خَواطِر في الجمهُوريَّة
الناس جمهوريون، ما لم يعرض لهم عارض قاهر فهم إذن ملكيون.
حقيقة تاريخية، نسيها الناس حتى استغربوها، ولكنها من الحقائق التي يسهل تذكرها؛ لأنها لا تحتاج إلى تعمق بعيد في أغوار التاريخ.
كان أقدم الأنظمة جمهوريًّا متطرفًا إذا صح هذا التعبير؛ لأن الصلة فيه بين الحاكم والمحكوم أوثق وأقرب من صلة الانتخاب، كانت قرابة الدم هي التي تربط بين الراعي والرعية، فكلهم أسرة واحدة، وأحقهم بالولاية عليهم هو أحقهم بالتوقير والطاعة من الجميع.
ثم جاء النظام الملكي في صورته القديمة، بعد اتساع البلاد وتعدد القبائل المحكومة، فكان اضطرارًا لا حيلة فيه.
ومن ضروراته «أولًا» ضرورة الفتح والغلبة، تلك الضرورة التي كانت تلجئ قبيلة إلى اقتحام مواطن القبائل الأخرى، فهي سيادة على الأجنبي وليست سيادة على القبيلة الغالبة.
ومن ضروراته «ثانيًا» بعض العبادات الخرافية التي تفرضها الجهالة من جهة وتفرضها السياسة من جهة أخرى؛ إذ كان الحاكم ملكًا وكاهنًا في وقت واحد، فكان يحكم بأمر الله لا بأمره حتى في ذلك الزمن السحيق.
وكثيرًا ما كان الكاهن يحل محل الملك، فيجعل الملك معبودًا أو شبيهًا بالمعبود، وكأنه بذلك ينكر — من حيث لا يدري — حق الإنسان في التسلط على الإنسان، فلا بد من صفة إلهية لمن يريد أن يستبيح لنفسه القوامة على العباد.
ومن ضروراته المتكررة وجود الأنهار الكبيرة كالنيل والرافدين والكنج واليانجستي في مصر وبابل والهند والصين، فالنظام الملكي إنما استقر قديمًا على بلاد الأنهار الكبيرة؛ لأن السياسة فيها تحتاج إلى سعة واستمرار وشمول للأرض التي تسقيها تلك الأنهار، ولم تكن رياضة الأنهار يومئذ قد أصبحت علمًا تتولاه الدواوين المنتظمة التي يتعاقبها الموظفون بعد الموظفين، بل كانت السلطة الواسعة هي كل ما يتطلبه تنظيم الري من الأنهار الكبيرة على تتابع السنين.
النظام الملكي والأديان
ويمكن أن يُقال إن الأديان الكتابية جميعًا جاءت بعد الأديان الوثنية، فنظرت إلى النظام الملكي نظرة الريب والكراهية.
فالإسلام يعرف المبايعة ولا يعرف الوراثة الملكية، وإشارات القرآن الكريم إلى الملوك تدل دائمًا على الريب والحذر، ولما أشار إلى الحق الذي خوَّل طالوت أن يُملَّك على بني إسرائيل كان ذلك الحق إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ.
ولما طلب بنو إسرائيل ملكًا قال لهم صمويل: «هذا يكون قضاء الملك الذي يملك عليكم، يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه، لمراكبه وفرسانه … ويجعل لنفسه رؤساء ألوف ورؤساء خماسين، فيحرثون حراثته ويحصدون حصاده، ويعملون عدة حربه وأدوات مراكبه، ويأخذ بناتكم عطارات وطباخات وخبازات، ويأخذ حقولكم وكرومكم وزيتونكم من أجودها ويعطيها لعبيده، ويعشِّر زروعكم وكرومكم ليعطي خصيانه وعبيده، ويأخذ عبيدكم وجواريكم وشبانكم الحسان وحميركم ويستعملهم لشغله … فتصرخون من وجه ملككم الذي اخترتموه لأنفسكم، فلا يستجيب الرب في ذلك اليوم.»
ولم يُعرَف عن دين كتابي أنه يؤيِّد الملكية الوراثية، وإنما قام الملك الوراثي على السيف وعلى اتقاء الفتنة حين يُخشَى اختلاف الناس وشيوع الفوضى، ولا يكون قبول الحكم في هذه الحالة إلا اختيارًا لأهون الشرَّين.
الملكية في العصر الحديث
أما اختيار النظام الملكي الوراثي في العصر الحديث فهو مسألة ضرورة أو مسألة شكل وصورة، وتاريخه في القارة التي يحسبونها أقرب القارات إلى الديمقراطية مزدحم بالشواهد والأمثلة على اختيار الضرورة واختيار الشكل والصورة.
فالأمم الأوروبية التي تحررت خلال القرن التاسع عشر إنما اختارت لها ملوكًا منها أو من خارجها؛ لأنها تحررت بسلطان الدول الكبرى، وكانت الدول الكبرى يومئذ متعاقدة على حماية السلطة الملكية لمقاومة المبادئ الثورية، وتلك هي الحركة التي كانوا يسمونها بالحركة الشرعية تمييزًا لها من حركات الغضب والتمرد، فلما تحررت الأمم الأوروبية الصغيرة وأعلنت استقلالها لم يكن في مقدورها أن تتحدى الدول الكبرى، وتتخذ الحكم الجمهوري نظامًا لها على الرغم من تلك الدول التي حققت لها استقلالها.
ولم تكن الأمم المتحررة على اتفاق بينها في الداخل على أسرة من الأسر الوطنية أو دستور من الدساتير الديمقراطية.
فكان اختيارهم للحكم الملكي الموروث أشبه شيء بالاضطرار.
دلالة اسم الملك
والعجب الأعجب في الأمر نظام الحكم الملكي في بلاد الشمال التي تكاد تنفرد اليوم بالمحافظة على هذا النظام.
فاسم الملك نفسه معناه بلغات تلك الأمم «الجمهوري» أو الشعبي أو القومي …!
وقد تحوَّل مجلس العقلاء أو الحكماء أو الشيوخ كبار السن إلى مجلس نيابي يسمى «ركسداج» يرجع تاريخه إلى أوائل القرن الخامس عشر، وقيل في وصف وظائفه إنه يختار الملك ليقمع النبلاء، والشعب والنبلاء معًا يقمعونه ويخلعونه إذا خالف عهده، ولم يكن مَلِك منهم يتولى المُلْك إلا بعقد مكتوب، ولولا العهد الذي التزمه أكبر ملوكهم المحدثين جستاف أدولف لما استوى على عرش بلاده.
والملك في البلاد الإنجليزية بقية من بقايا هذا النظام بين أمم الشمال، وإنما احتفظوا بهذا النظام؛ لأن سلطان العرش عندهم دون سلطان رياسة الجمهورية، ولأنهم يجمعون حول التاج دولة واسعة الأطراف تتفرق فيها الأوطان والأقوام.
مسألة ضرورة
وكذلك كانت بقايا النظام الملكي عند الأمم الأوروبية مسألة ضرورة أو مسألة شكل وصورة، وبقي هذا النظام في أمم الشمال على الخصوص؛ لأنه جمهوري أكثر من الجمهورية.
أما عندنا نحن المصريين فقد بلونا النظام الملكي في أحسن عهوده وبلوناه في أسوأ عهوده، وصحبناه من أقدم الأزمنة يوم كان ضرورة قاهرة بحكم الجغرافية وحكم الواقع، ولم نزل نصحبه حتى قضى الزمن على تلك الضرورة وآل الأمر فيه إلى اختيارنا كما نريد.
ولقد ودعنا النظام الملكي، وهو بحالة لا يأسى عليها أحد، وبلغ من فساده أنه فقد كل مزية للأنظمة الملكية الوراثية، فلم يكفل للأمة استقرارًا ولا ضمانًا ولا وقاها غائلة التقلقل والاضطراب، وأصبح مركز الحكومة أضعف من مركز الخادم الذي يُطرَد في كل ساعة، وزالت الثقة في نفوس الموالين وفي نفوس الخصوم على السواء.
ماذا تختار الأمة؟
ولما ذهب فاروق لم يكن بمصر إنسان واحد على ما نعتقد يريد لبلده سيطرة ملكية أو يريد لولي الأمر حقوقًا أكبر من حقوق رئيس الجمهورية، وإنما أصبحت المسألة مسألة زمن لا مسألة مبدأ ولا عقيدة؛ لأن ملك الطفل أحمد فؤاد الثاني لم يكن حقيقة عملية، ولم يكن له سلطان واقع ولا كان يمكن أن يؤول إليه هذا السلطان في زمن قريب …
ماذا تختار الأمة؟
تختار أن تملك خيارها.
تختار أن تجرب الحكم لنفسها بنفسها، ونحن نستقبل التجربة الجمهورية لأول مرة، وليس في استطاعتنا أن نجعلها أسوأ من التجربة الملكية الأخيرة، فليكن في استطاعتنا أن نجعلها خيرًا منها وأبقى، وستكون خيرًا وأبقى بمشيئة الله.