الإسلامُ والحَضارة الإِسلاميَّة
الإسلام دين إنساني عام، أو دين عالمي كما نقول في اصطلاح العصر الحديث، يخاطب الأمم جميعًا، فلا فرق بين أمة وأمة بفارق الجنس أو اللون أو اللغة، فكل إنسان في جوانب الأرض أهل لأن يأوي إلى هذه الأخوة الإنسانية، حيث شاء وحين يشاء.
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا. وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَىٰ بِالله شَهِيدًا.
هكذا أعلنها القرآن الكريم دعوة عامة منذ ألف وأربعمائة سنة، وهكذا أعلنها النبي ﷺ وخلفاؤه الراشدون وتابعوهم الأبرار في صدر الإسلام، ولم يمضِ ربع قرن من التاريخ الهجري حتى قامت بيِّنات الواقع على حقيقة هذه الدعوة الإنسانية الإسلامية، فدان بالدين الجديد أناس من جميع الأقوام والسلالات، ولم تنقضِ على الهجرة ثلاثة قرون حتى كان في عداد المسلمين ساميون وآريون وحاميون وطورانيون، عرب وفرس وترك وهنديون وصينيون وإفريقيون من السود والإثيوبيين.
هذه هي البينة العلمية أو الواقعية على «عمومية» الدين، وهي بينة ينفرد بها الإسلام بين الأديان الكتابية وغير الكتابية، وينبغي أن ننظر إليها من وجهتها الصحيحة لنعرف حقًّا أنها مزية قد انفرد بها الإسلام.
إن دينًا من الأديان الأخرى لم يكسب أمة ذات كتاب عريقة في الحضارة، وإنما كانت الأديان مقصورة على العصبية القومية أو على تحويل الوثنيين الذين درجوا على عبادة الأصنام وما يشبه الأصنام من رموز القوى الطبيعية.
فالموسوية قصرت دعوتها على العبريين أو اليهود، ولما قام المكابيون ليكرهوا قبائل البادية على قبول الشعائر اليهودية كانت هذه القبائل وثنية مغرقة في الجهالة، وكان المكابيون يؤمنون بالإله «يهوا» ملكًا تجب له الطاعة على رعاياه، وكانوا من أجل هذا يُسمُّون أمراءهم رؤساء كهان ولا يسمحون لهم بلقب الملك وشاراته ومراسمه، فإكراه القبائل على قبول سلطان «يهوا» إنما كان عندهم بمثابة الخضوع السياسي الذي يلزم الأجانب والغرباء كما يلزم أبناء الأمة وأهل السلالة.
والبرهمية ظلت ديانة قومية عنصرية حتى خرجت منها النحلة البوذية، فنجحت في تحويل الوثنيين إليها في الصين واليابان، ولم تحوِّل إليها قط أمة ذات كتاب.
والمسيحية حوَّلت إليها الرومان وغيرهم من الغربيين أو الشرقيين، ولكنهم كانوا جميعًا من الوثنيين الذين وقفوا عند خطوات الدين الأولى، ولم يجاوزوها إلى عقائد أهل الكتاب.
أما الإسلام فقد حوَّل إليه — على خلاف ذلك — أعرق الأمم في الحضارة وفي الإيمان بالعقيدة الكتابية، فأسلمت فارس وأسلمت مصر، وهما على التحقيق أعرق أمم العالم يومئذ في تاريخ الحضارة، أولاهما كانت تؤمن بالله واليوم الآخر والحساب والعقاب وغلبة الخير على الشر وخلود الروح، وثانيتهما كانت تدين بالمسيحية وتحمل لواءها في العالم القديم.
هذه العزيمة ينفرد بها الإسلام بين جميع الديانات وهي آية العالمية والصلاح لدعوة الأمم جمعاء، سواء منها الأمم المعرقة في الحضارة والدين أو الأمم التي لم تبلغ بعد مبلغ الارتقاء في التحضر والاعتقاد.
إن هذه الحقيقة خليقة أن تُذكَر على الخصوص في عصرنا الحديث؛ لأننا سمعنا فيه أناسًا من المبشرين يعترفون بغلبة الدعوة الإسلامية في أواسط القارة الإفريقية ويسلمون أنها نجحت حيث لم ينجحوا، وشاعت بغير تبشير حيث يخفقون بعد التبشير سنوات، ولكنهم يعتذرون لأنفسهم بعذر يقبلونه ولا يقبله الواقع، وهو موافقة الإسلام للقبائل المتأخرة بطبيعته وأنه قريب المأخذ عند «البدائيين» من سلالات القارة السوداء! وليس أصلح لتفنيد هذا العذر من تلك الحقائق التي أثبتها التاريخ، أو من تلك المزية التي انفرد بها الإسلام بين الأديان، فدخلت في دعوته أعرق الأمم حضارة بعد خلاصها من الوثنية الأولى عدة قرون، ولم يحصل ذلك قط في تاريخ دين.
وتزداد هذه الحقائق ثبوتًا ووضوحًا كلما رجعنا إلى تاريخ الدعوة الإسلامية بين البلاد الآسيوية، فإنها لم تعتمد على القتال، ولم تعتمد على التبشير بقدر اعتمادها على القدوة الحسنة والأمثلة العملية، فلا تُذكَر الوقائع الحربية إلى جانب العدد الذي دان بالإسلام من أهل الهند والصين والملايا، وعدتهم نحو مائتي مليون، وكل ما يرويه التاريخ عن القتال بين المسلمين وغيرهم في تلك الأرجاء فإنما حدث بعد أن أصبح المسلمون معدودين بالملايين، وإنما هو في جميع الأحوال قتال سياسة وليس بقتال إكراه على الدين.
إن الوقائع العملية هي الشهادة للإسلام بالصبغة الإنسانية العالمية، ولا حاجة بالدين إلى شهادة أخرى متى ثبت له من تاريخه الأول أنه يضم إليه شعوبًا من جميع السلالات والعقائد، ومن جميع الأطوار في الحضارة والمعيشة البدائية، وأن كتابه يخاطب الناس كافة، ويوجه الرسالة إلى كل سامع.
هذه الخاصية الإنسانية باقية في صميم الإسلام يواجه بها الحضارة العصرية كما واجه بها حضارات العصور الأولى، وهي التي صبغت تلك الحضارات بالصبغة الإسلامية، وهي التي جعلت تاريخ العالم من القرن السادس للميلاد إلى القرن الخامس عشر تاريخ الفكر الإسلامي والآداب الإسلامية، ولم ينفصل التاريخان بعد ذلك؛ لأن الإسلام فقد «خاصته» التي لازمته عدة قرون، ولكنهما انفصلا؛ لأن المسلمين تخلفوا عن الركب، وأصبحوا «غير مسلمين» إلا باللقب والعنوان.
يقول المؤرخ الكبير «توينبي»: إن المسلمين يواجهون حضارة العصر بنزعتين متناقضتين: إحداهما يسميها النزعة الهيرودية وينسبها إلى هيرود ملك اليهود الذي قابل حضارة الرومان بمشابهة الرومان في السكن والملبس والمعيشة، والأخرى نزعة الغلاة وينسبها إلى نساك إسرائيل الذين كانوا يصرون على القديم وينكرون كل مخالفة للعادات والموروثات.
ولو أراد الأستاذ «توينبي» أن يتوسع في الأسئلة لعمم القول على الطبيعة الإنسانية في مواجهة كل حديث ومقابلة كل تغيير.
فالهوادة والتشدد طبيعتان في النفس البشرية تبرزان في كل عصر وتتقابلان أو تتناقضان أمام كل دعوة، وقد ظهرت هاتان الطبيعتان في طوائف المسلمين منذ الصدر الأول للإسلام، فكان منهم أبو ذر الغفاري المتقشف المتنسك، كما كان منهم الصحابة الذين أقبلوا على معيشة الحضر واليسار، وقال المسعودي عن بعضهم: «إن الثمن الواحد من متروك الزبير بلغ بعد وفاته خمسين ألف دينار، وإنه خلَّف ألف فرس وألف أمَة، وإن غلة طلحة من العراق بلغت ألف دينار كل يوم، وإن عبد الرحمن بن عوف كان على مربط ألف فرس وله ألف بعير وعشرة آلاف من البعير، وإن منهم من بنى دورًا بالحجاز والشام والإسكندرية …» إلى آخر ما روي من أخبار تغلب فيها المبالغة على التقدير الصحيح.
ونحن في العصر الحاضر نعرف الرخصة والهوادة كما نعرف الشدة والصرامة، ونواجه الحضارة الأوروبية بالنزعتين معًا أو نتوسط بينهما، تارة مع المحافظة وتارة مع التجديد، ومن لم يتوسط منا تشبث بالمحافظة حتى الجمود أو اندفع مع التجديد حتى أصبح كالمُنبتِّ عن طريق، وأحسب هذه النزعات جميعًا كانت على اختلافها الذي نشهده اليوم في تاريخ كل دعوة ومواجهة كل تغيير، فهي طبيعة الناس لا تتبدل ولا تختلف مع الأزمنة بغير الصور والأشكال، وحسبنا أن نرى في الإسلام متسعًا لها مع الحضارة العصرية كما اتسع لها مع الحضارات الأولى، فإنما يغني المسلمين من الإسلام أن يظل كما كان عقيدة إنسانية عامة، وأن يكون الإنسان مسلمًا حقًّا حين يتشدد ومسلمًا حقًّا حين يترخص، فلا يقطعه الإسلام عن زمنه ولا عن مزية من مزايا حضارته ومعارفه وصناعاته، ولا يكون المسلم الحق غريبًا مع حضارة الغرب الحديث وهو لم يكن غريبًا مع حضارة الفراعنة والفرس والروم.
لقد كان الإسلام عقيدة الإنسانية ودعوة عالمية يوم تقطعت الأسباب بين الأمم وتمزقت الأنساب بين بني آدم وحواء، فاليوم والدعوة الإنسانية على كل لسان خليق بالإسلام أن يجعلها في كل قلب وأن ينفذ بها إلى كل ضمير.