آسيا والسَّيطرة الغَربيَّة
قرأت كثيرًا من الفصول التي كتبها المستشرقون باللغة العربية، فلا أذكر أنني قرأت فصلًا واحدًا منها يصح أن يُقال إن صاحبه يكتب العربية كما يكتبها أحد أبنائها!
ولا يرجع ذلك إلى الوقت فإن بعض المستشرقين قضوا في دراسة العربية أكثر من أربعين سنة، وهي أطول من عمر بعض الكُتَّاب الذين وُلِدوا وتعلموا وأتقنوا الكتابة بلغتهم قبل الثلاثين!
ولا يرجع ذلك أيضًا إلى المولد والنشأة، فإن الكُتَّاب الشرقيين الذين وُلِدوا في الهند أو في مصر يكتبون الإنجليزية، ويشهد أبناء الإنجليزية الثقات أنهم يكتبونها كأحد أبنائها.
كلا، ليست المسألة إذن مسألة وقت ولا مسألة مولد ولكنها في الغالب مسألة مَلَكة يمتاز بها الشرقيون، ولا يصعب تعليل هذا الامتياز مع قدم عهدهم بالحضارة والكتابة والتعبير على اختلاف أساليبه مع كثرة الاختلاط بينهم قديمًا يوم كانت القارة الأوروبية في عزلة تفصل القبيلة عن القبيلة فضلًا عن الأمم والشعوب.
كتاب جديد
يحضرني هذا الخاطر وأنا أقرأ كتاب «آسيا والسيطرة الغربية» لمؤلفه «السردار بانيكار» سفير الهند في مصر الآن وسفيرها في الصين قبل ذلك، فإن سهولة التعبير فيه باللغة الإنجليزية لا تفوقها سهولة الكثيرين من الساسة الذين يتناولون أمثال هذه الموضوعات التاريخية السياسية من صميم الإنجليز.
ولا يطوي القارئ من الكتاب فصلًا أو فصلين حتى يتبين له أن المؤلف يملك موضوعه كما يملك قلمه، ولعله من أجل هذا يستطيع أن يقول ما يريد كما يستطيع أن يريد ما يقول.
يبدأ المؤلف دراسته للسيطرة الغربية من عصر الرحلات الكشفية، ولكنه يعود بها إلى العصر السابق لهذه الكشوف وهو عصر الحروب الصليبية؛ لأنها فاتحة الاحتكاك بين الغرب والشرق في القرون الوسطى.
فالحملة الأولى من محاولات السيطرة على آسيا تحركت مع الغزوة الصليبية واستمرت معها إلى نهايتها.
وقد انتهت الحروب الصليبية حين شُغِلت القارة الأوروبية فيما بينها بالمنازعات الدينية وما اقترن بها من النضال العنيف بين سلطان الدين وسلطان الدولة، وتمادت هذه المنازعات بعد زوال الخطر المفاجئ من ناحية الترك منذ فتح القسطنطينية.
وقد تحولت الحملة من الغزوات العسكرية إلى غزوات التبشير والدعوة إلى الإنجيل، فانتشرت بعثات المبشرين في أقطار الشرق من أدناها إلى أقصاها، ولم يمضِ غير قليل حتى بدأ عصر السيادة الفعلية مبتدئًا بالتجارة ومتدرجًا منها إلى الاستعمار بقوة السلاح.
سيطرة الاستعمار تتوقف
ودامت سيطرة الاستعمار على أشدها إلى فترة متوسطة بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فتوقفت شيئًا فشيئًا أمام عاملين طارئين من جانب الغرب: أحدهما ظهور أمريكا في ميدان الشرق الأقصى، والآخر عامل الحرب العظمى في سنة ١٩١٤، وهي الحرب التي تُسمَّى بالعالمية ويعتبرها الآسيويون حربًا داخلية أو حربًا أهلية بين الغربيين!
فظهور أمريكا في ميدان الشرق الأقصى كان بمثابة دعوة قوية لكبح مطامع اليابان وألمانيا، وكلتاهما كانت تطمع في الاستيلاء على أقاليم جديدة من الصين، أو كانت تطمع على الأقل في كسب الامتيازات الاقتصادية على انفراد، وكانت السياسة الأمريكية ترمي إلى الانتفاع بالمزايا العامة المشتركة بين جميع الدول، فدعتهن جميعًا إلى التعاهد على سياسة الباب المفتوح بحيث يمتنع الاستيلاء على الأقاليم كما يمتنع احتكار المرافق والامتيازات.
أما الحرب العظمى فقد زلزلت مكانة الاستعمار بين الشرقيين وكسرت وحدته وأبرزته في صورة غير تلك الصورة الرائعة التي تمثل بها زمنًا في أعين الآسيويين، وعاد الجنود الوطنيون الذين شهدوا ميادين القتال في الغرب، وقد تزعزعت في نفوسهم ثقتهم «بالصاحب» أو الرئيس، وكاد أن يفقد لديهم ما كان له من الهيبة والوقار.
عوامل غيَّرت موقف الشرق
والمؤلف القدير يبسط هذه العوامل في نسق جميل وتسلسل دقيق، ثم لا يدعها حتى يقابلها بالعوامل المضادة لها، وهي العوامل التي غيَّرت موقف الشرق من الغرب، وكان لها أثر فعال في نظرة كل منها إلى الآخر.
وأول تلك العوامل أن الأوروبيين أخذوا يعرفون شيئًا عن حضارة الشرق وما أنشأته من الصناعات الأنيقة كصناعة الخزف والحرير وورق الجدران وتوابل الطعام والشاي وما إليها … فزال من أذهانهم ما توهموه من همجية الشرق وتخلفه في معيشة الحضارة.
ووافق هذا الوقت ترجمة الثقافة الشرقية من دينية وأدبية، فأقبلت عليها طائفة من المفكرين وأُعجِب ڨولتير بتفكيرها الروحي الذي لا معجزات فيه ولا خوارق للطبيعة، وخشي فريق منهم فتنة هذه الثقافة فتصدى فينلون في محاوراته بين الموتى للموازنة بين سقراط وكنفشيوس على نحو يرضي الذين يصفون أهل الصين بالسخافة لتفضيل حضارتهم على سائر الحضارات.
ثم كانت الثورة الفرنسية فعمَّت مبادئها بلاد الشرق وتمكنت بين الغربيين أنفسهم، فشاعت بينهم آداب جديدة عن حقوق الإنسان، وشعروا بالحاجة إلى تسويغ الاستعمار بضروب من المعاذير والتعلات لم يشعروا بالحاجة إليها قبل ذلك.
واضطرب الشرق بتيار الوطنية الجارف فانبعثت فيه كبرياؤه بتراثه القديم، وتشبث دعاته وشعوبه بحق تقرير المصير، وزادهم تشبثًا بهذا الحق وجود الألوف من الوطنيين المتعلمين ممن تدربوا على وظائف الإدارة في حكومات الاستعمار، على استعداد للعمل في حكوماتهم المستقلة.
سلاح في يد الشرق
وعرف الشرقيون سلاحًا ماضيًا يُشهِرونه على قوة الاستغلال، وهو سلاح المقاطعة ورفض التعاون مع السيطرة الأجنبية، وكان سلاحًا فعالًا كما ثبت من حوادث هونج كونج في الصين ومن حملة المقاطعة الهندية.
ومن العوامل الحديثة التي أضافها المؤلف إلى ما تقدم تطور الأحزاب اليسارية في الأمم الأوروبية وقيام الثورة الشيوعية في روسيا.
والتفت التفاتة دقيقة إلى التفرقة بين الدعوة الوطنية والدعوة الآسيوية التي ترددت في الزمن الأخير، فهذه الدعوة الآسيوية لم تكن معروفة قبل الجيل الحاضر، وليست هي من قبيل الدعوة الوطنية التي تنبهت في القرن الماضي، ولكنها تضامن آسيوي يقابل التضامن الأوروبي في هذه المرحلة من مراحل السياسة العالمية.
قال المؤلف في تعقيبه على هذه الآثار المتبادلة بين الشرق والغرب ما فحواه أن بعض الناقدين الأوروبيين لا يزالون يؤمنون بأن الشرق شرق والغرب غرب، وأن الشرقيين لم يستفيدوا من علاقاتهم بالثقافة الغربية أثرًا باقيًا يثبت على مر الأيام بعد استقلال الشرقيين بحكم أنفسهم وخروجهم من سيطرة الغرب مباشرة على حكوماتهم.
الإفادة من علوم الغرب
ويعتقد المؤلف أن هؤلاء الناقدين ينظرون إلى الأمور نظرة سطحية، وأن الزمن وحده كفيل بتصحيح أوهامهم وإقرار ما سوف يستقر من علوم الغرب وصناعاته وشرائعه في مستقبل الأمم الغربية، وسوف ينجلي للعيان موقف الديانات الكبرى في الشرق أمام الأطوار الفكرية التي انتهى إليها تقدم الغربيين، وسوف يتحقق مرة أخرى أن حصر الحكمة في ثقافة الإغريق أو ثقافة الغرب الحديث تضييق لحدود الطاقة الإنسانية تنقضه وقائع التاريخ.
المؤلف يتحرى الحقيقة وحدها
إن كتاب «آسيا والسيطرة الغربية» يقع في أكثر من خمسمائة صفحة، لا تخلو صفحة منها من واقعة تاريخية أو رأي أو تمهيد لنتيجة تسبقها مقدماتها، فليس من المستطاع تلخيصه في صفحتين إلا على سبيل الإشارة وإجمال الموضوع كله في حدوده الواسعة.
وإنه لمن التوفيق الحسن أن يتناول هذا الموضوع المتشعب كاتبٌ له ما للمؤلف البحاثة من الاطلاع الواسع على التاريخ، ومن الخبرة العملية بسياسة الغرب والشرق في القارة الآسيوية من أقصاها إلى أقصاها، وسيحمد له جهدَه القيِّم أبناءُ الشرق كما يحمده له أناسٌ من الغرب يريدون الحقيقة ولا يجدونها في التصانيف التي يمليها التحيز وتجري مع الأهواء إلى غرضٍ مسمومٍ.