مَلكان ومَرضَان
وأعراض هذا المرض عند «بلولر» هي فقدان التجاوب العاطفي بين المريض ومن حوله وما حوله، والاستسلام أحيانًا والتصلب أحيانًا أخرى، وبدوات التفكير التي تخالف القياس المنطقي، والوساوس التي تعاود صاحبه كلما صدمته الوقائع أو لغير سبب ظاهر في كثير من الأوقات.
وقبل أن يصل الملك طلال إلى القاهرة للعلاج في مستشفياتها لحق به ملك مصر نفسها ونزل عن العرش لأسباب غير أسباب المرض، وهي استجابة رغبات الأمة التي أعرب عنها الجيش في بيانه.
على أن فاروقًا في رأي الكثيرين لم يسلم من مرض نفسي كمرض طلال أو من قبيله، وقد ازداد الظن باختلاله وثوقًا على أثر الأخبار التي عُلِمت عن أطواره المجهولة مما كان يطلع عليه خاصته ويكتمونه أو ينشرون ما يناقضه.
وقيل: إن بعض الأطباء الأجانب لحظوا أعراض الاختلال على تكوينه بعد الكشف عن إصابته في حادث القصاصين، وقيل: إن عشراءه كانوا يشهدون منه على الدوام نزوات عنيفة لا تصدر عن العقلاء.
ونحن على اعتقادنا أن التوصيف الطبي يساعد كثيرًا على تمييز هذه الأمراض نعلم أن مجال التقديرات الفكرية لم يزل متسعًا جدًّا لغير المتخصصين في المسائل النفسية؛ لأن المعول الأكبر فيها على شواهد الأعمال وقرائن العادات والمألوفات.
وربما كان جنون القسوة من آفات فاروق، ولكنه لا يغني عن سبب آخر يُرجَع إليه.
أما جنون السرقة فمن شرائطه الغالبة حب الاختلاس والإخفاء، وقد كانت آفة فاروق أقرب إلى السطو منها إلى السرقة المختلسة، وعلة الحالتين فيما نرى أنه أضعف من أن يقاوم الإغراء كلما ألمح شيئًا يحب أن يحتجنه ويدخله في حوزته، وذلك مرض آخر سنعود إليه.
وأما جنون الشهرة الذي يُنسَب إلى «الساتير» فهو دوافع غريزة وليس مجرد مظاهرات وتمثيليات كما يُفهَم من أطوار فاروق في قصص المغامرات والشهوات، إن المرض الأصيل الذي غلب على طبيعة فاروق فيما نعلم هو (توقف النمو).
وتوقف النمو هذا مرض كثير الشُّعَب متعدد المقاييس، فقد يكون الإنسان رجلًا مستوفيًا نموه الجسدي وهو مع ذلك طفل في نموه الاجتماعي أو العقلي، وقد يكون ناقص النمو في جميع هذه الوظائف بالقياس إلى إنسان آخر في مثل سنه وظروفه.
ومن أشد آفات هذا المرض أن يكبر الرجل، ولا يزال شعوره نحو أبيه خاصة شعور الطفل نحو الأب الذي يعوله ولا يقوى على فراقه.
وقد يتخذ له بديلًا من الأب يركز حوله شعوره ويتعلق به، ولا يطيق الانفصال عنه أو نسيانه والتغاضي عن ذكره، وهذه هي حالة التشبث.
ويجوز أن يكون هذا البديل هو ضريح أبيه أو صورته أو أثرًا من آثاره التذكارية يحتفظ به الابن احتفاظًا جنونيًّا لا يفسره مجرد الحب الأبوي أو الوفاء.
ومما لا شك فيه أن فاروقًا كان مصابًا بهذه الآفة على أشدها، وكانت غرائبه كلها تدور عليها، فقلما حدث حادث سياسي إلا ذكر فيه أباه، وقلما تكلم عن مشروع إلا أشار فيه إلى رغبات أبيه، وقلما عرضت مناسبة إلا ذهب فيها لزيارة ضريحه وبكى عنده أو تباكى بعد الوفاة بسنوات.
هذه الآفة من شأنها دائمًا أن تشعر صاحبها بقصوره وتلعج نفسه «بمركب النقص» الذي يدفعه إلى إظهار القوة وإظهار القسوة والشك في كل أحد غير «محور التشبث»، كأنه يتهمهم جميعًا ولا يلقي باعتماده الباطن كله على غير هذا المحور.
وهذه الآفة، من جانب ما فيها من توقف النمو، تقترن بدوافع كدوافع الطفولة التي تحب أن تضم كل شيء إلى حوزتها علانية أو خلسة دون أن تشعر بغرابة عملها، وهذه هي الأعراض التي تلتبس بأعراض «الكلبتومانيا» أي: جنون السرقة، وليست هي جنون السرقة بعينه في سائر الأعراض.
إن «التشبث» الناشئ من توقف النمو يفسر لنا قسوة فاروق كما يفسر لنا ولعه بالاستيلاء على كل ما يراه، ويفسر لنا كذلك مظاهراته وتمثيلياته التي حسبها بعضهم من جنون الشهوة، فما هي في حقيقتها إلا «مركب نقص» في طبيعة لا تشعر باستيفاء كيانها، فهي تتخلص من ألم النقص بتلك المظاهرات والتمثيليات.
ومن المرجح أن يكون الاختلال المقترن بأمثال هذه الآفات كامنًا بالوراثة تضاف إليه الطوارئ الاجتماعية والشخصية، فينكشف على درجات، أو ينكشف دفعة واحدة في بعض الأطوار.
وقد حصرت مراحل العمر التي تكشف عن الجنون الكامن في أسنان ثلاث: سن المراهقة وهي من الحادية عشرة إلى السادسة عشرة، وسن النضج وهي من العشرين إلى نحو السادسة والعشرين، وسن اليأس أو سن الحرج وهي في الرجال بين الخامسة والأربعين والخمسين، وقد تتأخر إلى الستين وما بعد الستين.
وقد تكون العوامل الاجتماعية والعوامل الشخصية مضاعفة للآفات الكامنة أو معجلة بظهورها واستشراء أمرها، فإذا كان الأب هو «محور التشبث» في نفس المريض فمن العوامل التي تضاعف هذا التشبث أن ينقطع التعاطف بينه وبين أقربائه أو يحدث منهم ما يذله ويحيره، ويدفعه إلى المزيد من التعلق بذكرى أبيه، وإذا اتفق أن الابن فقد أباه وهو قاصر، يعلم قصوره وتذكره به الظروف، فمن المؤكد أنه لا يتخلص من هذا الشعور بسهولة كما كان خليقًا أن يتخلص منه لو كبر ونما حتى يكون سلطان الأب مضايقًا له دافعًا به إلى التمرد عليه.
ومن المؤكد كذلك أن الإلحاح على البنية بالسهر والإجهاد والتعرض للمخاوف والمقلقات حائل دون الشفاء، ومدد جديد للعلة، ومعجل لظهورها قبل الأوان.
ومن كان ملكًا يصنع ما يروقه ويأبى أن يحاسب نفسه ويتعالى أن يحاسبه غيره أو يستمع إلى ثناء المتملقين وينفر من نصيحة المخلصين، فقد أطبقت عليه البلية وامتنعت عليه سبل النجاة، وصحت فيه قولة قالها أبو تمام، لا تُنسَى في عبرة من عبر الأيام الجسام:
أعاننا الله على بلاء النعم قبل بلاء النقم، ووقانا مزالق السراء والضراء حيث نشاء وحيث لا نشاء.