الصَّحافة والجنون
رفع صاحبي نظره عن الصحيفة وهو يبتسم، ثم ناولني الصحيفة وأشار إلى موضوع فيها قائلًا: هل قرأت هذا؟
فقرأت ما أشار إليه فإذا هو خبر من واشنطن خلاصته أن أطباء الأمراض العقلية في مستشفى القديسة «اليصابات» نجحوا في علاج الجنون بتدريب المجانين على صناعة الصحافة، وأنهم أنشأوا في المستشفى صحيفة عهدوا في تحريرها وإدارتها إلى مائة وخمسة وسبعين مجنونًا، فأخذوا يشفون من مرضهم واحدًا بعد واحد، وثبت للأطباء أن الصحافة دواء صالح لهذا الداء (داء الجنون).
والتفت إليَّ صاحبي منتظرًا متسائلًا: ما رأيك؟
قلت: معقول؟
قال: لا أفهم ما تعني … ما هو هذا المعقول؟
قلت: إن علاج الجنون بالصحافة في اعتقادي أمر لا غرابة فيه، ولكن الذي أستغربه هو: كيف خطرت هذه الفكرة لطبيب المستشفى أو أطبائه؟ ولماذا اتجهت أذهانهم إلى صناعة الصحافة دون غيرها لعلاج المصابين بعقولهم، فليس هذا بالخاطر الذي يخطر على بال الطبيب بغير مقدمات تدعوه إليه!
قال صاحبي: لعلهم يعتقدون أن الصحافة صنعة مجانين.
قلت: لو اعتقدوا ذلك في أمريكا خاصة لما أخطأوا، فإنك كثيرًا ما تلمس دلائل الجنون الصارخ في الصحف التي تُنشَر على الناس خارج المستشفيات، فإذا عهدوا بهذه الصناعة إلى نزلاء المستشفيات فهي بضاعة رُدَّت إلى أصحابها وإدارة حُصِرت في مكانها!
على أنهم لا يخطئون كثيرًا إذا عمَّموا الحكم على الصناعة كلها ولم يقصروه على الصحافة الأمريكية دون غيرها، فليس من البعيد أن الصحافة تحتاج إلى شيء من الجنون في جميع الأمم، وأن الإنسان لا يملك عقله كله وهو يقبل على هذه الصناعة.
سواء شقي بها أو سعد … فالسعداء فيها ولا ريب أجن من الأشقياء.
قال لي: أيملك عقله رجل يتجرد عن شئونه ليشتغل بشئون الناس؟ أيملك عقله رجل يُخيَّل إليه أنه يشرف على الكون ويصلح أخطاء العالمين؟ أيملك عقله رجل يشبع جنون الفضول في نفوس الجماهير ويزودها أبدًا بما يلبي هذا الفضول ويرضي هذا الجنون …؟ إن لم يكن هؤلاء مجانين فقل على الأقل: إنهم أنصاف مجانين، وإن نزلاء المستشفى يجدون في هذه الصناعة برزخًا بين الجنون والعقل ينتقلون عليه من الجنون المطبق إلى ضرب من الجنون «المعقول»!
قال: فالصحافة إذن هي الجنون المعقول!
قلت: لك أن تقول هذا فلا تخرج من عداد العقلاء، ولك أن تقول غير هذا وتبقى أيضًا في عداد العقلاء.
قال: وما غير هذا؟
قلت: غير هذا هو الذي أظن أن الأطباء قصدوه حين فكروا في اتخاذ الصحافة علاجًا لنزلاء مستشفاهم، فإن في الصحافة عناصر كثيرة من تلك العناصر التي يُداوَى بها مرضى العقول، وأولها الثرثرة والتنفيس عن الضمير المكظوم.
فمن المعلوم أن «الكبت» سبب من أقوى أسباب الجنون: ينطوي الإنسان على نفسه ويطيل كتمان حزنه ويعيد ويبدئ في هواجسه وهمومه، فتفعل فيه هذه الآلام المكبوتة فعل السم القاتل، ويخالط في عقله لا محالة ما لم يسترح من محنته بالنفث والشكاية، أو بالتعبير عنها على وجه من الوجوه.
هنا تسعفه الصحافة على الرغم منه؛ لأنها لا تدع في نفسه ذخيرة مخزونة يبيت عليها وتضطره إلى تصريف ما عنده حتى يقول على غير وعي منه كل ما يريد، بل يبحث أحيانًا عما يقول فإذا هو يقول ما لا يريد.
وهناك عنصر آخر من عناصر الصحافة يساعد على علاج الجنون، وهو: الشعور بالرقابة، والتنبه إلى الجمهور.
فلا يخفى أن المجنون الذي يخرج عاريًا إلى الطريق إنما يفعل ذلك؛ لأنه فقد الإحساس بوجود الناس.
وكذلك تنشأ عادات الجنون غالبًا من فقدان هذا الإحساس على نحو من الأنحاء، فإذا أخذ المجنون في التنبه إلى جمهور يتعقبه ويتابع كلامه فهذا في الحقيقة هو بدء الشفاء، وهذا هو أول عمل الصحافة في تنبيه المجانين إلى وجود الرقباء والقراء.
فلا عجب أن تكون الصحافة علاجًا للجنون.
قال صاحبي: نعم؛ لا عجب، وقد يكون «المصل» الشافي من جرثومة الداء.
والحق أن خبر «المستشفى الأمريكي» جدير بعناية كل طبيب وكل مشتغل بالمسائل النفسية؛ لأنه على ما فيه من دواعي المزاح جد لا شك فيه.
وأحسب أن تجاربنا الصحفية في مصر تؤيِّد هذا الكشف الطريف الذي اهتدى إليه أطباء «القديسة اليصابات».
فإنني واحد من الصحفيين الذين طال اشتغالهم بالصحافة لا أذكر زميلًا واحدًا انتقل من مكاتب الصحف إلى مستشفى المجاذيب، وأذكر على نقيض ذلك رجلًا كان في مستشفى المجاذيب فانتقل إلى مكاتب الصحافة وزاول فيها أعمالًا كثيرة منها التحرير والإدارة والإشراف على المطبعة، فكان مثلًا في الاجتهاد والتوفيق.
وأذكر من تجاربي في الصحافة ما يشهد بفراسة الأطباء الذين اختاروها لجذب المجانين إلى العمل النافع.
فإن فيها لجاذبًا قويًّا لكثير من المجانين والمخبولين، وقلما مضى أسبوع في أيام عملي بالصحافة اليومية لم أتلقَّ فيه خطابًا من مجنون يعرض عليَّ فيه بعض المقترحات أو يشير عليَّ ببعض الموضوعات.
وأعجب ما تلقيت من ذلك ولا أزال أتلقاه أن أحدهم تصدى لإصلاح الكون كله، وأوحي إليه أنني مطالب بكتابة مقالات ثلاث أبشر فيها برسالته وإلا حلت عليَّ لعنة الله وبطلت مهمة الإصلاح، وأنا المسئول!
قلت له: أأنت نبيٌّ؟
قال: أكثر من نبي، أنا ملهم الأنبياء.
قلت: ولكن إذا كانت رسالتك كلها تتوقف على مقالات ثلاث أكتبها فأنا أقوى منك وأجدر بالنبوة، وأشهد أمامك إنني لست من الأنبياء ولا من الأولياء.
فلم يقنعه كلامي وما زاد على أن قال: إنما هي أسباب، إنما هي أسباب …
وحدث مرة أنني كنت أعمل في الصحيفة التي أزامل فيها طليق المستشفى الذي أشرت إليه، فلم أدرِ ذات يوم إلا ومجنون شارد العينين يهجم على مكتبي وهو يصيح: اكتب عندك، لقد منعوني من دخول الديوان.
فسألته: أي ديوان؟
قال: ديوان رياسة الوزارة.
قلت: ومن تكون أنت؟
قال: ألا تعلم؟ أنا صاحب الدولة رئيس الوزراء.
قلت في ذات نفسي: لا يفل الحديد إلا الحديد، وبالغت في الاعتذار إليه وأنا أدعو بالفرَّاش ليقوده إلى مكتب ذلك الزميل، وأرجوه أن يعفيني من كتابة الخبر؛ لأن مقامي في الصحيفة لا يسمح لي بالتعرض لهذه الأخبار الجسام، وإنما هي من اختصاص المحرر الذي أرسله إليه.
ولم تنقضِ خمس دقائق حتى كانت الصحيفة من أعلاها إلى أدناها تعجُّ بصوتين متعاليين لا يفهم أحد ما يقولان: صوت صاحب الدولة المطرود من ديوانه، وصوت زميلنا المطرود — لحسن حظه وحظي — من مستشفى المجاذيب!
إنها لفكرة عبقرية تلك الفكرة التي أوحت إلى أطباء واشنطن أن يستغلوا جاذب الصحافة في علاج المجاذيب، وأكبر الظن أنهم وقعوا عليها؛ لأنهم يفهمون جيدًا ما هو المجذوب! يفهمونه بمشاركة في شيء من الأشياء، لا بمجرد العلم والتجريب!