معْرَاج الشِّعر
سألني محرر أدبي صديق عن رأيي في مقام شوقي وحافظ من شعراء العرب وشعراء العالم، وهل غيَّر الزمن من رأيي في الشاعرين؟ وجواب هذا السؤال يرجع بي إلى أول رأي كتبته في شعر شوقي وحافظ قبل نيف وثلاثين سنة، وهو مثبت في كتيب صغير لي طبعته في سنة ١٩١٢، ودونت آراءه وملاحظاته قبل ذلك بسنوات، وأسميته «خلاصة اليومية».
كان من عاداتي — وأنا دون العشرين — أن أدون مذكراتي اليومية في «نوطة» صغيرة لا تفارقني، وكان كل هذه المذكرات يدور على الخواطر التي أفكر فيها، والموضوعات التي أنوي كتابتها أو مراجعتها، ومن ذاك ما كتبته عن تعريف الشاعر كما كنت أفهمه يومئذ، وذاك أن اسم الشاعر بلغتنا «يشير إلى تعريفه»، ولعل معجمًا من معاجم اللغات لا يتضمن اسمًا للشاعر أدل على مسماه من اسمه في اللغة العربية … فقد عرفنا أن وزن الأعاريض غير قرض الشعر، ولكن من هو الشاعر؟ أهو المُقصِّد الذي لا يعجز عن ترصيع قصائده بما يبهر ويخلب من الخواطر البراقة والمعاني الخطابية المتلألئة؟ كلا؛ هذا شاعر يذكرني بصاحب ذوق مبهرج يريد أن يزين غرفته بالرسوم فيرصص سجوفها وحوائطها بالإطارات والكفافات، حتى لا يبرز منها قرن أو تظهر فيها زاوية، أو بذاك المصور الذي يصبع رسمه ببهي النقوش وبهيج الألوان ليبهر بها أبصار الناظرين، أو بتلك القروية التي تحلي يديها فتدس عشر أصابعها في أنابيب من مختلف الخواتم والفصوص، فليس الشاعر من يزن التفاعيل؛ ذلك ناظم أو غير ناثر، وليس الشاعر بصاحب الكلام الفخم واللفظ الجزل؛ ذلك ليس بشاعر أكثر مما هو كاتب أو خطيب؛ وليس الشاعر من يأتي برائع المجازات وبعد التصورات؛ ذلك رجل ثاقب الذهن حديد الخيال، إنما الشاعر من يشعر ويشعر …
ولقد ضاع الشعر العربي بين قوم صرفوه في تجنيس الألفاظ، وقوم صرفوه في تزويق المعاني، فما كان شعرًا بالمعنى الحقيقي إلا في أيام الجاهليين والمخضرمين على ضيق دائرة المعاني عندهم، وسيعود كذلك في هذه الأيام على أيدي أفاضل شعراء العصر.
وقد فسرت معنى الشاعر بالشعور في لغتنا كما قلت؛ لأن بعض الباحثين يردُّون الكلمة إلى مادة الغناء في بعض اللغات السامية.
كذلك كان مقياس الشاعر في اعتقادي قبل نيف وثلاثين سنة، وبهذا المقياس كنت أقيس شوقيًّا وحافظًا حين كتبت عنهما ما كتبته في «خلاصة اليومية»، فقلت عن حافظ: «يعجبني منه ذاك الجلال» وإن كنت أعتقد أن الجلال الظاهر لا يتطلب من شعرائه سموًّا في المشاعر أو أفضلية لها على شعراء الجمال، فعندي أن إدراك الجمال ينبغي له تهذيب في النفس ودقة في الذوق لا تُكتسَبان إلا مع العلم ومعاينة ثمرات الفنون؛ ذلك لي استقامة الفطرة وسلامة الطبع، وليس كذلك الجلال، فإنه لقوته الضاغطة على الحواس يضطر النفس إلى الشعور به قسرًا ما دامت على استعداد له، ويندر أن تَعْرى نفس عن استعداد للشعور بالجلال … وأما فيما عدا ذلك فشعر حافظ، كما قال فيه الدكتور شميل — ولم يرد أن يطريه — كالبنيان المرصوص متين لا تجد فيه متهدمًا: «فهو يعتمد في تعبيره على متانة التركيب وجودة الأسلوب أكثر من اعتماده على الابتداع أو الخيال.»
وكنت أعيب «رسميات» شوقي دائمًا أو تقليدياته؛ فكتبت أعقِّب على رثائه لبطرس غالي باشا بعد انقضاء سنة على وفاته، وفيه يقول:
فقلت: أكان يريد أن يقول إن زائري قبر الرجل، وفيهم ساداته الأمراء والوزراء والعظماء والعلماء … كلهم ممن كانوا يقصدون من ناديه موئلًا وكهف رجاء يستعطون من أريحية ساكنه الجواد ويستدرُّون من أفضاله؟! أم أراد أن يقول كما قال الناس في هذا المعنى فأخطأ التقليد؟! أم لعله كان لا يريد أن يقول شيئًا؟! أم تراه يحسب أنهم ملكوا عليه حتى دموع عينيه، وأنه نائحة المعية، أتى ليرثي كل من يموت من خدامها بغير مقابل؟!
هذا الرأي في الشعر، وهذا الميل إلى الشاعرين، لم يتغيرا كثيرًا منذ نيف وثلاثين سنة، ولكنني أرجع فيهما إلى مقاييس أعم وأوسع من المقاييس التي كنت أرجع إليها يومذاك، وفاقًا لما اختبرته واطلعت عليه طوال تلك السنين، أما هذه المقاييس فهي في جملتها ثلاثة ألخصها فيما يلي:
- فأولها: أن الشعر قيمة إنسانية وليس بقيمة لسانية؛ لأنه وُجِد عند كل قبيل وبين الناطقين بكل لسان، فإذا جادت القصيدة من الشعر فهي جيدة في كل لغة، وإذا تُرجِمت القصيدة المطبوعة تفقد مزاياها الشعرية بالترجمة إلَّا على فرض واحد، وهو أن المترجم لا يساوي الناظم في نفسه وموسيقاه، ولكنه إذا ساواه في هذه القدرة لم تفقد القصيدة مزية من مزاياها المطبوعة أو المصنوعة، كما نرى في ترجمة فتزجيرالد لرباعيات الخيام.
- وثانيها: أن القصيدة بنية حية وليست قطعًا متناثرة يجمعها إطار واحد، فليس من الشعر الرفيع شعر تغير أوضاع الأبيات فيه ولا تحس منه ثمَّ تغييرًا في قصد الشاعر ومعناه.
- وثالثها: أن الشعر تعبير، وأن الشاعر الذي لا يعبر عن نفسه صانع وليس بذي سليقة إنسانية، فإذا قرأت ديوان الشاعر ولم تعرفه منه، ولم تتمثل لك «شخصية» صادقة لصاحبه، فهو إلى التنسيق أقرب منه إلى التعبير.
وإذا عرضت الشاعرين — شوقيًّا وحافظًا — على هذه المقاييس الثلاثة صح أن تقول: إن حافظًا أشعر ولكنَّ شوقيًّا أقدر؛ لأن ديوان حافظ هو سجل حياته الباطنة لا مراء، أما ديوان شوقي فهو «كسوة التشريفة» التي يمثل بها الرجل أمام الأنظار، وليس هو من حقيقة حياته في كثير ولا قليل، وقد يبدو بعض العجب عند بعض القراء لقولنا: إن حافظًا أشعر ولكن شوقيًّا أقدر، فيحسبون أنه تناقض في الحكم على الشاعرين ولا تناقض هناك، ولعلنا ندفع شبهة التناقض بمثل قريب في عالم الحس؛ لأن أمثلة المحسوس أوضح من أمثلة المعقول، فالحرير أغلى من الكتان، ولكن الكسوة السليمة المحكمة من الكتان أفضل وأجمل من كسوة الحرير التي لا تلائم لابسها ولا تخلو من التمزيق والتلوث، وهكذا نتخيل الفرق بين شوقي وحافظ، فإن شوقيًّا ولا شك أذكى وأعلم وأصنع، ولكن حافظًا يعيش في نطاقه المحدود خيرًا من معيشة شوقي في نطاقه الواسع، ويعبر عنه أصدق من تعبيره.
وقد اختلف النقاد في المقابلة بين الشاعرين وبين شعراء العربية أو الشرق المتقدمين، فشوقي نفسه يتشبه بأبي نواس، ويسمي بيته كرمة «ابن هانئ» في بعض شعره: «وأني نواسي هذا الزمان.»
ومن النقاد من يقرن بينه وبين المتنبي لولوعه بالحكمة وتسيير الأمثال.
ومن النقاد من يقرن بينه وبين البحتري لسلاسة النظم وطلاوة اللفظ وحلاوة الأسلوب، ولا سيما بعد أن نظم شوقي سينيته التي يعارض بها سينية البحتري في الإيوان.
والحقيقة أن الشبه بين شوقي وأبي نواس بعيد؛ لأنك تقرأ أبياتًا من هنا وأبياتًا من هناك في ديوان أبي نواس فلا يفوتك أن تعرفه على حقيقته في السر والعلانية، ولا يعجزك إذا كنت من المتصورين أن تطبع له صورة في خيالك ثم تطبعها على القرطاس، ولكنك تقرأ دواوين شوقي كلها فلا تخرج منها بصفة صادقة عن الرجل، لا في السجية ولا في التفكير.
وكذلك لا شبه على الإطلاق بين شوقي وأبي الطيب، وإن كثرت الحكمة في ديوان هذا وديوان ذاك؛ لأن حكمة أبي الطيب منتزعة من تجارب نفسه وحسه، وما من بيت له — ولو كان مستعارًا في معناه — إلا وأنت مستطيع أن تجد له مصداقًا من سيرة الرجل، أو مما اختبره وتحراه، وليست حكم شوقي من هذا القبيل؛ لأنها مظهر للقسط المشترك بين المتمثلين بمظاهر الأخلاق.
والشبه بعيد كذلك بين شوقي والبحتري، فإن وقفة البحتري على الإيوان أو على البركة، أو على قصر المتوكل من وحي الصناعة، وبروز الصناعة في شعره لا ينفي عنه الطبع الذي يمثله لك في ديوانه إنسانًا معروف الملامح النفسية مشتركًا معك في حياة كل يوم.
إنما شوقي في مجال التشبيه هو مسلم بن الوليد في العصر الحديث، وحسبك أن تقرأ لابن الوليد مثلًا:
لتنسبه بغير عسر إلى من قال:
والخطأ في تشبيه حافظ بالأقدمين كالخطأ في تشبيه شوقي، فحسبك مثلًا أنه شبه بحافظ الشيرازي لاتفاق الاسمين كما قال البارودي:
وبين الحافظين أبعد مما بين تخوم مصر وتخوم إيران.
وقد شبهوه مرة بالأخطل، ومرة بأبي تمام، وليس في مزاجه ولا في كلامه نسب إلى هذين، ولعله أشبه الشعراء بعلي بن الجهم بين العباسيين، وإن لم تكن لابن الجهم تلك الفكاهة التي اشتهر بها حافظ في حياته الخاصة، ولم يكثر منها في منظوماته.
ويصعب جدًّا أن نختار لشوقي وحافظ مكانًا صالحًا لهما بين الشعراء العالميين، أو بين الشعراء الغربيين، وليست المسألة هنا مسألة مفاضلة، بل مسألة تباين واختلاف، فربما كان شوقي وحافظ أفضل من كثيرين من الشعراء المعدودين في بعض الأقطار الأوروبية، ولكن المقابلة بينهما وبين أولئك الشعراء كالمقابلة بين ثمرة وثمرة تختلفان في المنبت واللون والمذاق، على أننا نستطيع أن نشبه حافظًا بين شعراء الإنجليز بإسكندر بوب، ونشبه شوقيًّا بجون درايدن ويفهم العارفون بهذين الشاعرين وجوه الشبه التي نعنيها.
ولا يتسع المقام لتعريفهما إلى من يجهل اللغة الإنجليزية، ويكفي أن نقول: إن وجه الشبه الأكبر يرجع إلى مقدار «ظهور الشخصية» في هذا وذاك، ولا يتجاوز ذلك إلى مدى الثقافة والذكاء.
ومقطع الرأي في شوقي وحافظ عندنا أنهما كانا ولا يزالان يستويان على أرفع القمم العالمية بين نهاية التقليد وبداية التجديد، وأن ما نقص منهما في الجديد تقابله زيادة في القديم.