كيفَ يكون التجديد في الشِّعر؟
إذا أوجزنا قلنا إن التجديد هو اجتناب التقليد، فكل شاعر يعبر عن شعوره ويصدق في تعبيره فهو مجدد وإن تناول أقدم الأشياء، هل شيء في هذا العالم الأرضي أقدم من الشمس؟ إن الذي يصفها اليوم صادقًا في وصفه غير مقلد في تصويره مجدد تام التجديد، وإن لم يأتِ بكلام جديد.
هكذا تجدد الشمس النهار، ويجدد الأرض الربيع، ويجدد الشباب الأمل والحب جيلًا بعد جيل.
وليست الدنيا عتيقة بالية؛ لأنها تجيئنا كل عام بربيع كالربيع الذي تقدَّمه، وليس الشاعر عتيفًا باليًا؛ لأنه يجيئنا بذلك الربيع كما جاءت به الدنيا في حينه، موصوفًا على الصورة التي عهدها آدم في جنة الفردوس، ثم عهدها أبناؤه في جناتهم على هذه الغبراء؟ … التجديد — في كلمتين — هو اجتناب التقليد.
أما إذا تعمدنا الأسباب والتفصيل، وتناولنا عناصر الشعر جميعًا فهي مختلفة في قبولها للتجديد، أو مختلفة على الأصح في حاجتها إلى التجديد.
هذه العناصر هي اللفظ والوزن والموضوع، وهي على هذا الترتيب في حاجتها إلى التجديد مع الزمن؛ فاللفظ الذي يتألف منه الشعر يبقى ألف سنة ولا يطرأ عليه تغيير يُذكَر، ويصلح في هذه الحالة لشعر امرئ القيس كما يصلح لشعر البارودي، مع قليل من التحوير أو التحريف الذي لا يلتفت إليه إلا المختصون بتعجيل أطوار الكلمات.
ونعني باللفظ هنا المفردات في غير الجمل والأبيات، وهي المفردات التي تطرأ عليها الزيادة القليلة كل بضعة قرون، أو يطرأ عليها اختلاف الاستعمال من فترة إلى فترة في حياة اللغة الواحدة، ولا بد للشاعر من متابعة هذه الأطوار، وقد يكون هو عاملًا من عوامل الزيادة والتصرف في الكلمات.
إلا أن الجهد في تجديد المفردات يظل على الدوام أقل وأهون من الجهد في تجديد الأوزان وتجديد الموضوعات، فالمعجم الشعري اليوم قريب من المعجم الشعري في عهد أصحاب المعلقات، أما الوزن فقد اختلف في عدد البحور، واختلف في عدد القوافي، ولا يزال قابلًا للاختلاف، وفي حاجة إلى الاختلاف.
كانت أوزان الشعر في الجاهلية قليلة البحور، وكانت القصيدة الواحدة قليلة الأبيات، ثم تعددت البحور ومجزوءاتها، وتضاعف عدد الأبيات في القصيدة الواحدة، وطرأ التنويع على القافية في الرجز ثم في التسميط والتوشيح، ثم انتهينا إلى العصر الحديث فظهر بيننا من دعاة التجديد من يدعو إلى إلغاء القافية ونظم الشعر مرسلًا أو مطلقًا على الطريقة الأوروبية، ولكنها دعوة لم يُكتَب لها النجاح، ولا نظنها جديرة بالنجاح في المستقبل؛ لأن أعاريض الشعر العربي تستلزم القافية من حيث لا تلزم الأعاريض الأوروبية، وقد يكون الإطلاق من القافية في الأعاريض الأوروبية نفسها مقصورًا على المطولات والملاحم التي تصلح للقراءة وقلما تصلح للسماع، والشعر قبل كل شيء سماع.
والذي نعتقده أو نشعر به أن تنويع القوافي أوفق للشعر العربي من إرساله بغير قافية، وأنه يقبل التنويع في أوزان المصاريع والمقطوعات على أسلوب الموشحات، فيتسع للمعاني المختلفة والموضوعات المطولة، ولا ينفصل عن الموسيقية التي نشأ فيها ودرج عليها، ولعلنا لا نحتاج إلى تيسير أوسع من هذا التيسير، كائنًا ما كان موضوع القصيد وإن طال غاية المطال.
تجديد قليل في اللفظ، وتجديد أكثر منه في الوزن، وتجديد أكثر من هذين التجديدين في الموضوع، فكيف يكون هذا التجديد في الموضوع؟
إن صرف الشعر إلى الاجتماعيات والأحداث العامة رأي من الآراء في تجديد الموضوعات الشعرية، ويقترن به رأي آخر ينادي بالطابع الإقليمي في الشعر خاصة وفي الأدب عامة، ويقول آخرون بالشعر المسرحي أو شعر القصة المسرحية وغير المسرحية، وكل هذه الآراء مقبولة من ناحية، مرفوضة من ناحية؛ لأن العبرة في الشعر بالملكة التي توحي معانيه، وليست العبرة بالعنوان الذي تختاره لموضوعاته، كعنوان المسرحية أو عنوان الشعر الإقليمي، أو عنوان الشئون الاجتماعية والمسائل العالمية.
ونحن إذا نظرنا إلى الشعر من ناحية الملكة التي توحيه وجدنا أن ملكة الشعر الغنائي قد لازمت القصيدة العربية من نشأتها الأولى، فهي تتردد بين نغمات الغزل والفخر والحماسة والرثاء، أو تتردد بين ألوان الشعور الفردي البسيط، ويندر أن تتخطاه إلى الشعور المركب المتوشج، وهو الشعور المتجاوب بين عدة نفوس على عدة أمزجة وفي عدة حالات.
فإذا كان للتجديد في موضوع الشعر وجهة فهذه هي الوجهة التي أمامنا، ولتكن سبيلها الرواية المسرحية أو الحادثة العالمية أو الأوصاف الإقليمية، فإنما العبرة بالملكة التي توحي المعاني في جميع الموضوعات، وليست بالعناوين التي نخلعها على هذه الموضوعات.
والفرق بين الشعر الغنائي والشعر المركب المتجاوب هو الفرق بين الربابة وبين الفرقة الموسيقية التي نسمع منها عشرات المعازف في نغمات متعددة مع التناسق بينها والوحدة في مجموعها، وينبغي أن نذكر هنا أن التنوع والتجاوب هما المقصودان بالتصرف والتجديد، وليس المقصود هو كثرة الآلات التي تعزف عليها في وقت واحد، فإن ألف ربابة توقع لنا لحنًا واحدًا هي أسلوب ساذج بغير تصرف، وقد يكون التصرف كل التصرف في ربابة ومزمار ودف وقيان تختلف وتتجاوب وتفلح في الارتفاع بالشعور من البساطة والانفراد إلى التجاوب والتركيب.
ولكن الخير أن نبقى كما نحن، وأن نقصر نظمنا على الشعر الغنائي، إذا كنا ننظم في الموضوعات الجديدة تقليدًا للذين سبقونا إلى النظم فيها، فإن التقليد نقيض التجديد، والدرهم الصحيح أنفس من الدينار الزائف، يحكي الزائف الذهب باللون والصورة ولا يحكيه بالمعدن والقيمة.
ومن أمثلة الدعوات الزائفة إلى التجديد أن يسمع بعضنا بالشعر الإقليمي في اللغة الإنجليزية — وأكثره من شعر الأمريكيين — فيخطر له أن الشعر الإقليمي اختراع واختيار، وينسى أنه واقع طبيعي لا محل لفرضه على الشعراء؛ حيث لا تفرضه عليهم طبيعة الحياة، وفي أمريكا أقاليم لا تتشابه في الموقع ولا في المكان ولا في المعيشة، فهم لا يختارون الإقليمية في الشعر ولا في الجغرافية، ونحن هنا لن نستطيع أن نزرع قمحًا في التربة المصرية دون أن يصبح قمحًا إقليميًّا باختيارنا أو بغير اختيارنا، ومن قال لشاعر «كُنْ إقليميًّا»، فقد قال له «كن مقلدًا»، ولكنه إذا كان من طبيعته منتميًا إلى إقليمه فلا حاجة به إلى الأمر والإرشاد.
كذلك يقول بعضهم متعجبًا: هل توحي حرب طروادة إلى هوميروس بالإلياذة ولا تظهر في العصر الحديث إلياذة أضخم منها بعد الحرب العالمية العظمى؟
ولو كان هؤلاء القائلون يفهمون وحي الابتكار في الشعر لما خطر لهم أن شاعرًا عصريًّا ينبغي أن ينظم إلياذة في الحرب العالمية؛ لأن شاعرًا قديمًا نظم إلياذة في حرب طروادة، من أين لهم مثلًا أن هوميروس كان ينظم في الحرب العالمية إلياذة لو أنه عاش في زماننا؟
من أين لهم أن ضخامة الحرب هي التي توحي بالنظم فيها؟ فقد تكون الحرب بين عشرين فارسًا متقابلين أعنف في إثارة النفس من حرب الملايين بين الخنادق لا يشهد بضعهم بعضًا، ولا يعرفون من الحركة غير ضغط الزناد!
كذلك لا يفقه التجديد من يحسب أن الشعر المسرحي — حيث كان — أرفع من الشعر الغنائي في كل موضوع؛ فإن الشاعر المسرحي الذي لا يرسم لك شخصية واحدة صحيحة أقل من الشاعر الغنائي الذي يتحدث لك عن غناء البلبل فيصدقك الحديث والشعور، فكل فضل الشاعر في الملكة التي توحي إليه شعره دون العناوين التي يطلقها على موضوعاته، ونحن لا نفضل الشاعر المسرحي على الشاعر الغنائي إلا لأن الشاعر المسرحي يستطيع شعر الغناء ويستطيع زيادة عليه، وهذه الزيادة عليه هي الحس المتجاوب في النفوس المتعددة، فإن كان يملك هذا الحس فهو صاحب الفضل بهذه الملكة أيًّا كان الموضوع الذي يختاره لنظمه، وإن لم يملكها فالموضوع لا يعطيه ملكة هو محروم منها.
وإذا كان التجديد هو اجتناب التقليد، فالتجديد هو اجتناب الاختلاق، والمختلق هو كل من يجدد ليخالف، وإن لم يكن هناك موجب للخلاف، إن الذي يمشي على يديه يأتي بجديد ويدل على براعة لا يستطيعها من يمشي على قدميه، ولكننا قد نضع في يده درهمًا وقد نزج به في مستشفى المجاذيب، ولا نمشي على الأيدي من أجل تلك البراعة وذلك الاختلاف أو الاختلاق.
نجدد فلا نقلد ولا نختلق، ونحن مجددون كما ينبغي — وكأحسن ما ينبغي — إذا خرجنا بالشعر العربي من لحن الربابة إلى لحن الفرقة الموسيقية، شعورًا منا بتعدد النغمات النفسية، لا مجرد المباهاة بكثرة المعازف وإيقاع الضجيج.