ظاهرة النسخ في الوحي
والآية المشار إليها لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا جاءت في عَتْبِ الله تعالى على نبيه الكريم ﷺ، في الآيات: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (الإسراء: ٧٣-٧٤)، ثم نجد تبريرًا قرآنيًّا لما حدث، لا مجال فيه لخلط أو لبس، يوضح أن الشيطان — لعنه الله — انتهز فرصة تمني النبي القربَ من قومه، فتدخل في الوحي إبَّان تلقيه، وألقى إليه بتلك الآيات الفظيعة، فنسخها تعالى بالآيات الصادقة. ويعلمنا الله تعالى أن ذلك ليس أمرًا جديدًا ولا غريبًا؛ فقد كان الشيطان يفعلها مع أي نبي من الأنبياء والرسل المكرمين إذا تمنى أحدهم ذات الأمنية أو مثلها، وقد جاء هذا الإيضاح المبين في قوله جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ (الحج: ٥٢).
هذا ما كان من أمر حديث الغرانيق، وما كان من إيضاحات القرآن الكريم لما حدث، ولكن ما يعنينا ونهتم به ويدخل في إطار بحوثنا، بعيدًا عن بحوث المغيبات الدينية ذاتها، التي لها ميدانها وفرسانها، هو قراءة الواقع الذي حدثت فيه الحادثة، ومعرفة الظروف التي لابستها. لنفهم كيف كان القصد من الأمر فتنة قوم في قلوبهم مرض، وكيف قست قلوب آخرين فتم اختبارهم وفرزهم. وبالإطلال على تلك الفترة الزمكانية نرى الواقع لم يفرز بعد عددًا من الحواجز بين النبي وقومه، لكن كانت هناك حواجز قد قامت بالفعل، كانت من وجهة نظر المشركين هي الحواجز الأساسية والحاسمة. والمعلوم أن قريشًا لم تكن تختلف مع المصطفى ﷺ حول المسألة العقدية الأولى لدعوته، وهي الإيمان بإله واحد يحيي ويميت يخلق ويرزق، ومصدر علمنا بذلك من القرآن الكريم ذاته، والذي شهد لهم بذلك في عدد من الآيات المكرمة، ومن تلك الآيات: وَلَئِن سَأَلْتَهُم منْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (العنكبوت: ٦١)، قُلْ مَن ربُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (المؤمنون: ٨٦-٨٧)، وغير تلك الآيات بذات المعنى كثير. لكن وجه الخلاف، والحاجز الكبير، كان يتمثل في دعوة النبي ﷺ لإسقاط شفاعة الشفعاء من أرباب العرب.
وهكذا كان معنى أن يلغي محمد ﷺ الشفعاء، هو إلغاء الحاجز الأخير بين القبائل وبعضها، وإسقاط الرمز القوي السيادي المتماهي مع السيد الأرستقراطي هذا ناهيك عن نظرتهم إلى النبي ﷺ بحسبانه يسعى إلى إلغاء سادة القبائل من شفعاء، ليصبح هو السيد الأوحد لكل القبائل، لتنتقل له وحده الشفاعة، من حيث كونه صاحب العلاقة مع الله وليس الشفعاء ولا الكهان ولا التجار. أي صاحب القرار القاطع والنهائي الناطق باسم الله، وذلك عبر الشهادة له بأنه رسول الله، هو ما يتهدد مصالحهم التجارية جميعًا بالدمار.
وفي ظل ذلك الوضع يمكن قراءة حديث الغرانيق مرة أخرى، ففي تلك الظروف، ومع مهاجرة الأتباع للحبشة، ومع قسوة الواقع ومرارته، ومع الغربة وسط الأهل، ومع الظرف النفسي الذي — لا بد — تركته تلك الأوضاع في النبي ﷺ، تمنى، فتدخل الشيطان، فقال ما قال، فتبعته قريش وخاصة سادتها الذين تواجدوا تلك اللحظة بالحرم؛ لأنه هكذا لن يمس الأمر مصالحهم، فسجدوا بسجود النبي ﷺ، وصلوا معه صلاته. وهنا كانت الفتنة المقصودة بقول الآيات: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً للَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مرَضٌ. وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ (الحج: ٥٣). والقلوب كانت آنذاك بمعنى العقول، أي الذين لا يفقهون ولا يدركون المرامي البعيدة لدعوة النبي ﷺ، تلك المرامي التي سبق أن أدركها العقلاء منهم رغم عدم إيمانهم، وأفادوهم بها، وشرحوها لهم، وهو ما لمسناه في قول عتبة بن ربيعة لهم بعد أن التقى النبي ﷺ، وأدرك الأهداف الكبرى للدعوة، ولا شك أن عتبة بن ربيعة، وهو أحد الأرستقراطيين الكبار، قد أدرك الأبعاد الكبرى للدعوة، والتي كانت تبغي توحيدهم جميعًا في دولة كبرى تناجز الروم والعجم، دون إضرار بمصالحهم التجارية، وهو ما حدث بعد ذلك بالفعل. بل وبعد انتصار الدعوة تم تمكين هذه المصالح وتقويتها ودعمها، فالنبي بعد فتح مكة لم يضمن للمكيين مكانتهم بين العرب فقط، بل ضمن لقريش ولزعامتها مركزهما في الإسلام. والناظر لفتح مكة بقليل من وضوح الرؤية يكتشف أن فتح مكة لم يكن هزيمة لقريش، وهو الأمر الذي نلحظه في تذمر الأنصار، ثم بعد ذلك عمل النبي ﷺ بنفسه على تكريس الوضع الاجتماعي القائم، عن طريق الأعطيات والإقطاعات، ثم دعم الوحي ذلك بتكريس الملكية الفردية: وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ، بل قدم عقلنة واضحة للتفاوت الطبقي كما في قوله تعالى: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا ممْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (النحل: ٧٥)، ناهيك عن إعادة سر التفاوت الطبقي إلى التقدير الإلهي في قوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ليَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ (الأنعام: ١٦٥).
لكن رغم أهمية هذه الرؤية وعلميتها، التي تحرص على الالتزام بمنهج الدراسة العلمية وشروطه، كما تحرص في ذات الوقت على النص ومفهومه، فقد كان واضحًا أنها سقطت في شراك المنظومات القديمة وقوالبها الجاهزة، فتشابكت معها. رغم ما أبداه الأستاذ الدكتور من حذر وتحذير من سيطرة مثل تلك المنظومات والقوالب على الباحث، في مقدمة كتابه المذكور، ورغم حرصه الشديد على التعامل مع النص القرآني كنص أدبي، ورغم إشارته إلى ارتباط هذا النص بواقع جزيرة العرب زمن تواتر ذلك النص وحيًا. إلا أن تلك الإشارة لم تفصح عمليًّا عن ذاتها بشكل واضح وجلى في موضوعه عن النسخ. وإزاء تشابك تلك الرؤية مع القوالب القديمة، فإن الأستاذ الدكتور لم يمد الخيط إلى طرفه الأخير، أو بالأحرى إلى الحدود الممكنة وكانت متاحة، لولا أنه سلم مقدمًا بالتقسيم التقليدي لظاهرة النسخ في القرآن الكريم. أقصد اللوحة الثلاثية التي تقول: إن هناك أولًا «ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته»، بمعنى أن هناك آيات في الكتاب الكريم قائمة بلفظها، وإن بطل العمل بحكمها، بموجب آيات أخرى جاءت بحكم جديد نسخ الآيات القديمة. وثانيًا «ما نُسخت تلاوته وبقي حكمه»، بمعنى أن هناك آيات كانت معروفة في حياة النبي ﷺ ويعمل بحكمها، لكن في ظروف بعينها تم نسخ تلاوتها أي لفظها أو نصها، بينما بقي حكمها معمولًا به بعد وفاة النبي ﷺ، وهي الحالة التي تجد نموذجها الأمثل في حكم الرجم على الزاني والزانية إذا ما أحصن، أي إذا كان متزوجًا. أما الحالة الثالثة فهي «ما نُسخ حكمه وتلاوته معًا»، فلم يعد له وجود بين آيات القرآن الكريم، ولم يعد يعمل بحكمه أيضًا. هذا بينما نجد — بنظرة مدققة — فيما جاء من أخبار، ما يفيد أن هناك أحداثًا وظروفًا جدت، فتفاعل معها الوحي، إضافة إلى أحداث جدت بعد الوحي، وذلك إبان عملية جمع القرآن، بحيث أدى هذا كله في النهاية إلى القرآن النهائي الموجود بين أيدينا الآن، المصحف العثماني نسبة إلى عثمان بن عفان، ولم يأخذ المجتهدون في التعامل مع ظاهرة النسخ تلك الأحداث والظروف بحساباتهم، رغم إشارتهم لها، وذلك نتيجة الإصرار على التعامل مع القرآن الكريم كنص أزلي الوجود، مما انتهى بهم إلى اختراع اللوحة الثلاثية. ومن هنا سنحاول فهم واقع الحال مرة أخرى، مرتبطًا بمراحل تواتر الوحي، ومن خلال الإشارات والشذرات والشهادات التي قدمها علماؤنا القدامى، والتي تشير إلى ما حدث خلال ثلاثة وعشرين عامًا، استغرقها تواتر الوحي القرآني، وكانت كفيلة بالتعامل معه كنص تاريخي، إضافة لكونه نصًّا عقديًّا وأدبيًّا.
ولقد كان تواتر الوحي خلال تلك الفترة الزمنية، مفرقًا ومنجمًا، تواصلًا مستمرًا مع الواقع آنذاك، وتفاعلًا مع المستحدثات الظروفية، وهو ما كان معترض المشركين الأساس، والذي سجلته الآيات الكريمة في قولها: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (الفرقان: ٣٢)، وهي حجة تتسق مع الرؤية المثالية لمفهوم الألوهية ومفهوم النبوة، حيث يتسم فيها الله بالثبات المطلق، وبحيث تثبت كلماته دفعة واحدة، فلا تتبدل ولا تتغير، بحسبان كلام الله ثابتًا ثبات ذاته. وهي ذات الرؤية التي استندت إليها قراءة السالفين من علماء المسلمين في الكتاب الكريم، دون أن يلتفتوا إلى أن ذلك يمكن — بالفعل — أن يدمر مفهوم النص ذاته، بحسب ما نبَّه إليه د. نصر أبو زيد. هذا بينما، كانت سيولة القرآن الكريم، وتدفقه على مراحل حسب المناسبة والظروف، مطابقة مستمرة ودائمة بالمتغير الموضوعي، بحيث لم يُترك النبي وبين يديه نص أولى أزلي واحد، يواجه به الواقع الذي لا يتوقف عن التغاير، ومن هنا استكملت الآيات إيضاحها في قولها: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتَيلًا (الفرقان: ٣٢).
لقد تحولت النبوة عن نهج الإبهار بالإعجاز الساحر، فلم تأخذ بعصا سحرية تفعل الأعاجيب، ولا بتمتمات تحيي الموتى، وإنما أصحبت فرزًا صادقًا يتطابق مع واقعها الزمكاني، وهو ما جعل الوحي بالنسبة للنبي محمد ﷺ يختلف عن الوحي الإيهامي والإلهامي. لقد تحول باليقين إلى الواقع ليتفاعل معه، يقرأ الواقع، ويجيب على أسئلته، ويساهم في حل إشكالياته، يرتبط بالأرض ومصالح ناسها ومطالبهم، بحسبان الناس وليس السماء هم هدفه الرئيسي؛ بحيث أصبح الناس المتغيرون بتغير أحداث الواقع عنصرًا أساسيًّا في مجيء الوحي مفرَّقًا وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا (الإسراء: ١٠٦).
وإعمالًا لما سبق، ولأن عمل د. نصر — بحساباتنا — عمل رائد لإعادة فتح البحث حول هذا الأمر، فقد رأينا دفع الموقف حول اللوحة الثلاثية، ليس تسليمًا بها ولا بمنهج الدكتور نصر في تعامله معها واعترافه بها، إنما لبيان الأسباب التي أدت إلى كل حالة من حالات تلك القسمة الثلاثية، أو بالأحرى، اختراعها اختراعًا.