العِلم فَيضان ولا بد أن نسبقه بإقامة جسور
اتفق علماء التربية في العصر الحديث على أن تعميم التعليم واجب.
واتفقوا كذلك على أن تعميم التعليم من نوع واحد أمر لا تصلح عليه أمة من الأمم، ولا تحتاج إليه، ولا يتأتى تحقيقه إذا أُرِيد.
وإذا أُرِيد وتأتى تحقيقه فهو ضار شديد الضرر، ولا خير فيه على الإطلاق للأمة في جملتها ولا لآحادها متفرقين.
لأن أبناء الأمة يختلفون في المطالب والرغبات، كما يختلفون في الملكات والأعمال، فمنهم من يتعلم ليشتغل بالصناعة، ومنهم من يتعلم ليشتغل بالزراعة، ومنهم من يتعلم ليشتغل بالتجارة، ومنهم المستعدون للفنون والمستعدون للتوسع في العلوم، وغير ذلك من ضروب الاستعداد.
والذين يشتغلون بالصناعة أو الزراعة أو التجارة يشتغلون بذلك على درجات لا على درجة واحدة، حسب اختلاف الطاقة أو اختلاف الحاجة أو اختلاف طبيعة الإقليم الذين يعيشون فيه.
فهناك تعليم يمكن تصميمه.
وهناك تعليم لا يمكن تعميمه ولا يُطلَب فيه التعميم.
ما الفرق إذن بين التعليمين؟
الفرق بينهما أن التعليم الذي يجب تعميمه لا اختلاف فيه بين طفل وطفل في الاستعداد.
فمهما يكن نصيب الطفل من الذكاء أو قلة الذكاء، ومهما يكن مستقبله من الاتجاه إلى الصناعة أو الاتجاه إلى الفلسفة والعلوم النظرية، فلا غنى له عن نصيب من القراءة والكتابة ونصيب من مبادئ الحساب والجغرافيا وما إليها.
كل طفل بين السابعة والعاشرة، أو ما بعد العاشرة بقليل، يساوي غيره من الأطفال في الحاجة إلى هذا التعليم العام.
ثم يبدأ الاختلاف بين الأطفال حين يتجاوزون الثانية عشرة، فلا يتعلمون على نسق واحد ولا يتساوون في الملكة ولا في المستقبل الذي يتطلعون إليه.
ما هي الوسيلة للتفرقة بينهم على حسب هذا الاختلاف؟
هل نفرق بينهم بمقدار ما يستطيعونه من المصروفات المدرسية؟ هل نفرق بينهم بما عندهم من المال؟
كلا؛ لأنها تفرقة لا تعرفها الديمقراطية ولا تسيغها، بل لا تعرفها التربية الصحيحة ولا السياسة الرشيدة.
وإنما تسيغ الديمقراطية والتربية أن نفرق بينهم على حسب الاستعداد والمزية العقلية.
من ظهر من درجاته المدرسية أنه مستعد للتفوق في العلوم، فالواجب على الدولة أن تمكنه من التوسع فيها، مهما يكن حظه من الثروة أو قلة الثروة.
ومن ظهر من درجاته المدرسية أنه مستعد لغير هذا السلك من التعليم وجب أن يتحول إليه، وأن يكون تعليمه الفني على نفقة الدولة إذا كان من الفقراء.
أما إذا كان أبوه غنيًّا قادرًا على مصروفاته في مدارس التعليم على اختلافها فما هي المصلحة في إعفائه؟ ولماذا نحمل الفقير ضريبة الإنفاق عليه؟
إنها مزاحمة لأبناء الفقراء في حق المجانية، ومساواة للأغنياء بالفقراء ونحن نطلب للفقراء مساواة الأغنياء.
التعليم ليس احتكارًا!
وللمسألة بعد هذا وجه آخر أحق بالاعتبار من كل وجه يتعلق بالمجانية والمصروفات.
المسألة الكبرى هي أن التعليم مهمة قومية ولا يصح أن يكون حكرًا للسلطة في جميع مراحله ودرجاته.
فإذا كان التعليم بالمجَّان في جميع المراحل والدرجات، فمعنى ذلك أنه حكر للحكومة وحدها، وأن مجاله مغلق في وجه العمل الحر والجماعات القومية … وليس هذا من مصلحة الثقافة ولا من مصلحة الحرية الفكرية في شيء.
إن التعليم الثانوي الحر مثلًا لن ينشط ولن يتقدم مع تعميم المجانية في المدارس الثانوية للقادرين وغير القادرين، وللمستعدين له وغير المستعدين.
ومن الجائز أن الدولة تعطي أصحاب المدارس إعانة مالية تعوضهم عن تكاليفهم وتغنيهم عن مصروفات التلاميذ.
ولكننا بهذا نعمل في الحقيقة على «تصفية» المدارس الموجودة ونمد الطريق على من يفكرون في إنشاء المدارس الجديدة، ولن يطول أمد هذه التصفية حتى ينحصر التعليم كله في «الحكر الحكومي»، ويقف التطور في هذه المهمة القومية عند حد يتراجع عنه ولا يتقدم عليه.
والأولى في تقديرنا أن نوفق بين إعانة الحكومة للمدارس الحرة وبين استقلال هذه المدارس في تطورها، فنقصر الإعانة على أبناء الفقراء الذين يتعلمون فيها بالمجان، وندع الأغنياء وواجبهم في تعليم أبنائهم وقدرتهم على إعفاء الدولة من هذا العبء المشترك بين الفقراء والأغنياء.
مهمة قومية …
والرأي الذي أجملته في هذا المقال هو الرأي الذي أخذت به في كل فرصة أُتِيحت في خلال أعمالي النيابية وأعمالي الكتابية.
فهو الرأي الذي أخذت به عند بحث القوانين التعليمية في لجان مجلس الشيوخ ومن قبله لجان مجلس النواب.
وهو الرأي الذي فصلته في الصحف غير مرة، وآخرها مقالي ﺑ «المصور» في الحادي عشر من شهر نوفمبر الماضي، حيث أقول عن تنويع التعليم: «إن أبناء الأمة لم يُخلَقوا جميعًا للتلمذة في المدارس التي نسميها بالمدارس النظرية والمدارس العلمية، ولم يُخلَقوا جميعًا لابتداء التعليم الذي نهايته الجامعة أو المدرسة العالية أو حتى المدرسة الثانوية، فلا بد للبلاد من صناع ولا بد لها من زراع، ولا بد لها من مشتغلين بالبيع والشراء، ومن العبث أن نتكلم عن تدبير المستقبل لأبناء الأمة المصرية كأنهم كلهم تلاميذ نظريون أو علميون.»
وختمت ذلك المقال سائلًا: «هل يغنينا في ارتقاب ذلك اليوم وزير المعارف؟ … بل هل تغنينا الحكومة وما فيها من الوزارات والدواوين؟ … كلا؛ لأن الأمة التي تتمنى على وزير واحد، أو وزارة واحدة، أو عدة وزارات، تتمنى المستحيل.»
وهذه هي المهمة القومية التي نُعنَى بها اليوم، وقد عُنِينا بها على الدوام.
يجب أن يُعمَّم التعليم حيث يتساوى الاستعداد.
يجب أن تُفتَح الأبواب للفقراء المستعدين للعلوم العالية.
يجب أن نفتح للتعليم الحر أبواب التطور والارتقاء.
يجب أن نتخذ الحيطة لاتساع الفصول وتدبير الكفاية من المعلمين.
هذه هي الواجبات التي لا محيد عنها ولا اختلاف عليها.
وزميلنا الدكتور طه حسين يقول حين سألوه عن هذه الحيطة: «إن الجهل حريق، وإن الحريق يعجلنا عن كل احتياط.»
ونحن نقول: إن كلام الدكتور هنا هو كلام الأديب الذي يعتمد على بلاغة التشبيه.
ولكن بلاغة التشبيه تعطينا الشيء ونقيضه في لحظة واحدة، وفي وسعنا أن نمضي مع التشبيهات فنقول: إن العلم فيضان، ولا سلامة مع الفيضان إن لم نسبقه بإقامة الجسور وبناء القناطر وشق الترع وتوزيع المناوبات، وقد كان النيل نفسه خطرًا على مصر حينما استقبلت فيضانه بغير الحيطة اللازمة في عصرنا هذا وفي العصور الخالية، وهي بِنْتُ النِّيل كما قيل بحق في جميع العصور!
وتشبيه الجهل بالحريق لا يعلو في طبقة البلاغة على تشبيه العلم بالفيضان.