حُريَّةُ القَلم والرِّيشة والإزمِيل
حرية الرأي قوة لا تقف في طريقها قوة.
ومن الخطأ أن يُقال إن حرية الرأي كانت محبوسة أو مقيدة في عصور التاريخ القديم، فإن الواقع أنه لم يكن هناك رأي، فلم ينطلق الرأي لأنه غير موجود أو غير قادر على الانطلاق، ولم تدعُ حاجة من الحاجات العامة إلى حبسه أو تقييده.
فلما وُجِد الرأي وُجِدت حرية الرأي على الأثر؛ لأن السلاح نفسه ينكسر في وجه الرأي الحر ولا يصمد لمقاومته، وليس من الميسور لأحد أن يحكم بقوة السلاح عشرات الملايين من الآدميين الذين يخالفونه في الرأي؛ لأن الحكم يتطلب أشياء كثيرًا غير إخضاع المحكومين بالقوة، ولأن أصحاب القوة أنفسهم قد يسري إليهم رأي المحكومين فيضم القوة إليه.
وكان الناس قديمًا يحكمون على حسب حاجتهم إلى الأمن والمعيشة لا على حسب حاجتهم إلى الرأي والمذاهب الفكرية.
كان المحكومون لا يطلبون نوعًا من الحكومة غير الذي يطلبه الحاكمون، فكان الراعي والمرعي متفقين على قاعدة الحكم أو على أصول الحكومة، وكان غضب المحكومين غضبًا على أشخاص يسيئون سياس الرعية، ولم يكن ثورة على الأصول التي تقوم عليها سياسة الدولة.
فإذا ثاروا فليست هي ثورة رأي ولا دعوة إلى فكرة جديدة، ولكنها ثورة قوة مادية على قوة مادية من نوعها، ثورة أجساد على أجساد، لا ثورة عقول على عقول أو أفهام على أفهام.
أما السلطة الدينية في الزمن القديم فقد كانت سلطة مطلقة يوم كانت «معلومات» المتدينين لا تدعوهم إلى الشك في العقائد التي تعززها تلك السلطة، فلما وُجِد الشك وُجِدت الحرية معه ووُجِدت على قدره، واتفق كثيرًا أن عقيدة جديدة تنقض عقيدة قديمة، فكان يتفق أيضًا أن تجري العقيدة الجديدة في مجراها على حسب تمكنها من النفوس، وإن وقفت لها قوة السلاح بالمرصاد.
ثم نما نصيب الفرد من الحرية على حسب نصيبه من العلم والمعرفة والدوافع النفسية، فأصبح الإنسان يحكم برأيه ولا يكفي في سياسته أن يحكم على حسب حاجته إلى الأمن والمعيشة، بل أصبح له رأي في الخطط التي يستقر عليها الأمن وتحسن بها المعيشة، فبلغت حرية الرأي قوتها التي لا تصمد لها قوة، ولا تزال في ازدياد كلما ازدادت مع الزمن حرية الآحاد.
وكان قسط الفنون من هذه الحرية على حسب حاجتها إلى الصراحة من جهة، وعلى حسب الخطر منها على ذوي السلطة من جهة أخرى.
فكان الجهاد في سبيل حرية القلم أظهر من الجهاد في سبيل حرية الريشة والإزميل، وكان سبقها إلى طلب الحرية على ترتيب صراحتها وخطرها، فسبق اللسان ثم تلاه القلم، ثم تلته الريشة والإزميل ثم تلاها المعزف؛ لأنه أقل الفنون حاجة إلى جهاد السلطة والمتسلطين.
سبق اللسان لأنه كان قبل المطبعة أقوى من القلم، وكان هو أداة الخطاب الأولى بين طالب الحرية ومن يخاطبهم ليطلبوها مثله.
ثم جاء دور القلم حين شاعت القراءة وشاعت وسائل نقلها إلى العدد الأكبر من المتعلمين.
ولم تكن بالريشة أو الإزميل حاجة إلى مثل هذا الجهاد في طلب الحرية؛ لأن الصورة تجمع بين الحاكم والمحكوم في تعبير واحد أو تعبير متقارب، فإذا كانت صورة ثائرة تصدى لها من يمنعها، ووجب لها في هذه الحالة جهاد الألسنة والأقلام.
أما الموسيقى فهي لغة إنسانية عامة، وهي لهذا تتكلم بكل لسان ويغلب فيها الجانب المشترك بين جميع الناس على الجانب الذي ينفرد به الآحاد.
ولسنا نعني بذلك أن فنون التصوير والنحت لا تعاني حجرًا أو تقييدًا في زمن من الأزمان، ولكننا نعني به أن الحجر يصيبها من أصحابها قبل أن يصيبها من سلطة غاشمة أو دولة قائمة، فلا تزعج الحاكمين ولا يضيرهم أن يقع الخلاف بينها وبينهم إلى زمن طويل.
ويقع الحجر على الفنون الجميلة من الشعوب المحكومة قبل أن تستهدف له من الحاكم المسيطر عليها.
فإذا جمد الشعور، وفترت النفوس، وقصرت الهمم، وضاق أفق الخيال، فهي التي تحجر على الفن الجميل من غير حاجة إلى سلطان أو تشريع، ويأتي عمل السلطان والتشريع في الحجر عليها تابعًا لعمل الرعية، وهو في الواقع أحرى أن يسمى عجزًا عن العمل وانصرافًا إلى الدعة والجمود.
فالفن المصري كان في عهد العظمة الفرعونية لا يلقى عنتًا من الفراعنة العظام وهم في ذلك العهد أرباب يُعبَدون.
فلما انقضى عهد العظمة وأعقبته عهود الضعف والخمول جاءته القيود من أصحابه، وجاء الحجر على صناعة التماثيل من المثَّالِين، وكان المثالون عنوانًا للشعب كله في جمود شعوره وعجزه عن تذوق الفن الجميل على إطلاقه، وهذه هي الفترة التي أصبح فيها التمثال البشري مجموعة من المقاييس المقررة بين حجم الرأس وأحجام سائر الأعضاء، وبين طول الذراع وطول الساق، أو طول الكف وطول القدم، على نحو لا يختلف بين إنسان وإنسان، وإن رأى المثال بعينه أن التمثال يخالف صاحبه في هذه المقاييس.
ويحدث في صناعة المعزف ما يحدث في صناعة الريشة والإزميل، فيسري الجمود إلى ألحان من جمود السامعين والمستمعين، ولا يسري إليها كثير من جمود رجل السياسة أو جمود رجل الدين، وينتهي الأمر بالحس الجامد في صناعة الألحان إلى مقاييس محفوظة كمقاييس المثالين التي يفرضونها على نسب الأجسام والأعضاء، فلا يأتي اللحن معبرًا عن شعور لأنه لا شعور، ولكنه يأتي على حسب المقاييس المفروضة لكل نغمة ولكل مقام، أو يأتي آليًّا يخرج من آلات، ولا يأتي إنسانيًّا يخرج من قلوب ونفوس.
ويُخيَّل إلينا أننا وصلنا في هذا العصر إلى حالة لا نتكلم فيها عن الحرية ولا عن الحجر على الحرية فيما يرجع إلى الفنون الجميلة، ولكننا نتكلم عن «البطر» في استخدام الحرية الفنية، فإن الشبع من الحرية قد وصل إلى حد «البطر» الذي يُخشَى منه على جمال الفن كما كان يُخشَى عليه قديمًا من الحجر والتقيد أو من الجمود والخمول، وكلا الطرفين يلتقيان، كما يُقال.
فمن البطر في الحرية تلك المذاهب السخيفة التي تبتلي فنون الكتابة والتصوير والغناء في هذا الزمن بنكسة من نكسات السقم والاعوجاج لا موجب لها، إلا أن الفنان قد ملك الحرية كلها فظن أنه يفعل ما يشاء.
كان الأديب يستخدم الرمز في الخرافات والأمثال والحكم التي هي من قبيل حكم لقمان؛ لأنه كان في خوف على نفسه من ذوي السلطان، فأصبح لدينا في العصر الحديث من يتعسفون الرموز لغير حاجة، ثم تسألهم عن المعنى الذي أرادوه فإذا هو «أولًا» معنى لا يؤديه ذلك التعبير، وإذا هو بعد ذلك معنى يُقال في لفظ صريح وعبارة واضحة، لا يلجئ أحدًا إلى اللف وراء الرموز.
وكان الهمجي يرسم الإنسان أو الحيوان في صورة شائهة؛ لأنه لا يحسن الرسم ولا يعرف تمثيل المنظور في الظل والنور، فأصبح لدينا في العصر الحديث من يشوهون أشكال الإنسان والحيوان ويرسمون رجلًا أو امرأة، فلا يعرف أحد — ولو كان من المصورين — من هو ذلك الرجل ومن هي تلك المرأة … وتسألهم فيقولون لك: إنه مذهب المستقبليين أو مذهب فوق الواقعيين، وإنهم ينقلون عن الوعي الباطن الذي يتشدقون به ولا يعرفونه، ولا يعرفون أهو وعي باطن الراسم أو وعي باطن المرسوم، ويتمادون في ذلك مدرسة بعد مدرسة، وفنانًا يسابق فنانًا في الإيهام والتشويه، كأنما التصوير فن من فنون التنجيم، أو كأنما الوعي الباطن قد ألغى الحس الظاهر، أو كأنما الوعي الباطن مخترع حديث لم يصحب الإنسان منذ كان، أو كأنما المصور أقدم من أصحاب الصناعات في هذا المضمار، وهو إن لم يحسن النظر بعينه إلى الأشكال والظلال فليس له حجة في ادعاء ملكة غير هذه الملكة بحق صناعة التصوير.
هذا هو دور البطر، وهو يصيب جمال الفن كما يصيبه فَقْدُ الحرية، ولكننا نعود فنقول: إن الحرية الفنية أقوى من القيود وأقوى من البطر، وهي التي يصح فيها أن نستعيد كلمة سليمان الحكيم فنقول: إنها هي أقوى من الموت نفسه؛ لأن النفس البشرية في سبيل حريتها تقتحم سدود الموت، ثم تقهر الموت بالخلود في عالم الفنون.