عَالم الكِتَابة والكُتَّاب في حَاجة إلى التطهِير
نعم؛ تطهير لابد منه في عالم الكتابة، ولعله أوجب من كل تطهير وأنفع من كل تطهير، بل لعل عالم الكتابة أحوج إلى التطهير من كل بيئة نُودِي إلى اليوم بوجوب التطهير فيها.
ولست أرى أن التطهير في عالم الكتابة أوجب وأنفع؛ لأنني أعتقد كما يعتقد بعض المغالين بصناعتهم المفاخرين بأقلامهم أن الكتابة هي المسيطرة على أقدار الشعوب وهي الموكلة بالتذكير والتبشير بغير شريك ولا نظير.
كلا! إن الكتابة قد تكون متأثرة كما تكون مؤثرة، وإنها قد تكون تبعًا لمن حولها كما يتبعها من حولها في أحيان أخرى، وإنما نعتقد وجوب التطهير في عالم الكتابة قبل غيره؛ لأن الكتابة في الأمة صورة للكاتب والقارئ في وقت واحد، فإذا حسنت هذه الصورة فهي علامة حسنة على خلائق الكتاب وعقولهم، وعلامة حسنة كذلك على الأخلاق والأفكار بين أنواع القراء، وما كان صدق الأقلام قط شهادة للكتاب وحدهم؛ إذ لا يستطيع الكاتب الصدق إذا كان القراء جميعًا معرضين عنه غير قادرين على تمييزه أو تفضيله على الباطل والبهتان، فإذا صدرت الأقلام جميعًا عن صدق وأمانة فذلك هو الدليل «أولًا» على حسن الإدراك عند القراء، وأن الفضل فضلهم في صدق كتابتهم ونهوضهم بأمانتهم؛ لأن هؤلاء الكتاب لا يقدرون على الكذب والزور حيث يظهر الكذب والزور لكل قارئ، وحيث يُحاسَب كل كاتب على كذبه وزوره، وحيث يُقابَل بالإعراض فلا تُنفَق له تجارة بينهم بعد ذلك، ولا يُزال عبرة لغيره ممن يكذبون ويزوِّرون، ثم يعلمون أن الصدق فضيلة ومصلحة وليس قصاراه أنه فضيلة وكفى.
تعجبني كلمة لجمال الدين الأفغاني حين قيل له: «إن المستعمرين ذئاب.» فقال: «لو لم يجدوكم نعاجًا لما كانوا ذئابًا!»
وهذه كلمة جديرة بأن تُذكَر ولا تُنسَى كلما تحدث المتحدثون بالجناية على الأمم والجماهير، ويرحم الله البكري؛ حيث قال:
فمن الواجب أن نقول لمن يشكُونَ الظلم وهم قادرون على دفعه: إنكم أنتم الظالمون، بل أنتم أظلم من الظالمين؛ لأن الظالم له عذر فيما يكسبه من ظلمه أو يستطيل به من قوته، وأما أنتم فإنكم تقبلون الظلم وتستديمونه، وإنكم لخاسرون مهانون.
يجب أن نقول لمن يشكُونَ الدجل في الكتابة: إنكم أنتم الملومون وأنتم المسئولون؛ لأن الكاتب الدجال ينتفع ويرتفع، وأما أنتم فإن أدركتم الغفلة وسكتم عليها فأنتم شر من الدجال الذي تنفعه الغفلة وترفعه، وإن مرت بكم الغفلة وأجزتموها فليس المغفل بأفضل من الدجال، وليس الدجال لولاكم بقادر على الاستغفال.
التطهير في الكتابة أوجب وأنفع لهذا، لا لأن الكتابة قوة لا نظير لها في الإصلاح والإفساد.
التطهير في الكتابة دليل على صدق الكاتب ويقظة القارئ، وشهادة حسنة للأفكار والأخلاق بين من يكتبون ومن يقرءون.
ويحزننا أن نقول إن الكتابة في جملتها لم تكن عندنا قط قامعة للطغيان في عهد من العهود، وإنها كثيرًا ما كانت عونًا للطغيان وسترًا له من يقظات العيون والأذهان.
ويجب أن تتطهر …
ويجب أن يشترك في تطهيرها كل من يعنيه تطهيرها وكل من يقدر عليه، ومنه ما يقدر عليه ولاة الأمر، ومنه ما يقدر عليه جمهرة القراء، وكل منهم مسئول عن عمل الكتاب حيث يجترئون على الغش والنفاق، ومن أعمالهم هم حيث يستغلون الغش والنفاق، أو حيث يصابون بهما فيسكتون أو يشجعون.
تطهير الكتابة تطهيران: تطهير من قبل الحكومة وتطهير من قبل الجمهور، ويشمل هذا القول كتابة الصحف كما يشمل كتابة المصنفات والوسائل وكل كتابة منشورة على العموم.
من التطهير الذي تستطيعه الحكومة أن تراجع أضابير الدواوين وتستخرج منها أسماء أصحاب «الرواتب السرية» في عهد كل وزارة غابرة، وأن تحاسب الوزراء الذين أخذوا من خزانة الدولة مالًا باسم «المصاريف السرية» كيف أنفقوه وعلى من وزعوه، وكيف استجازوا أن يستعينوا بمال الأمة على تضليل الأمة وحملها على قبول الرأي المأجور والثناء الزائف والفكرة التي يكتبها الكاتب غير مؤمن بها ولا مخلص في الدفاع عنها.
وليست «المصاريف السرية» هي كل الأجرة التي يُؤجَّر بها أصحاب الأقلام المسخرة والضمائر الخربة، فهناك الوساطات في الصفقات والمنافع، وهناك السمسرة «الأدبية» في الشفاعات والاستثناءات، وكلها فساد ذو حدين: فساد في الوسيط والمنتفع وفيمن يقبل الوساطة من الحكام مخالفة للعدل والقانون في تصريف أمور الدولة، ولولا الوساطة والشفاعة لكان له تصريف فيها غير ذلك التصريف.
في هذه المهمة تقدر الحكومة على مراجعة الأوراق والحسابات وعلى سؤال الموكلين بتوزيع المصروفات وعقد الصفقات.
بل تقدر على كشف الأقلام المأجورة لغير المصروفات السرية من خزانة الدولة، فإن خزائن الأحزاب وخزائن الشركات تنفق الأموال الكثيرة على شراء الأقلام وتسخير الضمائر وترويج النفوذ الذي يسيطر على الحياة العامة من غير الطريق المستقيم، وقد تستطيع الأحزاب والشركات هنا ما لا يستطاع بمصروفات الخزانة؛ لأن مصروفات الخزانة قد تكون اليوم في يد هيئة وقد تكون غدًا في يد خصومها، فهي لا تثابر على خدمة سياسية واحدة ولا تنحصر في غرض واحد، ولكن الشركات تثابر على خطتها وتملك السامع في أزمنة متعاقبة، فهي أقدر على ترويج الأباطيل الباقية وأبلغ ضررًا من الهيئات السياسية في استغلال الغفلة وتسميم الأفكار.
هذه مهمة حكومية يتعين القيام بها على الحكومة التي تتصدى للتطهير وتصدق النية في اقتلاع جذور الفساد.
أما مهمة القراء من جمهرة الناس على اختلاف طبقاتهم فكل ما يطلب منهم أن يحترموا عقولهم، ويضنوا بمصالحهم العامة أن تلعب بها أقلام المأجورين وتلعب بهم معها.
وسهولة المهمة هنا بمقدار سهولة التمييز عند حضرات القراء الموقرين.
عليهم أن يميزوا قليلًا، ولا حاجة إلى تمييز كثير ليطهروا الكتابة من كل قلم لا يعرف غير الثناء على السلطان القائم، ولا يعرف النقد والمذمة إلا إذا تكلم عن السلطان الزائل.
عليهم أن يميزوا قليلًا، ولا حاجة إلى تمييز كثير، ليطهروا الكتابة من كل قلم يكتب دائمًا ليرضي ولا يكتب مرة ليغضب، وإن أغضب بكتابته أحدًا فإنما يغضب الذين لا ينفعون ولا يضرون؛ ليزدلف بذلك إلى القادرين على المنافع والأضرار.
عليهم أن يطهروا الكتابة من كل قلم يجري مع التيار ولا يقف يومًا في وجه التيار، فما من أمة تعجز عن توفير المئات من الأقلام التي تجري مع كل تيار، وقد تحتاج في وقت من الأوقات إلى قلم واحد يقف في وجه التيار فلا تجده، وهو ألزم لها من تلك المئات.
عليهم أن يطهروا الكتابة من الأقلام التي تطلب لأصحابها أكاليل الغار، وهم لا يستحقون من الناس غير أغلال السجون ومذلة الاحتقار.
أقلام تسخرها الدول الأجنبية جواسيس على أوطانها لتفسد سياسة أوطانها وتخدم سياسة تلك الدول، ثم تطالب الناس بشرف البطولة وهي بوصمة الخيانة وعقوبة القانون أولى ما تكون.
ومن التشريف لتلك الأقلام المأجورة أن يُقال عنها إنها تبشر بالمذاهب الهدامة أو بما شاكلها من مذاهب الفوضى، فإن صاحب المذهب الذي يؤمن به يعمل على المصلحة العامة كما يراها وإن أخطأ في تقديرها.
ولكن الوصمة وصمة من يخدم الجاسوسية الأجنبية حيث اتجهت وجهتها، فلا وفاق مع إسبانيا ولا مع تركيا ولا مع الصين الوطنية ولا مع الأمم التي تحاربها تلك الجاسوسية الأجنبية، وقد يصعب تمييز الخيانة حين تكون الحملة منصبَّة على الدول الكبرى؛ لأنها حملة تتلبس بلباس الغيرة الوطنية وتمضي في طريقها … أما الجاسوسية فهي الحملة على كل عدو للدولة التي تنشر شباك الجاسوسية، وإن لم يكونوا أعداء للمصريين في القضية الوطنية، وهي الحملة على كل دولة ما عدا الدولة التي تشتري الأقلام لخدمة مآربها وتسخير الوطنية المصرية لغاياتها.
ونجاة الخائن من جريمة إجحاف معيب، ولكن الإجحاف الذي لا يدانيه إجحاف أن يخرج الخائن متوَّجًا بأكاليل الغار مزفوفًا بأناشيد الأبطال.
وكلما كان المعمول الأكبر في تطهير الكتابة على التمييز والإدراك صغرت تبعة الحكومة وكبرت تبعة الأمة، فلا يجلس أحد في مقعده ويطلب من ولاة الأمر أن يقدِّموا له التطهير لقمة سائغة بين شدقيه، ولا تفعلن كما فعل بنو إسرائيل يوم قالوا لموسى عليه السلام: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ.
كلا! إن هذا القعود لا يجدي في تطهير الكتابة إن كانت له جدوى في تطهير كائنًا ما كان، وإنما الجدوى التي لا جدوى مثلها في تطهير الكتابة أن نطهرها بالتمييز السريع والعقول اليقظى، ويومئذ لا يهمنا كثيرًا ما تصنعه الحكومات وما يصنعه الكتاب وما يصنعه المغرضون الذين يلجئون القانون والرأي العام إلى التطهير.