الطفْرَة غَيْر مُحَال
من الأمثال التي شاعت في الزمن الحديث أن الطفرة محال، وهو مثل — كسائر الأمثال — يتوقف على فهم معناه، وقد يصدق أو لا يصدق على حسب المفهوم من الكلمة المهمة فيه.
أما الكلمة المهمة في المثل فهي كلمة الطفرة، فما هي الطفرة؟
إنك إذا سألت إنسانًا من المتشددين في المحافظة على القديم والناظرين بعين الحذر والتهيب إلى كل تغيير في أوضاع الأمور علمت منه أن الطفرة هي الطموح إلى العظائم والهجوم على المجهول في سبيل هذا الطموح، وبخاصة ما كان منه ممتزجًا بالحماسة الملتهبة والغيرة المتوثبة والتقدم إلى الأخطار في ثقة وصلابة وإصرار، على حد قول الفتى الحكيم أبي تمام:
وإذا سألت إنسانًا آخر من غير المحافظين ولكنه من المترددين المفرطين في التدبر وإعمال الروية علمت منه أن الطفرة هي كل عمل تعترضه الصعوبات وتقف في طريقه العقبات، ويقلق صاحبه فلا يستريح أو يكون له ما يريد.
ولكنك إذا أردت أن تعرف أن هذه الطفرة محال أو غير محال، فحوادث التاريخ خير مقياس لما يمكن وما لا يمكن من مطالب الطامحين وذوي الهمم والعزائم، فإنك إذا أحصيت الأعمال التي قِيل عنها قبل وقوعها إنها طفرة مستحيلة، ثم تمَّت وتحقَّقت وتبيَّن أنها ممكنة لا استحالة فيها؛ جاز لك أن تقول إن الطفرة كما يفهمها هؤلاء غير مستحيلة وغير نادرة في التاريخ القديم أو الحديث، ولا سيما الأعمال التي يستبعدها من يكرهها ولا يريد وقوعها، فهو يتمنى أن تكون مستحيلة ويصدق أنها مستحيلة؛ لأن المرء في كثير من الأمور يصدق ما يتمناه.
وجملة القول: أن المستحيل قبل وقوعه سهل ممكن بعد وقوعه، كما قال أبو الطيب:
ودولة «الباكستان» إحدى هذه المستحيلات الممكنات.
كانت دولة الباكستان مستحيلة عند أناس كثيرين مخلصين في اعتقادهم وغير مخلصين، وفي مقدمتهم من كانوا يكرهون قيام الباكستان ويسرهم أن تكون أملًا مستحيلًا، أو تكون أملًا غير معقول وغير رشيد.
ومنهم من كان يحكم عليها بالاستحالة ويبني حكمه على أسباب يُخيَّل إليه أنها من البديهيات التي لا تقبل المراجعة.
كانت مستحيلة لأسباب جغرافية، فإن المسافة البعيدة بين شطرها الشرقي وشطرها الغربي مانعة في رأيهم أن تنتظم فيها الإدارة، وتستقر فيها دعائم الحكومة.
وكانت مستحيلة لأسباب اقتصادية؛ لأنها مضطرة إلى القروض الأجنبية للدفاع عن حدودها، ثم تبحث عن تلك القروض فلا تجدها، أو لعلها تجدها بعد الجهد والرضا بشروطها الثقيلة، فترهق شعبها وتعطل مرافقها بما تبذله من تلك الجهود وتحتمله من تلك الشروط.
وكانت مستحيلة لأسباب نفسية وحيوية؛ لأن الأمم — كما يقولون — تُخلَق ولا تُصنَع، وكل أمة تلفق كيانها من البعيد والقريب وتقتلع جذورها من جهة وتغرسها في جهة أخرى فهي عرضة لجرائر ذلك التلفيق.
كانت على الجملة مستحيلة لكل سبب ولم تكن ممكنة لسبب واحد، فإذا بأسباب الاستحالة كلها تزول، وإذا بأسباب الإمكان كلها توجد من سبب واحد لم يكن جديرًا عندهم بالجد والنظر، وهو وجود الباكستان في قلوب أبنائها وإيمانهم بإمكانها، فكانت في عالم المكان والزمان؛ لأنها كانت قبل ذلك في عالم الإيمان.
كانت طفرة، ولكنها لم تكن مستحيلة؛ لأنها كانت طفرة عند من يكرهون قيامها أو عند الذين يحبون قيامها ولكنهم يتهيبون ويترددون، أما الذين وجدوها في نفوسهم حقيقة حيَّة لا تموت فقد جعلوها سحرًا ملموسًا يصدق عليه قول البحتري:
فأمسى الليل وهي حلم وأصبح الصباح وهي عيان يتملاه اليقظان.
لا تستحيل الطفرة إذن كما يقول الجامدون والمترددون، ولكنها في الواقع لم تكن طفرة؛ لأنها لم تُخلَق من الحلم وحده، بل خُلِقت بالأمل والعمل والصبر والانتظار إلى اليوم الموعود.
ربما وُلِدت الباكستان قبل مولدها بنيف وسبعين سنة، وربما كان مولدها مع مولد عليكرة في سنة واحدة، وقد وُلِدت عليكرة سنة ١٨٧٥، وتخرج منها الأقطاب الذين حملوا الباكستان في مهدها، وهمَّ رجل يتولى أمورها الآن وهو السيد «لياقت علي خان».
كان خروج الإنجليز من الهند أمرًا مقدرًا في بصيرة الرجل العظيم الذي وضع أساس التعليم الحديث والتعليم العالي لأبناء الهند المسلمين، ونعني به السيد «أحمد خان».
كان المسلمون هم أصحاب الثقافة وأصحاب المناصب التي يتولاها المثقفون يوم كانت الثقافة قائمة على العلوم العربية والفارسية، ويوم كانت الدولة في أيدي «بابر وأرانزيب» ونظرائهم من سلاطين المسلمين، فلما دخل الإنجليز الهند أصبحت معرفة الفارسية أو الأردية أو العربية لا تغني صاحبها في الوظيفة كما تغنيه معرفة الإنجليزية، وأصبحت معرفة الإنجليزية تُستفَاد في مبدأ الأمر من مصدر واحد وهو مدارس المبشرين، فأحجم عنها المسلمون وأقبل عليها غير المسلمين، وعلم السيد «أحمد خان» أن العاقبة ضياع لقومه إن لم يتعلموا ويعملوا في الدواوين والأسواق، فأهاب بهم سائلًا: متى خرج الإنجليز من الهند فمن يحكمكم وأنتم لا تتعلمون؟ ومن يبرز منكم في المجتمع القومي وليس في أيديكم من مرافق البلاد غير القليل؟ … تعلموا واعملوا في التجارة والصناعة، وإلا فمصيركم إلى الضياع.
ولم يقلها مقترحًا ولا حالمًا، بل قالها مفتتحًا وعاملًا، وشفع دعوته إلى العلم بإقامة المعهد الذي يتعلم فيه طالب العلم، وإبانة الطريق لمن يتوجس من أعمال التجارة وأعمال الشركات والمصارف في العصر الحديث.
فلم تكن الباكستان حلمًا كلها، ولا طفرة كلها، ولكنها لم تكن لتكون بغير الحلم الذي استخف به الجامدون المترددون، وبغير الطفرة التي قالوا عنها إنها «مستحيل».
ونحسبها «أدوارًا» أو شخصيات تتكرر في كل نهضة واسعة النطاق بعيدة الآفاق، فلا غنى في جميع هذه النهضات عن رسل الحماسة والأمل، ولا عن رسل الروية والعمل، ولا استثناء لنهضة واحدة من هذه الشريعة الخالدة: طفرة تصاحبها فكرة، وأمل يقترن به عمل، ثم لا استحالة ولا مستحيل.
كان جمال الدين الأفغاني ينطلق كالعاصفة الثائرة بين أرجاء العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وكان يبذر بذور الثورة حيث حل وحيث رحل كأنه كان يحملها معه في علبة السعوط، وكان معه إمام عظيم لا يقل عنه في القوة والهمة وهو محمد عبده تلميذه الكبير، ولكنه كان يخالفه في الطريقة وكان يرى على الدوام أن تعليم عشرة من المريدين يعلم كل منهما عشرة من أمثاله ينفع العالم الإسلامي حيث لا تنفعه الثورة العاجلة والهجوم السريع، فكان أستاذه وصديقه يجيبه بلسان العطف تارة ولسان المؤاخذة تارة أخرى: أنت مثبط … أنت مثبط يا بني، فهلُم إلى الدعوة، هلُم إلى الفلاح!
لم يخطئ جمال الدين.
ولم يخطئ محمد عبده.
ولكن المطلب عظيم لا يدركه من يطلبونه من طريق واحد، فلا بد من الغيرة الملتهبة ولا بد من العمل الثابت، ومع هذين لا طفرة ولا مستحيل في عظائم الأمور.