مؤتمر بَاندُونج في الميزانِ
- السؤال الأول: ماذا كان يحدث لو أن طائفة من الساسة الأوروبيين دعوا إلى عقد مؤتمر عام يحضره مندوبون من جميع الأمم في القارة الأوروبية؟
- والسؤال الثاني: ما هي النتيجة التي كانت منتظرة للمؤتمر الإفريقي الآسيوي على أحسن تقدير؟
أما الدعوة إلى مؤتمر عام للأمم الأوروبية فلا نغالي إذا قلنا إنها لا تصدر من أول الأمر، وإنها إذا صدرت لم يجتمع المؤتمر بعد الدعوة إليه بثلاثة أشهر أو أربعة، وإنه قد تمضي السنة على توجيه الدعوة الأولى ولا ينعقد المؤتمر، إذا انعقد على الإطلاق!
وأما النتيجة التي كانت منتظرة للمؤتمر الإفريقي الآسيوي في أسبوع انعقاده فمن المحقق أنها لم تكن لتنتهي في تقدير أحد إلى القضاء على الاستعمار كله بجرة قلم، ولم تكن لتنتهي إلى إلغاء الفوارق بين الأجناس البشرية قبل انفضاض المؤتمر، ولم يكن منظورًا أن تزول جميع الخلافات في الرأي والشعور بين الأمم الإفريقية والآسيوية بين ليلة ونهار؛ لأن هذه الأمم تقارب الثلاثين وتجمع أكثر من ألف وخمسمائة مليون من الأجناس البشرية المتفرقين في أقطار العالم القديم.
المؤتمر نجح
فإذا حضر في أذهاننا هذا السؤال فمن البيِّن جدًّا أن المؤتمر قد نجح، وأن نصيبه من النجاح غير قليل.
فقد أدرك في دعوته نجاحًا لا تحلم به الأمم الأوروبية التي تدَّعي لنفسها قيادة الحضارة الإنسانية، وها هي ذي الدعوات بعد الدعوات تبحث هناك سرًّا وعلانية بين أقطاب الدول الكبرى ولا تنتهي إلى اجتماع ثلاثة أو أربعة من الرؤساء، فضلًا عن ثلاثين وأربعين.
وقد عمل المؤتمر الإفريقي الآسيوي، كل ما استطاعه دون المعجزات التي لم تكن في حساب أحد من أعضائه أو غير أعضائه … فقرر المشكلات التي يواجهها وحدَّد موقفه من كل مشكلة منها، وأنشأ قبل هذا وذاك كيانًا عالميًّا جديدًا لم يكن له وجود في العالم، منذ أول عهد التاريخ.
قراراته عن الاستعمار
ولا نخفي عن أنفسنا أن قراراته عن الاستعمار كان يصح أن تفرغ في قالب أصرح وأقرب إلى رسم الخطة العملية من القالب الذي تم الاتفاق عليه، ولكننا لا نرى في التوفيق بين وجهات النظر على هذا الأسلوب حرجًا كبيرًا إذا تذكرنا أنه أول اجتماع بين ضحايا الاستعمار، وأنه يجمع المتفرقات بين ألوف الأميال ومئات الملايين.
ولا شك أن المؤتمر كان عنوانًا قويًّا للضمير الإنساني، أو للضمير العالمي في الشرق أو الغرب، لمسألتين كبيرتين من المسائل التي اتضح فيها طريق المستقبل أمام جميع الشعوب، ولا بد أن تُضاف إليها مسألة فلسطين التي لا تزال في حاجة إلى مزيد من الحزم والتوكيد.
كان عنوانًا قويًّا للضمير الإنساني في مسألة الشعوب التي سُلِبت حق تقرير المصير، وفي مسألة الأجناس الملوَّنة أو مسألة التفريق بين البِيض والصُفر والسُّود، فانهدم السُّور الذي كانت تحتمي وراءه دول الاستعمار وأصحاب المذاهب الرجعية في مسألة الألوان، وانكشف الميدان وراء ذلك السور عن موقف ضعيف يزداد مع الزمن ضعفًا ولا يُستطاع الثبات عليه.
شخصية المؤتمر
ونعتقد أن المؤتمر قد أثبت وجوده فعلًا في كثير من المواقف التي تحوَّلت إليها الدول العالمية الكبرى حتى الآن.
من ذلك أن هذه الدول قد تحولت عن مقاومته ومحاربة دعوته إلى خطة المجاملة والتشجيع على حضوره أملًا في كسب الأنصار واتقاء العداوات بهذه الخطة الحكيمة، ومن قرأ التعليقات الأولى على الدعوة إليه لم يخامره الشك في النيات التي كانت تخفيها وأولها السعي الخفي إلى الإحباط والتعطيل.
ومن آثار «باندونج» مسلك الدول الكبرى في المؤتمر الذي يسمونه مؤتمر «السياتو» إشارة إلى تنظيم المعاهدة بين الدول في الشرق الجنوبي من القارة الآسيوية.
فقد كان الغرض من اجتماع هذا المؤتمر أخيرًا أن يقرر القواعد العسكرية واتفاق القيادة وقيام الحاميات المختلطة في جهات معلومة من آسيا الشرقية الجنوبية، وكان المقصود بالاجتماع أن يُوجَد لآسيا في الشرق الجنوبي نظام على مثال نظام الدفاع عن شمال المحيط الأطلسي المعروف بالناتو.
وكان المفروض أن السياتو نسخة آسيوية من الناتو الأوروبية، وأنها ستحذو حذوها في الأصول والفروع.
فلما تقرر قيام المؤتمر الإفريقي الآسيوي توقفت تلك المشروعات في انتظار الخطوط التي يرسمها مؤتمر الآسيويين والإفريقيين، أو في انتظار الوجهة التي يتجهونها والنظرة التي ينظرونها إلى تلك المشروعات، ولا نظنها تتم بعد اليوم إلا مع الاستئناس بالشعور المقبول نحوها في كل من القارتين الشرقيتين.
الولايات المتحدة والصين
ولم يخفَ على أحد أن المؤتمر الإفريقي كان له أثر ظاهر — قبل انعقاده — في مسلك الولايات المتحدة الأمريكية نحو الصين، وأن هذا الأثر قد ازداد ظهورًا من الجانبين بعد اجتماع المؤتمر، فأعلن رئيس وزراء الصين أن شعبه لا يضمر العداء للشعوب الأمريكية، وأعلنت الولايات المتحدة من جانبها رأيًّا يتقدم بقضية النزاع رويدًا رويدًا إلى التفاهم والوفاق.
ولم يخلُ المؤتمر من أي أثر يُؤبَه له في مسألة الأحلاف العسكرية التي انقسمت فيها آراء الأمم الآسيوية، فخلاصة الرأي في هذه المسألة أن الأحلاف العسكرية — كما قلنا في مقالين سابقين — ضرورة عنيفة لا تلجأ إليها الأمة الحرة وهي مالكة لزمام اختيارها، وأنها تجعل العالم من الآن ميدان حرب منقسمًا إلى معسكرين يستعد كلاهما للقتال كأن الحرب واقعة لا يعوزها غير الإعلان، أو هي واقعة بغير إعلان!
وقفة من الأحلاف
فهذه المسألة قد أُقِيم فيها الحد الفاصل بين الأنصار والمعارضين على أثر المناقشة بين الجنرال كارلوس روميولو — مندوب الفلبين — والبانديت جواهر لال نهرو — رئيس الوزارة الهندية، فكان كلام مندوب الفلبين بمثابة اعتذار عن المحالفة العسكرية التي لا مناص منها بحكم الضرورة، وكان قرار المؤتمر بعد ذلك في مسألة السلام والأسلحة الذرية دليلًا على صمام الأمان من هذه المحالفات وهذه التقسيمات «الحربية» بين الأمم والبلاد، وإذا تبيَّن من شعور الأمم الآسيوية جميعًا أنها لا تريد التحالف العسكري تشجيعًا للعدوان، وأنها تستخدم قوتها على نقيض ذلك في مقاومة العدوان، فالمحالفات العسكرية باقية في نطاق الأمان.
أفضل من المؤتمرات
وصفوة القول في أمر هذا الاجتماع التاريخي النادر أنه خير من كثير من المؤتمرات الدولية التي عرفناها في التاريخ القريب أو في العهد الأخير، وأن نصيبه من النجاح لا يقل عن نصيب مؤتمر منها في المقاصد التي تُعقَد من أجلها المؤتمرات.
ففي ذاكرة الأحياء عشرات المؤتمرات لم تعمل في برامجها المرسومة بعض ما عمله المؤتمر الإفريقي الآسيوي في برنامجه المرسوم، وليس في ذاكرة الأحياء مؤتمر عالمي قد اجتمع وانفضَّ على نتيجة أوفى من هذه النتيجة التي حقَّقها الإفريقيون والآسيويون، وهم يَخطُون خطوتهم الأولى في هذه المؤتمرات.
حادث عظيم
إن الدعوة وحدها نجاح، وإن استجابة الدعوة نجاح أتم وأكبر، وإن انتظامَ المؤتمر في خلال انعقاده بين التيارات المتضاربة والدسائس الخفية والمناورات المكشوفة أنجحُ مما توقعه المتوقعون وتفاءل به المتفائلون، وستُذكَر حوادث النصف الثاني من القرن العشرين بعد مئات السنين فلا يُنسَى في مقدمها هذا الحادث العظيم.
كتاب في طبعته الأولى، ولكنه كتاب مرتَّب مبوَّب وليس بأشتات من العناوين والخطوط.
وكان ينبغي لهذا الكتاب أن يظهر أولًا ليتم فيه ما نقص ويزداد عليه ما يحتاج إلى الزيادة، وقد ظهر على خير ما يُنتظَر، وسيظهر مع الزمن على خير مما ظهر لأول مرة، وسيقرأ فيه العالم سفرًا جديدًا من أسفار التاريخ.