أثر الحَضارة الإسلاميَّة في الحضارات الإنسانيَّة
نشأت في العالم حضارات متعاقبة أو متعاصرة، قبل ظهور الإسلام، كانت هناك الحضارة المصرية والحضارة البابلية والحضارة الإغريقية الرومانية، وكانت في الشرق الأقصى حضارة الهند وحضارة الصين.
كل هذه الحضارات قد ازدهرت زمنًا في التاريخ القديم، ثم آل بها الأمر إلى الفتور والاضمحلال، ولم يكن لها من بقية عند ظهور الإسلام غير ما خلفته من المصنوعات وأساليب المعيشة المادية.
أما العلوم والمعارف فقد ركدت أو احتجبت قبل الدعوة الإسلامية ببضعة قرون، واندثرت أوراق الكتب التي ألفها حكماء يونان أو بقيت في حوزة من لا يقرؤها ولا يفهمها، وربما قرأها وحاول فهمها ليحرمها باسم الدين.
وزالت شريعة الرومان، وهي تراث رومة الأكبر، ثم تراث الذين تدربوا على الحكم في ظلالها بعد زوال السطوة الرومانية، وأصبحت ولايات الدولة القديمة مثلًا للفوضى واختلال الأمن وثورات الفتنة والشقاق التي لا تهدأ في ناحية منها إلا لتضطرب وتضطرم في ناحية أخرى.
وجاء القرن السادس للميلاد والعالم الحاضر لا تفرقه من الهمجية إلا أساليبه التي تعلمها بالوراثة الآلية لصنع الكساء وطهو الغذاء.
وهنا ظهر الإسلام.
فإذا أردنا أن نلخص أثره في الحضارات السابقة، فخلاصة هذا الأثر في كلمات معدودات أنه أحياها وجعلها «حاضرة» بعد أن كانت من بقايا الماضي المهجور.
أما الحضارات التي تتابعت بعد ذلك فليس منها حضارة واحدة خلت من آثار الدعوة الإسلامية، وليس منها حضارة واحدة كانت تتبع طريقها الذي اتبعته لو لم تسبقها الدعوة الإسلامية إليه.
نشأت الحضارة الإسلامية في الرقعة الوسطى من القارات الثلاث التي تألف منها العالم القديم، فبعد أن كانت هذه الرقعة حاجزًا فاصلًا بين حضارات المشرق والمغرب جاشت فيها الحياة، فأصبحت كالعروق الحية التي تنقل الدم في بنية واحدة، ولم يكن في المغرب شيء يعطيه في ذلك العصر ولكنه أخذ من المشرق كل ما عرفه وأحسن الحاجة إليه.
واجتمع محصول العلوم الإنسانية كلها في هذه الرقعة المتوسطة من الكرة الأرضية، فلم يبقَ علم عرفه الإنسان قبل ذلك إلا وهو معلوم بين أبنائها، وتجمعت زبدة الثقافة الصينية والهندية والمصرية واليونانية الرومانية في ظل دولة واحدة، فحق لها أن تُسمَّى خلاصة حضارات الإنسان، بعد أن كانت حضارات متفرقة لهذه الأمة أو تلك، تنعزل تارة وتتصل تارة أخرى من بعيد.
وبرزت حكمة اليونان من قبورها المطوية، وكأنما تكفل أبناء الإسلام الغرباء عن القارة الأوروبية بنقل حكمتها العليا من طرفها الشرقي إلى طرفها الغربي في الأندلس وإفريقية الشمالية، فلما سمع الأوروبيون بفلسفة اليونان أخذوها من أيدي المسلمين في الغرب قبل أن يعرفوا كلمة من لغتها ومصنفاتها.
أول أثر، بل أكبر أثر لحضارة الإسلام في الحضارات السابقة لها هو أنها جمعتها ووصلت بينها وجعلتها أمانة إنسانية واحدة ثم أدت هذه الأمانة أحسن أدائها.
ولم يكن ذلك حتمًا لزامًا لو لم تكن دعوة الإسلام قابلة لاستحياء تلك الحضارات وتحصيلها والمحافظة عليها وإعدادها لما يأتي بعدها ويتممها أو يزيد عليها.
كان من الجائز جدًّا أن تقوم على الرقعة الوسطة قوة تقضي على ما بقي، وتحجب الماضي عن الحاضر والمستقبل، وتعيش فترة من الزمن، ثم تنطوي في ظلام من بعده ظلام.
لكن الحضارة الإسلامية لم تهدم شيئًا كان قائمًا يوم ظهورها، بل أعادت إلى البناء ما تداعى وتهدم ثم زادت عليه، فاستقام علم الإنسان في طريقه غير مقتضب ولا معطل ولا محتاج إلى جهد في الاستعادة والتجديد.
ومن القرن السادس للميلاد إلى القرن العشرين لم ينشأ في العالم أثر جديد لا يرجع إليها بسبب قريب أو بعيد.
فالحضارة الأوروبية في القرن العشرين ترجع إلى عصر النهضة، وعصر النهضة يرجع إلى ثقافة المسلمين في الأندلس وإلى الثقافة التي عاد بها الصليبيون من الديار الإسلامية، وربما كان كُشَّاف الأوروبيين قادرين يومًا على الوصول إلى العالم الجديد مع تطاول الزمن بدافع من الدوافع التي نجهلها الآن، أما وصولهم إلى العالم الجديد كما حدث في التاريخ فإنما هو على التحقيق أثر التراث الإسلامي في المغرب، ونتيجته لم يكن لها مقدمات غير ذلك التراث وما تتابع منه أو تتابع بعده من الأحداث.
ولم تصل الحضارة الإسلامية إلى أمة شرقية ثم تركتها بغير أثر محمود في أطوارها وعاداتها، فكانت شريعة المساواة درسًا مهذبًا لشرائع الطبقات في البلاد الهندية، وكانت القدوة بالرحالين والتجار من المسلمين تبشيرًا سمحًا لأجيال الهند والملايا والصين التي يبلغ أعقابها اليوم مائتي مليون من النفوس، ولم يحدث مثل هذا لغير الدعوة الإسلامية مع بذل الجهود في التبشير والاستعمار.
وقد كان أثر الإسلام فيمن دانوا به معجزة لا نظير لها بين معجزات التاريخ.
إنه حفظ لهم قوة من قوى المقاومة لم تنهزم أمام الدول العاتية المستعدة لإخضاع من يقاومها بالمال والعلم والسلاح، وعجب الباحثون من أين جاءت أبناء الإسلام هذه القوة بعد ضياع المجد والسلطان؟! بل بعد ضياع العلم والثقافة والتجرد من كل سلاح أمام المستعمر المزوَّد بكل سلاح؟!
ولم يشأ أولئك الباحثون أن يلتفتوا إلى مصدر تلك القوة — وهو منهم قريب — مصدرها العقيدة الإسلامية!
وسر الغلبة في العقيدة الإسلامية أنها انفردت بمزية لم تكن لدين آخر ولا لثقافة أخرى.
وتلك المزية هي أنها عقيدة شاملة تأخذ الإنسان كله ولا تقتطع منه جزءًا تسميه جانب الروح أو جانب الآخرة، وتترك ما عداه من الجوانب للجسد أو للدنيا.
فهي عقيدة ونظرة إلى الدنيا ونظام معيشة وآداب وسلوك، وهي لهذا لا تدع للإنسان جزءًا يسلمه للحاكم الأجنبي وجزءًا يتجه به إلى الله … وقد وُجِدت عبادات تسمح للمرأة أن تسلم جسدها لبعل على غير عقيدتها، وتسمح للمحكوم أن يسلم زمامه لسيد من غير قومه وغير ملته، وتسمح للمتدين بها أن يعيش في وطن لا معالم فيه لقواعد إيمانه؛ لأنه إيمان ينفصل عن الدنيا ويرتبط بالحياة الأخرى على غير طريقها، ولكن النفس الإسلامية لم تعرف قط هذه التجزئة في كيان الإنسان فردًا أو جماعة، فهي لا تخضع للمتسلط عليها إلا وهي شاعرة بمذلة هذا الخضوع متربصة بمن يخضعها إلى حين.
ذلك هو سر القوة التي استفادها المسلمون من عقيدتهم، فحافظوا بها على وجودهم واستطاعوا بها حين آلت الحضارة إلى غيرهم أن يصمدوا لسيطرتها حتى تعود إليهم، وليس أقوى من عقيدة تصون للنفس وحدتها وتعصمها أن تتمزق بددًا أو تتفرق شعاعًا كلما زالت الدولة وتغيرت طوابع الزمن بين سعوده ونحوسه وإقباله وإدباره، وتلك هي عقيدة الإسلام.
ويزيد في هذه القوة أنها لا تقاوم الحضارة إذا جاءت من جانب غير جانبها، فهي موافقة لتقدم الحضارات وليست عائقًا معترضًا في سبيلها، وهي مالكة لأسباب التجديد كلما وجب التقدم من طور قديم إلى طور جديد، وكأنها — وقد وحدت نفس الإنسان — قد وحدت تاريخ الإنسان، فلا انقطاع فيه بين ماضيه وآتيه إلى آخر الزمان، ولا داعية للتخلف عن ركب الحضارة في عهد من العهود كائنًا من كان رائدها على تعاقب الأجيال، وإذا آمن المسلم بطلب العلم «ولو في الصين» فإنما يؤمن بطلبه وإن تمادى به البعد في الزمن المقبل، ولا يقصر البعد على موقعه حيث كان.
ولسنا نعمد إلى نكتة من نكت الجناس حين نقول: إن التوحيد في الإسلام هو مصدر قوته بجميع معانيه: «توحيد الإله»، وتوحيد النفس الإنسانية، وتوحيد العالمين عالم الأرواح وعالم الأجساد.
إنها حقيقة الحضارة الإسلامية، أو العقيدة الإسلامية مصدر تلك الحضارة، وليست جناسًا في اللفظ تستدعيه كلمة التوحيد.
وإذا كُتِب للإنسان مستقبل في عالم الإيمان يعصمه من هذا البلبال الذي سلطته الحضارة الحديثة على ضميره، فلن يكون هذا المستقبل إلا لعقيدة توحده وتلم ما تبدد من وجدانه، وتضعه كما وضعت عقيدة الإسلام أبناءها من قبل في عالم واحد تواجهه نفس واحدة متمالكة الأوصال متماسكة الجسد والروح.