شوقي في الميزان … بَعد خمس وعشرين سَنة
ما هو أدب التجديد؟
باتفاق الآراء يمكن أن يُقال إنه الأدب الذي فيه شيء مستمد من قريحة الأديب.
وما هو أدب التقليد؟
هو — بهذا المقياس نفسه — كل أدب لا عمل فيه للأديب غير نقل الأشكال والقوالب وحكاية المعاني والألفاظ.
وبهذا القياس للتجديد والتقليد نحسب أن ربع القرن الذي مضى بعد وفاة الشاعر شوقي قد عرفناه بمكانه وقد وضعه في ذلك المكان.
فهو إمام المدرسة الوسطى بين المقلدين والمجددين، أو هو إمام مدرسة نستطيع أن نسميها بمدرسة «التقليد المبتكر أو التقليد المستقل». ونقول بذلك شيئًا يفهمه الناقد الذي يفهم درجات التطور من الجمود على القديم إلى ابتداع الخلق والإنشاء مستقلًّا عن كل محاكاة.
لم يكن شوقي من المقلدين الآليين الذين يلتزمون حدود المحاكاة الشكلية ولا يزيدون.
ولم يكن من المجددين الذين يعطون من عندهم كل ما أعطوه من معنى وتعبير.
ولكنه كان يقلد ويتصرف، وكان تصرفه يخرجه من زمرة الناقلين الناسخين، ولكنه لا يسلكه في عداد المبدعين الخالقين الذين تنطبع لهم «ملامح نفس مميزة» على كل ما صاغوه من منظوم ومنثور.
فهو قد نشط بالشعر من جمود الصيغ المطروقة والمعاني المكررة، ولكنه لم يستطع أن ينتقل به من شعر القوالب العامة إلى شعر «الشخصية» الخاصة التي لا تخفى معالمها ولا تلتبس بغيرها، فلا «شخصية» هناك في قصائده ولا في رواياته، ولا يخصه شيء من شعره إذا صرفنا النظر عن براعة القالب وطلاوة اللفظ ونغمة الأداء.
لهذا تقرأ مائة قصيدة لشوقي ولا تستخرج منها «ملامح شخصية» غير ملامح المبدع الصناع.
ولهذا يمدح شوقي من مدحهم ويرثي من رثاهم وهم عشرات من مختلف الأعمال والأدوار، ولا تكاد تميزهم من شعره بغير ما ميزتهم به الأسماء والأرقام والعناوين.
ولهذا يعرض لنا الأبطال في رواياته كأنهم «الخامات» التاريخية بغير تصوير من الخيال أو صقل من القريحة، إلا أن يكون تصويرًا يفهمه القارئ كما يفهمه من مطالعة التواريخ.
خلاصة القول فيه: إنه مقلد مبتكر، أو أنه مبتكر مقلد، فلا هو يقتفي آثار الأقدمين ولا ينفرد بملامحه الشخصية في التعبير عن نفسه أو التعبير عن سواه.
وقد ضربت المثل لهذا النوع من التقليد في مقال عن الأدب المصري في نصف قرن، فقلت: إن الثري الذي ينافس زميله فيأتي بسيارة من طراز سيارته لا يُقال عنه إنه مستعير منه ولا إنه دونه في الثروة والوجاهة، ولكنه كذلك لا يُقال عنه إنه مستقل عن ذلك الزميل كل الاستقلال؛ لأنه لم يكن ليأتي بتلك السيارة من ذلك الطراز — لو لم يسبقه إليها ولم يكن به حرص على محاكاته والظهور بمظهره كما شاء له قبل أن يشاء لنفسه.
وننقل هذا المثل إلى الشعر الذي انعقدت فيه المقارنة بين شوقي وأنداده من الشعراء الأقدمين؛ لأنه عارضهم فيه بالوزن أو الموضوع.
فقد وازن بعض النقاد بين سينية شوقي في الأندلس وسينية البحتري في الإيوان، وقال بعض هؤلاء النقاد: إنه سبق بها البحتري في بلاغة لفظه وجودة معناه وحداثة تشبيهاته، وليس بنا في هذا الصدد أن نرجع إحدى القصيدتين على هذا المنوال، فإن الشوقية قد ترجح البحترية في كل شيء ويبقى بعد ذلك فضل الابتكار المستقل للبحتري غير منازع فيه، لا لأنه سبق صاحبه في الزمن فذلك ما لا فضل فيه للمتقدم ولا حيلة فيه للمتأخر، ولكن لأن وصف الآثار التاريخية قالب محفوظ يترسمه شوقي ولا يكلفه كثيرًا ولا قليلًا من جرأة الخيال ولا من اقتحام الإبداع …
أما البحتري — الشاعر العربي — فلم يكن ليفهم أن خرائب فارس تستحق في قريحته ما تستحقه أطلال سعدى ولبنى لولا جرأة في الخيال، وتصرف في الشعور وإحساس صحيح ببواعث الشعر حيث كان.
وعلى هذا يقول من شاء: إن قوالب شوقي لا تقل عن قوالب المبرزين من الشعراء الأقدمين، ولكنه في «ملامحه الشخصية» يغيب عن النظر حيث تبدو الملامح الواضحة لكل شاعر من أولئك الشعراء.
على أن القاعدة هنا تتفتح للاستثناء على سنة القواعد في الأدب وفي جميع الأمور.
والاستثناء الذي نعنيه شعرٌ ظهر لشوقي في أخريات أيامه وازدياد ظهوره بعد وفاته، وكاد يهمله جامعو الديوان وهو في اعتقادنا أحق باب فيه بالإثبات؛ لأنه الباب الوحيد الذي يُحسَب من شعر الملامح الشخصية بين سائر الأبواب.
ذلك هو باب القصائد الفكاهية التي كان ينظمها شوقي ويطويها، ولم يكن يعرض لها في أوائل عهده بالنظم إلا على غير احتفال منه في فلتات بعد فلتات.
من هذه القصائد ما نظمه في «المحجوبيات»، ومنها ما نظمه قبل ذلك بين فترة وفترة على غير انتظام.
وبين أطراف هذه المحجوبيات قوله في سيارة الدكتور:
ومثله قوله في براغيث محجوب:
وأقدم من هذه المحجوبيات قليلًا قوله في رحلة غاندي إلى مؤتمر المائدة المستديرة:
وقوله يخاطب البحر الأبيض المتوسط:
وقوله في هرب الخليفة عبد المجيد على سفينة إنجليزية:
وقوله في معرض الرياحين بباريس:
وفي هذه القصيدة يقول:
فهذه الفكاهات وأشباهها هي الباب الوحيد الذي ظهر فيه شوقي بملامحه الشخصية؛ لأنه أرسل نفسه فيه على سجيته وانطلق من حكم المظهر والصنعة والقوالب العرفية التي تنطوي فيها ملامح الشخصية وراء المراسم والتقاليد.
وهنا يبرز للقارئ من ملامح شوقي ما لم يبرز له من جميع دواوينه ورواياته، فيراه بما جُبِل عليه من حب الحيلة والعمل الخفي والاستراحة إلى مقالب النكاية التي تنطوي في الدعابة، ويرى كيف يدور وعيه الباطن ويدور ليتحدث عن حيلة الحاوي واختلاس المستعمر وابتلاع أمواه البحار وسرقة الكرم والزهر من الفردوس ومكامن البراغيث في حفائر الأسنان.
غير أن القوالب هنا تتسلل بحكم العادة إلى السليقة فتفرض عليها وجودها في إبان انطلاقها من قيودها، وكذلك يقول شوقي عن الكرم: إن المصورين كادوا أن ينطقوه مع أن الكرم الأصيل لا ينطق ولا يُسمَع له صوت، ولكنه مشى مع مبالغات التشبيه فقال عن صورة الكرم كما يُقال عن صور الإنسان والحيوان.
ومن قبيل هذه النزعة القالبية أنه يسأل البحر الأبيض أن يبلع ماءه؛ لأن المستعمرين يريدون أن يبلعوه، وهو لو أصبح بغير ماء لوطئه المستعمرون بغير عناء.
إلا أن هذه المقطوعات الفكاهية التي لُصِقت بالديوان كأنها نافلة فيه قد حلت منه في محل أصيل لا غنى عنه لإنصاف شاعرية الشاعر، وإنصاف الموازين التي اعتمدنا عليها في نقد شعر زملائه في أول دعوتنا الأدبية، فمن هذه المقطوعات يظهر الفارق في كلام الشاعر الواحد بين الشعر الذي يستوحيه من سجيته ويستودعه ملامح نفسه وبين الشعر الذي تغلب عليه القوالب العامة بغير تمييز بين الطبائع والخصائص النفسية، وقد كان لشوقي نصيبه من وحي الشخصية حين ينطق معه بغير قيد من قيود العرف والتقليد، ولكن نطاق المدرسة التي كان يمثلها — وهي مدرسة التقليد المبتكر — لم يكن ليتسع في وقته لمزيد من الاستقلال أو المزيد من مقاومة البديهة المتحررة من بقايا الزمن القديم.
وقد مضت خمس وعشرون سنة بعد وفاة شوقي — رحمه الله — لم تغير من حقائق أدبه ولا من حقائق الأدب على الإجمال شيئًا من جوهرها الصميم، ولكنها غيرت من نظرات القراء كما غيرت من شعورهم وموازين ثقافتهم، فهم اليوم أقرب إلى الحدود الواضحة في مسائل الأدب التي كانت ملتبسة الحدود قبل جيل أو جيلين.
كانوا قبل خمسين سنة يطلقون اسم الأدب الجديد على أدب لا جديد فيه إلا أنه مخالف لما قبله.
وكانوا قبل عشر سنوات يطلقون اسم أدب التقليد على كل أدب يجري على أصل من الأصول، ولا ينطلق مع الفوضى والإباحة إلى غير غاية.
فالآن نستطيع أن نفرق بين القواعد والقيود، فنعلم أن القواعد لازمة لكل فن، وأنها لا تمنع شخصية الشاعر أن تستوفي تعبيرها عن ذاتها كما تشاء، ونعلم أن التحرر من القواعد فوضى ولكن التحرر من القيود حرية وابتكار.
وقد دعونا إلى التجديد قبيل الحرب العالمية لنقول ذلك بالأسلوب الذي ارتضيناه أو ارتضاه المقام، وكان أسلوبًا يوجبه علينا أننا كنا نخترق السدود ونحارب سوء الفهم وسوء النية في وقت واحد، فمن كان يؤمن بحق الدعوة في أسلوبها على حسب العوامل الخلقية — أو النفسية — التي تحيط بها فله أن يحقق تاريخ الفترة ليقضي لنا أو علينا فيما اخترناه من وسيلة لإبلاغ دعوتنا، ومن كان لا يؤمن بحق للعوامل الخلقية والنفسية في هذه الدعوات فلا يعنينا ما يرى أو ما يقول.
ورأينا في أدب شوقي بعد خمس وعشرين سنة من وفاته — رحمه الله — أنه خير مصداق لموازين النقد التي اتخذناها لتصحيح الآراء في تلك الفترة، فليس من الحق أن يُقال إن الشاعر كان مقلدًا كمن سبقه من المقلدين، ولا إنه كان مجددًا مستقل القريحة واضح الاستقلال بملامحه الشخصية، ولكنه كان في مرحلة التقليد المنصرف إمامًا يحمل العلم ويسبق كثيرًا من المبتكرين في ميدانه، وهو ميدان الصناعة المتجددة على نهج السلف القديم.