المختلفة بحكومة واحدة قائمة في مراكزها البعيدة عنها، لاختلاف المرافق واختلاف النظر إلى الحقوق والتبعات ونشوء الطبقات الاجتماعية التي تتنافس في الأوطان المتعددة، وإن جمعتها علاقة وثيقة واحدة.»
فالعربي الذي كان يدين بالطاعة للدولة العثمانية لم يكن يحسب أنه ينزل بذلك عن سلطانه، أو أن أحدًا غريبًا عن أمته يحكمه بشريعة غير شريعته وحق غير حقه، وهو إلى جانب ذلك كان يدين للحاكم العثماني من بعيد، ولا يشعر بسطوته في عقر داره؛ لما هو معلوم من عزلة الجزيرة العربية وقيام الولاة على أجزائها من أبنائها.
فلما اقترن ظهور الحركات الوطنية في العالم بانتشار الحكم في الدولة العثمانية، كانت أمم العرب من أسبق الأمم إلى الثورة وطلب الاستقلال أو التمرد على «النظام المركزي» في الدولة، وليست ثورات اليمن ولا ثورات النجديين بزعامة الشيخ محمد عبد الوهاب، ولا ثورات لبنان وسورية ومصر والسودان، إلا حركات قومية في الصميم، وإن لاحت للنظرة الأولى في صورة الشقاق المذهبي، أو صورة الانقضاض على الظلم والاستبداد، فقد كان حكم الدولة العثمانية للأناضول كحكمها لهذه الأطراف وما عداها، فلم يثُر أهل الأناضول كما ثار العرب؛ لأنهم تُرْك من عنصر الحاكمين، ليسوا أقوامًا آخرين غرباء عن أصحاب العرش والتاج، ولا يُقال في تعليل ذلك إن أهل الأناضول تجنبوا الثورة لقربهم من عاصمة الدولة ومراكز جيوشها، فإن الأكراد والأرمن والألبانيين كانوا يثورون بين حين وحين، ومنهم من يسكن بلادًا أقرب إلى عاصمة الدولة من أطراف الأناضول.
ولقد كان إبراهيم باشا عبقريًّا حصيفًا حين أحس أن هذه القومية الحية هي أقوى عماد له في محاولة الخروج من ربقة الأستانة، وسئل: إلى أين تمتد فتوحك؟ فقال: إلى حيث ينطق لسان باللغة العربية، وقد صحت فراسته في عصره بعشرات السنين، ورأينا بعد قيام الحكم الدستوري في الأستانة أن أمم العرب كانت أول المطالبين بتعميم اللامركزية في دولة آل عثمان.
من هذا العرض السريع لتاريخ القومية العربية نتبين قوة الوعي السياسي عند العرب بهذا المعنى، ونستبشر خيرًا بما يكون له من الشأن في صيانة حوزتهم وغيرتهم على حقوقهم وسعيهم إلى تثبيت قواعد الحرية في أوطانهم، وهي حديثة عهد بالاستقلال.
أما الوعي السياسي، بمعنى الوعي الاجتماعي أو الوعي المدني، فهو درجات بين أرقى أمم الحضارة، ويتوقف الارتقاء في هذه الدرجات على نصيب الفرد من المشاركة الفعلية في حكم بلاده، حتى تتفق مصلحته ومصلحة القانون، وتصبح أمانة الحكم حاسة فيه ينساق بها إلى المصلحة العامة، بغير سائق من نصوص الشريعة أو رهبة الحاكمين.
ولسنا نعتقد أن شعبًا من الشعوب قد بلغ في هذه «الحاسة» درجة أرفع من درجات الأمة الإنجليزية، وآية ذلك أنه لا قانون هناك ولا دستور إلا وهو مستمد من العرف والتضامن بين عناصر الرأي العام، قبل استمداده من النصوص والأوراق، ولم يكن الإنجليز كذلك؛ لأنهم جيل من البشر أرفع من سائر الأجيال، وإنما كانوا كذلك لظروف جغرافية وتاريخية هيَّأت لهم أسباب المشاركة الفعلية في الحكومة، ولم يتهيأ مثلها لغيرهم من أمم القارة الأوروبية، ومن هذه الظروف أن الملك في إنجلترا لم يكن بحاجة إلى جيش قائم كبير ينفق عليه ويستبقيه مستعدًّا للحرب على الدوام، فقد أغناه عن هذه الكلفة أن البحر يحمي جزيرته من مفاجأة أعدائها وأعدائه، فاكتفى بجيش قليل في العاصمة، يقابله جيش أصغر منه عند كل نبيل من نبلاء الأقاليم، ووجب عليه إشراك هؤلاء في الحكم والإدارة المحلية؛ لأن تسخيرهم بالقهر والتهديد غير مستطاع.
ومن هذه الظروف أن التجارة ضرورة من ضرورات الحياة في تلك الجزيرة فنشأت المدن التجارية إلى جانب المقاطعات الريفية، وعز على النبيل من أجل هذا أن يستبد بالتاجر، وعلى التاجر أن يستبد بالنبيل.
ومن هذه الظروف أن السياسة الخارجية في إنجلترا سياسة تضامن بين جميع الطبقات؛ لأن جميع الطبقات من أصحاب الأموال والعمال تعتمد على المعاملات الخارجية ولا تكتفي بمحصول الجزيرة من المزروعات أو المصنوعات.
فلهذه الظروف وأشباهها تم التوازن بين جوانب المجتمع، وتهيأت لكل طائفة من أسباب المشاركة الفعلية في سياسته العامة، وشعر كل فرد هنالك بأنه مسئول عن رأيه محاسَب على عمله، فأصبح الوعي السياسي بمعناه المدني أو الاجتماعي عادة في النفس تجري مجرى الغريزة في الحيوان، وأعجب ما بدا من وحي هذه الغريزة أو هذه البداهة، أن الإنجليز خذلوا «تشرشل» زعيم المحافظين غداة نهاية الحرب التي أكسبهم فيها النصر والسلامة، ولو فعلوا غير ذلك لوقعت الطامة الكبرى في البلاد؛ لأن اصطدام السياسة الإنجليزية بالسياسة الروسية قد يُفهَم على أنه مكيدة من رأس المال في مقاومة حقوق العمال، فينقلب العمال إلى جانب الشمال، ولكنه لا يُفهَم على هذا الوجه إذا وقع الاصطدام والعمال هم المسئولون عن العلاقات الأجنبية، كما هم مسئولون الآن.
حدثني رجل من رجال الأعمال الأذكياء عاد من إنجلترا في الأشهر الأخيرة، فقال: إن الحصول على جراية تزيد على الجراية المقررة من أصعب الأمور في المطاعم العامة، وقد يُوجَد هنا وهناك مطعم معروف غير مجهول يُباع فيه الطعام الزائد بثمن أغلى من ثمنه، ولكنك تذهب إليه فيندر أن ترى فيه أحدًا من الإنجليز، ويغلب أن يكون رواده جميعًا من الأجانب الطارئين.
وعندنا أن الحكومة ربما كانت تعلم بوجود تلك المطاعم وتبقيها عمدًا لاستجابة حاجات الأجانب الطارئين، وهم لازمون للبلاد في بعض الأحوال، فتبقيها لهم ولا تلجأ إلى القانون لصد أبناء البلاد عنها؛ لأن الحاسة الاجتماعية تعمل هنا عمل القانون!
ويذكرني هذا بفكاهة من فكاهات السياسي التركي «رضا توفيق» الذي اشتهر بلقب الفيلسوف، قال: إنه زار صديقه المستشرق «براون» وأحب أن يخرج يومًا للصيد، فنبهه صديقه إلى اجتناب بعض الطيور؛ لأن صيدها في موسم التناسل ممنوع، فلما ذهب يجول في الغابات والحقول ساء حظه في ذلك اليوم، وأشفق أن يرجع من رحلته فارغ اليدين، فأصاب طائرًا من تلك الطيور الممنوعة، وأشار إلى الكلب ليلحق بالطائر المصاب ويعود به إليه … قال: فأدهشني أن أرى الكلب واقفًا مكانه لا يتحرك؛ لأنه لا يريد أن يخالف القانون!
وهي مبالغة من مبالغات الفكاهة، ولكنها لا تخلو من دلالة على المعنى الذي أراده الفيلسوف الظريف.
ونحن — أبناء العربية — نغلو في الطمع إذا اشتركنا في حكوماتنا المستقلة بالأمس ورجونا أن تتحقق لنا اليوم تجربة لم تتحقق لغيرنا في أقل من مئات السنين، ولكننا لا نغلو في الطمع إذا قلنا إننا لن نحتاج إلى كل تلك السنين لنستفيد في الوعي السياسي من تجاربنا وتجارب غيرنا، إننا نثوب إلى النخوة القومية التي تأصلت فينا كما قدمنا، فتسعفنا بمدد منها، كلما نازعتنا مآرب الآحاد فأوشكت أن تذهلنا عن مصالح الجماعات.