الشُّعُوبيَّة
لكل زمن شعوبية تناسب الأمة التي تسود فيه.
وهي تنشأ كلما نشأت في العالم أمة لها دعوى تنفسها عليها الأمم التي تحيط بها، وتقابلها بدعاوى أخرى من عندها، كل على حسب تاريخها ونظرتها إلى نفسها.
فكانت في العالم «شعوبية» قبل أن تكون فيه دولة عربية.
وأصبحت فيه «شعوبية» بعد أن ضعفت الدولة وخرج عليها الخاضعون لسلطانها.
بل كان العرب أنفسهم «شعوبيين» في زمن من الأزمان قبل ظهور الدعوة الإسلامية، وكان ذلك في زمن الدولة الفارسية التي برزت بين الأمم في الرقعة الغربية من القارة الآسيوية، فكان من مزاعم الفرس يومئذ أنهم أهل السيادة بحق وجدارة، وأن غيرهم من الأمم خُلِقوا لطاعتهم والدخول في حوزتهم، فكان تقابلهم «شعوبية» من العرب واليونان والعبرانيين والآراميين.
فأما العرب فكانوا يقابلون فخر الفرس بفخر الفصاحة وعراقة الأنساب، وأما اليونان فكانوا يقابلونه بفخر العلم والحضارة، ويحسبون الفرس في عداد البرابرة، وأما العبرانيون فكانوا يقابلونه بفخر الدين والإيمان بالإله الحق، وأنهم هم شعب هذا الإله المختار، وأما الآراميون فكانوا يفخرون بأنهم علَّموا الفرس الكتابة، وأن حروفهم هي الحروف التي تُكتَب بها اللغة الفارسية.
وعاد العرب في زمرة الشعوبيين على عهد الدولة العثمانية، فإن هذه الدولة حكمت أممًا كثيرة من غير أصلها ولسانها، واستطالت على تلك الأمم بحق السيادة والسطوة العسكرية، وقابلها العرب بفخر الأمانة الأصلية وكرم الأسلاف وفصاحة اللسان؛ وقابلها رعاياها من الغربيين بفخر الأوروبيين في مواجهة الآسيويين، وربما كانت أوروبة كلها مجموعة شعوبية في مواجهة الدولة العثمانية؛ إذ كانت تجمعها كلها كلمة «الأجانب»، وكانت الامتيازات الأجنبية مظهر هذه الشعوبية من هذا النمط الجديد.
وعن الرومان أخذ اليهود والمسيحيون هذه التسمية، فأطلقها اليهود على جملة الأقوام من غير بني إسرائيل، وأطلقها المسيحيون على جملة الأقوام غير الإسرائيليين والمسيحيين، وكانت الكلمة التي أطلقها اليهود على أولئك الأقوام هي كلمة «جوييم» أي: الأقوام باللغة العبرية، ولكنهم استعملوا الكلمة الرومانية فيما كانوا يكتبونه باللغتين اللاتينية واليونانية.
ونحسب أن هذا التقسيم قريب إلى بداهة الجماعات من كل جنس وفي كل موضع، وبخاصة فيما قبل القرن العشرين، أو فيما قبل انتشار الدعوة العالمية، فمن عادة كل جماعة من الناس أن تنظر إلى نفسها كأنها وحدة قائمة بذاتها، وتنظر إلى غيرها من الجماعات كأنها وحدة أخرى؛ لأن الحقوق العامة كانت على الأغلب مقصورة على كل جماعة بين أبنائها، ولم تكن مشتركة متساوية بين الجماعات كافة.
هكذا رأينا الإنجليز يسمون أنفسهم أيام «عزتهم الفاخرة بأهل الجزيرة، ويسمون سائر الأوروبيين بأهل القارة».
وهكذا رأينا الأمريكيين يعممون الوحدة الأمريكية على العالم الحديث، ويحمونها في وجه العالم القديم كله بمذهب مونرو المشهور.
ومن طرائف هذه العادة الجماعية ما سمعته من شيوخ بلدتنا «أسوان» من أخبار تحصيل الضرائب قبل الثورة العرابية.
فقد كان الضغط على الموظفين في تحصيل الضرائب شديدًا متواليًا في تلك الأيام، فقسموا البلدة إلى قسمين: أهل البلدة، وهم متضامنون بينهم على حسب قبائلهم في سداد المتأخر عليهم من ضرائب الأرض والعقار، والطارئون على البلدة وهم متضامنون بينهم كذلك في موسم التحصيل.
واتفق أن يونانيًّا يُدعَى «مخالي» كانت عليه مخلفات من الضرائب المتجمعة، فضاق بسدادها وهرب من البلدة قبل موعد التحصيل بأيام.
وحار شيخ الحلة التي كان يسكنها مخالي فيما يصنع، فإنه لا مناص له من الإتيان بمخالي أو بمن ينوب عنه، أو تُؤخَذ الضريبة من ماله، أو يُعزَل من المشيخة بعد أن يستوفي نصيبه من السجن أو ضربات السياط.
فإذا به بعد أيام يدخل إلى ناظر القسم، ومعه شيخ عليه عمامة خضراء من أهل إسنا يسمونه بالحاج عثمان ويلقب نفسه بالشريف، وقال للناظر: هذا ينوب عن مخالي في سداد الضريبة المتأخرة عليه!
فلم يتمالك الناظر جهامته أن يستلقي ضاحكًا، ويسأله: وما الذي يجمع مخالي على «الحاج» الشريف؟
قال الشيخ بكل جد وبساطة: كلهم يا حضرة الناظر غرباء!
فهذه العادة الجماعية قريبة إلى بداهة الجماعات، فيما مضى على الخصوص، من غير تعمل ولا حاجة إلى دعوة أو إقناع.
ولم يكن من ثم عجيبًا أن تنشأ مع الدولة العربية «شعوبية» كالتي نشأت مع كل دولة أو مع كل أمة لها سيادة ولها منافسون على تلك السيادة من أبناء الأمم الأخرى.
فقد كان العرب أصحاب الدعوة الغالبة وأصحاب الدولة القائمة، وكانوا قبل أن يخرجوا من الجزيرة العربية ينافسون قبيلة قريش، وينكرون عليها أن تستأثر بالحكم في كل وظيفة والولاية على كل إقليم … فلما خرجوا من الجزيرة بطلت هذه المنافسة وحلت منافسة الشعوب المحكومة في محلها، وهي شعوب قديمة الحضارة عريقة الدولة من بقايا الأكاسرة والفراعنة والقياصرة، فكانت «الشعوبية» مظهرًا للمنافسة بين العرب وبين هذه الشعوب.
ومن عجائب أطوار الجماعات أن التشبع لآل النبي العربي — عليه السلام — كان أقوى ما يكون بين هذه الشعوب؛ لأنهم لا ينافسون العرب في الدين وإنما ينافسونهم في العصبية القومية، وكانت دعوة النبي ﷺ لا تفرق بين «العربي والأعجمي ولا بين القرشي والحبشي» إلا بالتقوى، فكانت الشعوبية تشددًا في تعزيز هذه الجامعة العامة، ولم تكن خروجًا عليها، إلا ما جاء منها عن سوء نية وتراءى بغير حقيقته لخداع العرب والشعوبيين على السواء.
وبلغت قوة الشعوبية غايتها في أيام العباسيين، وهم الذين تغلبوا على بني أمية باسم القرابة من النبي عليه السلام.
ففي أيام الدولة العباسية كان الشأن كله في الحكومة للفرس والديلم، وكانت مواسم الفرس وعاداتهم في المجالس هي معالم الحضارة الشائعة بين الطبقة الحاكمة ومن يقتدي بها في معيشته وزيه، وكان بنو طاهر — وهم الشيعة — يقولون إذا فاخرهم العرب: إن العربي لا يفلح إلا ومعه نبي، كأنهم لا يسلمون للعرب بفضل غير فضل النبوة والدعوة المحمدية.
وأوشكت الشعوبية أن تطوي فيها أناسًا من شعراء العرب الذين أخذوا بفتنة البذخ والعمارة، ولا نذكر منهم أبا نواس الذي كان ينعى على الطلول ولا ينعى الطلول كدأب الشعراء الجاهليين والمخضرمين، فإن أبا نواس صاحب نسب لم يصحح، وإنما نذكر البحتري الذي ينتمي إلى النسب العربي الصميم، ويقول مع ذلك في وصف إيوان كسرى:
وهكذا كانت العروبة والشعوبية في الدولة العربية أشبه شيء بالمنافسة بين أبناء الأسرة الواحدة، أو بين الوطن الواحد، وقلما خلا وطن من أمثال هذه المنافسات بين أبناء شماله وجنوبه، أو بين أبناء جباله وسهوله، أو بين أبناء حواضره وريفه: منافسات تُذكَر في معرض المفاخرة ولا تستفحل في معرض العداء والبغضاء، وما لم تعرض لها مطامع السياسة، فلا يكون شأنها في خدمتها أعجب من شأن هذه المطامع في التفرقة بين أبناء الجنس الواحد، وأبناء اللغة الواحدة، وأبناء الوطن الواحد الذي لا تباين في أصوله على الإطلاق.
ومضت الشعوبية لسبيلها بعد عهد الدولة العباسية.
مضت لسبيلها لأن العرب أنفسهم كما قلنا دخلوا في عداد «الشعوبيين» الذين ينكرون مع الأمم المحكومة سلطان الحاكمين عليهم بغير مشيئتهم.
وظهرت العروبة المستقلة في العصر الحديث بغير شعوبية قومية كانت أو سياسية.
لأن العصر الحديث كله ينزع منزعًا جددًا في تساوي الحقوق بين الجماعات، فلا تكون لكل وحدة جماعية حقوق تعترف بها لنفسها وتنكرها على الآخرين.
ولأن العروبة الحديثة عروبة شفافة مشتركة بين جميع الناطقين باللغة العربية، وليست عروبة جنس يحكم جنسًا، أو دولة تسيطر على رعية.
ومهما يبلغ من ولع أبناء العصر بثقافة الغرب، في وجه ثقافة العروبة، فإن الغرب لا يحسبنا منه، ونحن لا نحسب أنفسنا من الغرب؛ لأن ثقافته في هذا العصر تستهوي العقول وتستحق الدرس والاطلاع.
فإن كانت هناك شعوبية تواجه الأمم العربية في هذا الزمن الحديث، فهي شعوبية الطامعين في تلك الأمم كلها، وليست شعوبية أحد من الداخلين فيها والقائمين على أساسها، قيام المشاركة والمساواة.
لقد كان للشعوبية في العالم العربي معنى ما على وجه من تلك الوجوه التي لم تنفرد بها في تواريخ الجماعات.
ولكنها اليوم كلمة غير ذات معنى، أو ليس لها معنى ينصرف إلى مصلحة من الناطقين باللغة العربية والمشتركين في الثقافة العربية، كائنة ما كانت الأقطار والحكومات.
وإذا كانت الشعوب هي الشعوب العربية، فقد أصبحت العروبة والشعوبية بمعنى واحد على هذا الاعتبار، فكل ناطق بالعربية هو فرد من أفراد تلك الشعوب.