أزمَة التعليم
كان التلميذ ينجح في امتحان الشهادة الابتدائية فيضمن على الأثر وظيفة في دواوين الحكومة …
وكانت الموسيقى العسكرية تحيي التلميذ المنقول من سنة إلى سنة، ويشهد تسليمه شهادة النقل حفل من كبار الموظفين والأعيان …
وكان التلميذ يُقبَل في السنة الابتدائية بعد العاشرة من عمره …
وكانت الأماكن في المدارس خالية مع كل هذه الرغبات؛ لأن الناس كانوا لا يفرقون بين السخرة والتعليم …
ولم يكن ذلك كله في زمن بعيد …
بل كان معروفًا معهودًا في جهات كثيرة من البلاد المصرية قبيل القرن العشرين ببضع سنوات …
واليوم يتقيد القبول في المدارس المختلفة بالسن ودرجات النجاح ومادة العلم المطلوب، ولا يضمن المتخرج في أعلى المدارس وظيفة في دواوين الحكومة.
ومع هذا تزدحم الأماكن في كل مدرسة، ويشتد الطلب عليها، ولا يزال المطلوب من الأماكن في جميع المدارس أكثر من الموجود.
أتُسمَّى هذه أزمة؟
نعم؛ تُسمَّى أزمة إذا نظرنا إلى الحاضر والمستقبل، ولكننا إذا نظرنا إلى الماضي غير البعيد فهي فرج قريب …
على أننا لا نريد أن ننظر إلى الماضي إذا كان النظر يقنعنا بالحاضر، ويحول بيننا وبين إطلاق الأمل إلى أبعد الحدود …
فلننظر إلى المستقبل!
بل ننظر إلى أبعد مستقبل يمتد إليه البصر، فنرى أن أزمة الأماكن في المدارس إنما هي في الحقيقة «أُزَيْمَة» صغيرة إلى جانب الأزمة الكبيرة التي يجب علينا أن ننظر إليها من الآن؛ وهي أزمة الأماكن في المجتمع المصري لجميع هؤلاء المتعلمين …
هذه أزمة يخافها كثير من المتشائمين الذين يخافون الحياة، ولا يقدمون عليها بثقة الحي الذي يحق له أن يعيش، ويعلم على ثقة أنه سيعيش.
يخافها هؤلاء الخائفون؛ لأنهم يتساءلون: أين يذهب جميع هؤلاء المتعلمين بعد انتهاء الدراسة؟ ألا يُخشَى يومئذ من أزمة عاطلين؟ … ألا يتعرض المجتمع لخطر الثورة كلما تكاثر فيه الشبان الذين يطمحون إلى المجد والمكانة، أو يطلبون الرزق والعمل، ثم لا يجدون أمامهم أعمالًا في المجتمع المصري تستوعب هذا العدد الكبير؟
سؤال تستطيع أن تجيبه بنعم، وتستطيع أن تجيبه بلا، ويتوقف الجواب بهذه أو تلك على المجتمع الذي تتصوره بعد عشر سنين أو بعد عشرين سنة، قياسًا على التطور الدائم الذي رأيناه، والذي نراه وسنراه …
فإذا كان مجتمعنا المصري سيظل على حالة واحدة إلى الأبد «فنعم» هي الجواب الصحيح …
وإذا كان مجتمعنا سيتطور مع الزمن — وهو يتطور فعلًا — فنحن بين أمرين: إما خطر يمكن التغلب عليه عند وجوده، وإما لا خطر على الإطلاق.
لقد كان الشاب المصري يحصر رجاءه كله في الحكومة حين كان التعليم مزية محصورة في بضع مئات أو بضعة ألوف من الشبان …
كان الشاب المصري يومئذ يعتقد أنه إنسان ممتاز، فمن حقه أن يتطلع في المجتمع المصري إلى مكان ممتاز …
أما اليوم، وبعد اليوم، فقد تغير نظر الشاب إلى مزية التعليم وتغير نظره إلى وظيفة الحكومة …
فالتعليم قد أصبح — وسيصبح — قسطًا مشتركًا بين جميع الشبان، فلا مزية فيه لأحد على أحد …
ووظيفة الحكومة قد أصبحت — وستصبح — عملًا لا امتياز فيه، بل لعله أقل ربحًا ومظهرًا من أعمال كثيرة يستطيعها الشبان …
والبركة في الحرب العالمية الأولى، وفي الحرب العالمية الثانية، فإن الشاب المصري يفتح عينيه فيرى أمامه جاهلًا يجمع الثروة التي تُعَدُّ بألوف الجنيهات، وينظر في كل بيئة فيرى مجالًا للسعي والاجتهاد يغنيه عن أبواب الوظائف، ولا يتوقف على أحوال الحروب ومفاجآت الحوادث الخارقة التي تحيط بهذه الحروب.
ففي جانب كل شاب يعلق الأمل على الوظيفة شبان لا يعلقون عليها أملًا ولا يزالون يبحثون عن العمل الحر في مختلف ميادين الحياة …
أعرف صاحب مكتبة يعلم ابنه تعليمًا لا يرشحه لوظيفة من وظائف الحكومة، ولكنه يرشحه أحسن ترشيح للعمل في تجارة أبيه.
وأعرف تاجرًا يعلم أبناءه تعليمًا لا يفتح لهم بابًا من أبواب الدواوين، ولكنه يفتح لهم كل باب من أبواب التجارة ومشروعات الاقتصاد …
وأعرف كثيرين من الشبان كانوا في وظائف الحكومة، وكانوا موعودين بالترقي السريع فيها، فتركوها غير آسفين وأقبلوا على الشركات أو على المرافق الفردية التي يحسنونها، ولم يندموا على ما فعلوه، بل كان إقدامهم هذا مشجعًا لغيرهم من طلاب الحرية والكفاح …
ومن اليوم إلى عشر سنين أو عشرين سنة مقبلة، سيتم كثير من وجوه الإصلاح التي تتطلب جهود الألوف من الشبان، ثم لا تزال تتطلب المزيد.
أرض تُستصلَح للزراعة.
مشروع كهرباء، أو مشروعات عدة للكهرباء، لا تضيق بمن يقصدها من دارسي الهندسة والصناعة.
مصارف وشركات، ومكاتب وساطة داخلية وخارجية تتسع لطلب الرزق والثراء ولا تكلف طلابها شيئًا من العنت الذي يتكلفونه وهم يطرقون أبواب الدواوين.
أُمِّيون يذهبون ويخلفهم قراء ينشدون المعرفة والاطلاع من الصحف والمؤلفات وسائر المطبوعات …
والمعلمون يزدادون، وهذه المرافق تزداد، ويُرجَى أن تكون الزيادة هنا مكافئة للزيادة هناك، وأن يقترن التطور في الأخلاق والنظر إلى قيم الأمور بكل تطور يجري في مطالب العيش وتكاليف الحياة.
وإذا لم يكن هذا فماذا؟
أتكون أزمة؟ أيكون خطر؟
فلتكن أزمة، وليكن خطر، فإنما خُلِقت الأزمات لمن يفرجونها، وخُلِقت الأخطار لمن يكافحونها، وعلى الجيل المقبل أن يضطلع بأزماته وأخطاره، ويخرج منه أصلح وأقوى مما كان، ما دام صالحًا للبقاء قويًّا على احتمال الصدمات …
فإذا سُئِلنا عن شِعار نتخذه لسياسة التعليم، فالشِّعار الوحيد الذي لا نتردد فيه هو: علِّموا وعلِّموا وعلِّموا … علِّموا كل شيء، وعلِّموا كل إنسان، واتركوا الأزمات لقوم متعلمين فذلك خير من أن تتركوها لقوم جهلاء!
والكلمة التي نلقيها في آذان المتعلمين بعد ذلك هي: إن الأزمة الحقيقة اليوم هي أزمة لعلم للعلم، هي أزمة العلم الذي يتعلمه الإنسان لنفسه ولا يكون تعليم المدرسة بالنظر إليه إلا ضربًا من التمهيد والتوجيه …
وستبقى أزمة العلم للعلم باقية، ما دام العلم عندنا علم مظاهر وألقاب، وعلم مراسم وأشكال …
وعساه لا يدوم على هذه الحال …!