ما نُسخت تلاوته وبقي حكمه
عن مالك بن أنس عن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس، عما حدث في خلافة عمر،
قال: «
جلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذن، قام فأثنى على
الله بما هو أهل له ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فإني
قائل مقالة قد قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي
أجلي، فمن وعاها وعقلها فليحدث بها حيث انتهت راحلته،
ومن لم يَعِها فلا أحل له أن يكذب على الله عز وجل، بعث الله
محمدا
ﷺ بالحق وأنزل عليه الكتاب،
فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها
وعقلناها، رجم رسول الله
ﷺ ورجمنا بعده،
فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية
الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله،
والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال
والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف، ألا
إنا كنا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر
بكم أن ترغبوا عن آبائكم.»
١
وفي رواية عُيينة عن الزهري: «وايم الله لولا أن يقول قائل: زاد عمر في كتاب الله،
لكتبتها.» وعن يحيي عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب قال: «أيها الناس، قد سُنت لكم
السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتكم على الواضحة، ألا تضلوا بالناس، يمينًا أو شمالًا،
وآية
الرجم لا تضلوا عنها، فإن رسول الله
ﷺ قد رجم ورجمنا، وإنها
نزلت وقرأناها: الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة، ولولا أن يقال: زاد عمر في
كتاب
الله، لكتبتها بيدي.» وفي رواية زر أن الآية كانت: «إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما
البتة، نكالًا من الله والله عزيز حكيم.»
٢ وعن أبي أمامة بن سهل، أن خالته قالت: «لقد أقرأنا رسول الله آية الرجم: الشيخ
والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا اللذة.»
٣ وروى الزهري عن عبد الله بن عباس قال: «خطبنا عمر بن الخطاب قال: كنا نقرأ
الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة … قال: ولولا أني أكره أن
يقال:
زاد عمر في القرآن لزدته.»
٤
لدينا هنا حالة واضحة جلية، لإحدى الحالات التي تم تصنيفها ضمن المنسوخ في القرآن
الكريم،
وتحديدًا ضمن ما نُسخ تلاوته وبقي حكمه، وقد أخذ جلال الدين السيوطي بتبرير لذلك الأمر
يقول: «أجاب صاحب الفنون أن ذلك ليظهر مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس،
بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى
ذبح
ولده بمنام.»
٥ وربما ذهب الفقهاء إلى أن الحالة الموجودة هنا «الشيخ والشيخة … إلخ» من نوع
ما نُسخ تلاوته وبقي حكمه، استنادًا إلى مقالة عمر بن الخطاب، وتواتر معنى الآية المنسوخة
بين الرواة، وإن تبدل لفظها لقدم العهد ولعدم تدوينها في القرآن المجموع، وإلى كون حكم
الرجم قد عُمل به أيام الرسول
ﷺ ومن بعده.
لكن لدينا بالقرآن الكريم بشأن حكم الزنى الآيات:
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ
أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا
*
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا
عَنْهُمَا (النساء: ١٥-١٦)، هذا إضافة لآية الجلد:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ (النور: ٢)، ومع ذلك،
فقد ذهب العلماء إلى الاتفاق على نسخ حكم الآيات
وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ …
رغم تدوينها في القرآن الكريم، واحتسبوها مما نُسخ حكمه وبقيت تلاوته، بينما أبقوا على
حكم
آيات غير موجودة في كتاب الله المجموع بين أيدينا (الشيخ والشيخة …) باحتسابها مما نُسخت
تلاوته وبقي حكمه. فأثبتوا حكم الرجم — استنادًا إلى أحاديث نبوية تدخل في أصول الفقه
فيما
يذهبون — وذلك بالنسبة لمن يحصن، مع إثبات حكم الجلد لمن لم يحصن. ويجمل أبو جعفر النحاس
موقف العلماء بهذا الشأن في قوله: «فمنهم من قال: كان حكم الزاني والزانية إذا زنيا وكان
ثيبين أو بكرين، أن يحبس كل واحد منهما في بيت حتى يموت، ثم نسخ هذا بالآية الأخرى وهي:
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا، فصار حكمها أن يؤذيا بالسب والتعيير، ثم نسخ ذلك فصار حكم
البكر من الرجال والنساء أن يجلد مائة ويرجم حتى يموت … والقول الثاني: إنه إذا كان حكم
الزاني والزانية إذا زنيا أن يحبسا حتى يموتا، وحكم البكرين يؤذيا … والقول الثالث: أن
يكون
عز وجل قال:
وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نسَائِكُمْ، عامًّا لكل من زنت من ثيب وبكر، وهذا قول
مجاهد، وهو مروي عن ابن عباس، وهو أصح الأقوال.»
٦ وإذا كان القول الثالث عند النحاس هو أصح الأقوال، وهو بالفعل الأرجح في منطوق
الآيات
وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نسَائِكُمْ،
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ،
فقد كان يعني أن الآيات جعلت للزناة من الرجال حكمًا يختلف عن حكم الزناة من النساء،
ثم لما
كانت آية الرجم، انتهى الأمر في بعض الأحيان إلى محاولة تطبيق الحدود على اختلافها، في
محاولة لتحاشي الإثم في التطبيق. وربما كان ذلك ما دفع علي بن أبي طالب — رضي الله عنه
—
لجلد سراحة مائة، ثم رجمها بعد جلدها، وتعقيبه التبريري: «جلدتها بكتاب الله عز وجل،
ورجمتها بسنة رسول الله
ﷺ.»
٧ هذا بينما ذهب جماعة العلماء إلى أن حكم الثيب الزانية الرجم بلا جلد، واحتجوا
بأن الجلد منسوخ عن المحصن بالرجم،
٨ وهذا بدوره يستند إلى السنة في قول ابن عباس: «قال رسول الله
ﷺ لماعز بن مالك: أحق ما بلغني أنك وقعت على جارية بني فلان؟ قال: نعم،
فشهد أربع شهادات، ثم أمر به فرُجم.»
٩ كذلك قوله
ﷺ: «اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت بالزنا
فارجمها.» ولم يذكر الجلد، فدل ذلك على نسخه، فيما يذهب إليه قول أبي جعفر النحاس.
١٠
وتبقى محاولة فهم ما فرضه واقع الحال بشأن نسخ تلاوة «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما
البتة … إلخ»، لكن مع بقاء حكم الرجم قائمًا، دون سند في آيات القرآن المجموع بين أيدينا،
والأسباب التي دعت إلى وضع باب للنسخ عرف ﺑ «ما نُسخ تلاوته وبقي حكمه»، لإدراجها ضمنه.
والمعلوم أنه إذا نُسخت آية من الآيات الكريمة، كان لا بد من آية أخرى بديلة تحل محلها،
تحمل
الحكم الجديد، وذلك حسب نص الآيات ومَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا. والمعلوم أيضًا أن لدينا في آيات القرآن الكريم الحكم
المذكور في الآيات وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نسَائِكُمْ … وحكمها الحبس
للنساء حتى الموت، أو حتى يجعل الله للمحكوم عليه فرجًا، والإيذاء بالسب والتعيير للرجال،
وذلك حسب التقديرات المرجحة لقراءة الآيات. ثم لدينا الآية الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي … وحكمها
الجلد مائة جلدة، لكن وضع باب «ما نُسخ تلاوته وبقي حكمه» أبقى آية الرجم قائمة بحكمها،
بحيث
أصبحت ناسخة لحكم الحبس والإيذاء، واستمرت إلى جوار حكم الجلد، وانتهى الأمر إلى تصنيف
آية
الرجم للمحصن، وآية الجلد لغير المحصن.
وقد قدم السيوطي تفسيرًا لنسخ تلاوة آية الرجم بقوله: «… إن سبب التخفيف على الأمة
بعدم
اشتهار تلاوتها وكتابتها في المصحف — وإن كان حكمها باقيًا — لأنه أثقل الأحكام وأشدها،
وأغلظ الحدود.»
١١ وعليه فالسيوطي يطرح تأويله لنسخ التلاوة لأن الحكم في الآية هو أشد الأحكام
وحكمها أغلظ الحدود، لكن الغريب أنه يقول ما قال سلفه من العلماء وهو «أن حكمها باقٍ»؟
فإذا
كانت العبرة من النسخ هي غلظ الحد وقسوته أفلا يكون نسخ الحكم بدوره هو الأكثر
منطقية؟
ثم شذرة أخرى تشير إلى دور الواقع فيما حدث بشأن آية الرجم، تقول إن أُبي بن كعب وقف
يُذكِّر عمر بن الخطاب بما حدث بشأن آية الرجم، التي أصر عمر على استمرار العمل بحكمها
بعد
رسول الله
ﷺ، فيقول له: «أليس أتيتني وأنا أستقرئها رسول الله
ﷺ (أي أستأذنه في كتابتها)، فدفعت في صدري وقلت: تستقرئه آية الرجم،
وهم يتسافدون تسافد الحمر.»
١٢ هذا بينما أوضح ابن حجر ما ليس فيه لبس بقوله: «وفيه إشارة إلى بيان السبب في
رفع تلاوتها، وهو الاختلاف.» مع ملاحظة استخدام ابن حجر اصطلاح «رفع» بدلًا من «نسخ»،
مما
يشير إلى حيرته بشأن القول الدقيق في شأنها، ومدى دقة تطابقها مع اصطلاح «نسخ». أما ابن
الحصار فقد وقف يتساءل دهشًا إزاء القول بنسخها مع الاستمرار في العمل بحكمها، مع وجود
آيات أخرى يمكن احتسابها ناسخة لها، لكنها لم تحتسب كذلك، فيقول: «كيف يقع النسخ إلى
غير
بدل، وقد قال تعالى:
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا؟!»
١٣
والغريب أن عمر بن الخطاب ذاته، قد قال بشأن آية الرجم: «لما نزلت أتيت النبي
ﷺ فقلت: أكتبها؟ فكأنه كره ذلك! فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى
ولم يحصن جُلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رُجم؟!» وهي ذات الحجة التي ساقها بعد ذلك
زيد بن
ثابت، الذي كتب المصحف المجموع بأمر الخليفة عثمان بن عفان، عندما سأله مروان بن
الحكم: «ألا تكتبها في المصحف؟ قال: ألا ترى أن الشابين الثيبين لا يرجمان.»
١٤
ومن هذه الإشارات، نرى ابن حجر عندما يستخدم اصطلاح «رفع» بدلًا من «نسخ»، يشير إلى
عدم
قناعته بأن اختفاء آية الرجم من القرآن الكريم، لا يعني تصنيفها ضمن المنسوخ. فاستخدم
اصطلاح «رفع»، إزاء وقائع تقول إنها لم تكتب أصلًا حتى في زمن المصطفى
ﷺ،
فقد كره أن يسمح لعمر بكتابتها، كما في قول عمر، وأن عمر كان من أول المعترضين على
تدوينها، فدفع في صدر أُبي بن كعب، مشيرًا إلى تفشي التسافد بين الناس كتسافد الحمر،
والمرجح أن كتابتها كانت تعني ابتعاد الناس وهم على تلك الحال عن الإسلام، لشدة الحكم
وغلظته. ومن ثَم كان لتلك الظروف والحجج دور واضح لعدم وجود أي تدوين لآية «الشيخ والشيخة
إذا زنيا» في أي من الرقاع والصحف، بحيث ظلت غير مدونة حتى زمن التدوين العثماني، حيث
استبعدها زيد بن ثابت بدوره كما في روايته مع مروان بن الحكم، فجاء المصحف العثماني
خلوًا منها. لكن الإصرار على العمل بحكمها، كان فيما يبدو، مدعاة لنشوء باب «ما نُسخ
تلاوته
وبقي حكمه» لتندرج ضمنه، وبذلك لم يعد حكم الجلد بديلًا لحكمها، وبحيث بدا الأمر غير
منطقي
في رأي ابن الحصار. هذا بينما وقف د. نصر أبو زيد يلح في التنبيه على أن «المهم في
تحديد الناسخ من المنسوخ، هو ترتيب النزول لا ترتيب التلاوة في المصحف. ومعنى ذلك أن
تحديد
الناسخ من المنسوخ في آيات القرآن يعتمد أساسًا على معرفة تاريخية دقيقة بأسباب النزول،
وبترتيب نزول الآيات.»
١٥ أي أن المعتبر هو تاريخية النص في علاقته الزمنية المتحركة، بحركة الواقع
المتحول دومًا.
وللمطالع أن يلحظ أن عمر بن الخطاب، صاحب الخطاب الأشهر في الإصرار على العمل بحكم
آية
غير موجودة في المصحف، ولم تُكتب أصلًا، كان هو صاحب حجتين في عدم كتابتها؛ الحجة الأولى
واقع الناس وهم يتسافدون تسافد الحمر، والثانية موقف الشاب المحصن والشيخ غير المحصن
من
تطبيق حد الزنى. أما الأمر الأوضح دلالة فهو فيما ورد بلفظ القاضي أحمد الشهير بابن
خلكان، في كتابه وفيات الأعيان، وهي رواية هامة توضح موقف عمر بن الخطاب بعد أن أصبح
خليفة،
من تطبيق حد الرجم على المغيرة بن شعبة. في رواية القاضي أحمد، التي يلخصها لنا الإمام
شرف الدين الموسوي تحت عنوان درؤه الحد عن المغيرة بن شعبة: «وذلك حيث فعل المغيرة مع
الإحصان، ما فعل مع أم جميل بنت عمرو، امرأة من قيس، في قضية من أشهر الوقائع التاريخية
في
تاريخ العرب، كانت سنة ١٧ للهجرة. لا يخلو منها كتاب اشتمل على حوادث تلك السنة، وقد
شهد
عليه بذلك كل من أبي بكرة وهو معدود من فضلاء الصحابة وحملة الآثار النبوية، ونافع بن
الحارث وهو صحابي أيضًا، وشبل بن معبد. وكانت شهادة هؤلاء الثلاثة صريحة، بأنهم رأوا
المغيرة بن شعبة يولجه في أم جميل إيلاج الميل في المكحلة، لا يكنون ولا يحتشمون، ولما
جاء
الرابع وهو زياد بن سمية يشهد أفهمه الخليفة رغبته في ألا يُخزَى المغيرة، ثم سأله عما
رآه
فقال: رأيت مجلسًا، وسمعت نفسًا حثيثًا وانتهازًا ورأيته مستبطنها، فقال عمر: أرأيته
يدخله
ويخرجه كالميل في المكحلة؟ فقال: لا، لكني رأيته رافعًا رجليها فرأيت خصيتيه تتردد ما
بين
فخذيها، ورأيت حفزًا شديدًا وسمعت نفسًا عاليًا، فقال عمر: أرأيته يدخله ويخرجه كالميل
في
المكحلة؟ فقال: لا. فقال عمر: الله أكبر، قم يا مغيرة إليهم فاضربهم. فقام يقيم الحدود
على الثلاثة.»
١٦
وهناك مرويات أخرى، بخصوص آيات أخرى، وموضوع آخر، تجد نفسك في حيرة من أمر تصنيفها،
حسب
اللوحة الثلاثية، فإن اعتمدت روايات بعينها صنفتها ضمن ما نُسخ تلاوته وحكمه، وإن اعتمدت
روايات أخرى صنفتها ضمن ما نُسخ تلاوته وبقي حكمه، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى الخبط وسوء
التقدير. وهو ما يتمثل في رواية السيدة عائشة — رضي الله عنها — حيث تقول: «كان فيما
أنزل
عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي الرسول
ﷺ وهي
مما يُقرأ في القرآن.»
١٧ والأمر يعني تحديدًا التحريم القائم على الرضاعة بعدد الرضعات، وهو من اللون
الذي يصنِّفه السيوطي في باب «ما نُسخ حكمه وتلاوته معًا». رغم أنه لو أخذنا بحديث السيدة
عائشة، وبالتصنيفات على اللوحة الثلاثية، لأدرجناه ضمن باب «ما نُسخ تلاوته وبقي حكمه».
ووجه الإشكال في تصنيفه أصلًا ضمن المنسوخ، أيًّا كان نوعه، أن النسخ كان لا بدَّ من
وقوعه في
عهد الرسول
ﷺ نفسه، بينما السيدة عائشة — رضي الله عنها — تؤكد
أن الرسول قد توفي وتلك الآية مما يقرأ في القرآن، وهو ما دفع أبا موسى الأشعري إلى اللجوء
لاصطلاح «رُفعت» في قوله التأويلي إنها نزلت ثم رُفعت.
١٨ أما حال بقية العلماء فيصوره لنا أبو جعفر النحاس بقوله: «فتنازع العلماء هذا
الحديث … فمنهم من تركه، وهو مالك بن أنس … وقال رضعة واحدة تحرم … وممن تركه أحمد بن
حنبل
وأبو ثور، قالا: يحرم ثلاث رضعات، لقول النبي
ﷺ: لا تحرم المصة ولا المصتان.»
١٩ بينما أعلن مكي دهشته الكاملة في قوله: «هذا المقال فيه غير المنسوخ غير
متلو، والناسخ أيضًا غير متلو، ولا أعلم له نظيرًا.»
٢٠
ويؤكد العلماء أن السيدة عائشة — رضي الله عنها — ظلت على موقفها «… فقالوا: لم تزل
عائشة تقول برضاع الكبير.»
٢١ وهو ما يتعلق بما جاء في صحيح مسلم بشرح النووي (ج١، ص٢٩) وأورده ابن الجوزي، عن
عائشة — رضي الله عنها — قالت: «لقد نزلت آية الرجم ورضعات الكبير عشر، وكانت في ورقة
تحت
سرير بيتي، فلما اشتكى رسول الله
ﷺ (مرض) تشاغلنا بأمره،
فأكلتها ربيبة لنا (تعني الشاة) فتوفي رسول الله
ﷺ وهي مما
يقرأ في القرآن.»
٢٢ وهكذا فقد ساوت تلك الآية في التحريم من الرضاعة، بين الكبير والصغير، على أنها
حددت بعدد معلوم من الرضعات. وممن أخذ بإصرار السيدة عائشة أبو موسى الأشعري والليث بن
سعد.
٢٣ وهو ما إن أخذناه على ظاهره، لأدرج ضمن «ما نُسخ تلاوته وبقي حكمه»، أما لو
نظرنا إلى ما حدث في الواقع، فيفسره قول السيدة عائشة، رضي الله عنها: «فأكلتها ربيبة
كانت
لنا.» أما لو ذهبنا إلى ترك حديثها، مع تصنيف الآية ضمن (ما نسخ حكمه وتلاوته) لبقيت
أسئلة
حيرى: هل تم ذلك النسخ قبل أن تأكلها الشاة؟ أم بعد أن أكلتها؟ أم أنها احتسبت منسوخة
لأنها
لم تكن في صحف القرآن المجموع لأن الشاة أكلتها؟
هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد ظرف الواقع يجعل تلك الآية مستمرة في العمل بحكمها، رغم
ما
لحق بها من ظروف أدت لعدم وجودها بالمصحف المجموع، فقد كانت هناك إشكاليات تحتاج إلى
حل
تشريعي. وهو ما جاء نموذجًا في قول السيدة عائشة، رضي الله عنها: «جاءت سهلة ابنة سهيل
إلى
رسول الله
ﷺ فقالت: إني أجد في وجه أبي حذيفة (زوجها، أي
تجده مستاء) إذا دخل عليَّ سالم، قال النبي
ﷺ: فأرضعيه، قالت: وكيف أرضعه
وهو رجل كبير؟ قال: ألست أعلم أنه رجل كبير؟ ثم جاءت بعد ثم قالت: والله يا رسول الله
ما
عدت أرى في وجه أبي حذيفة بعد شيئًا أكرهه.» رواه مسلم وأبو داود.
٢٤ وعليه فقد عملت السيدة عائشة بذات السبيل، فقال عروة: «إن عائشة كانت تأمر
أختها أم كلثوم، وبنات أخيها، أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال.» رواه مالك.
ويقول
د. شعبان محمد إسماعيل: «وحجتهم حديث سهلة هذا، وهو حديث صحيح لا شك في صحته، ويدل عليه
أيضًا قوله تعالى:
وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ. فإنه غير مقيد بوقت.»
٢٥ والأمر بذلك يدل على ضرورة، فرضها استفتاء المؤمنين لأم المؤمنين في شئون
دينهم، فكان لقاؤها بالرجال مشروطًا بذي محرم، وهي الإشكالية الموضوعية التي وجدت حلها
في
القول برضاع الكبير، والاستمرار في العمل به، وإصرار السيدة عائشة — رضي الله عنها —
عليه.
وهكذا يكون وضع آية رضاع الكبير هو ذات وضع آية رجم الشيخ ولا وجود لهما في كتاب الله
الكريم، ليس لأنهما نسختا، وإنما لأن الأولى أكلتها الشاة بينما الثانية، لم تكتب أصلًا،
والظرف الموضوعي شاهد، ويشير إلى أن وضع باب في النسخ بعنوان «ما نُسخ تلاوته وبقي حكمه»
من
باب التأويل بغير سند، اللهم إلا الخلط مرة مع السنة باحتسابها من عوامل النسخ، ومرة
للعمل
ببعض عمل عمر وليس كله، ومرة للأخذ بحديث زوجات دون زوجات من أمهات المؤمنين. أما الأساس
فهو العمل وفق حوار النص ونفسه وليس حواره مع الواقع، بينما يمكن للواقع أن يكون فاصلًا
تمامًا في هذا الشأن، وهو ما نسعى إلى التنبيه إليه، ونلح في طلبه. والملاحظ في الحالتين
المعروضتين هنا تعلقهما بشرائع، وبشأن الشرائع ونسخها في كتاب الله العزيز بوجه عام لحظ
الإمام الزمخشري أمرًا له قيمة، حيث يقول: «والله تعالى ينسخ الشرائع لأنها مصالح، وما
كان
مصلحة أمس، يجوز أن يكون مفسدة اليوم، وخلافه مصالح … وكانوا يقولون: إن محمدًا يسخر
من
أصحابه، يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدًا، فيأتيهم بما هو أهون، ولقد افتروا. فقد
كان
ينسخ الأشق بالأهون، والأهون بالأشق والأشق بالأشق والأهون بالأهون، لأن الغرض المصلحة،
لا
الهوان والمشقة … إن التبديل من باب المصالح كالتنزيل، وإن ترك النسخ بمنزلة إنزاله دفعة
واحدة في خروجه عن الحكمة.»
٢٦ وقد ذهب ذات المذهب في التأكيد على عامل (المصلحة) في النسخ، الإمام الألوسي،
لكنه مال إلى رأي من قالوا: إن التبديل يأتي بالأهون، بعد أن قدم له المبررات، وذلك من
قوله: إن الناسخ في تلك الحال «… لا بد أن يكون مشتملًا على مصلحة خلا منها الحكم السابق،
لما أن الأحكام إنما تنوعت للمصالح، وتبدلها منوط بتبديلها حسب الأوقات، فيكون الناسخ
خيرًا
منه في النفع، سواء كان خيرًا منه في الثواب أو مثلًا له، أو لا ثواب فيه أصلًا … والحاصل
أن المماثلة في النفع لا تتصور، لأنه على تبديل الحكم تبتدل المصلحة، فيكون خيرًا منه،
وعلى
تقدير عدم تبدله، فالمصلحة الأولى باقية على حالها.»
٢٧
وإذا كنا قد قلنا من قبل إن الآيتين (الرجم، ورضاعة الكبير)، ربما لم تكونا من قبيل
المنسوخ، فإنما نقصد بالمنسوخ المتعارف عليه اصطلاحًا بشروط بعينها، وإن كان ينسحب عليها
اجتهاد الزمخشري والألوسي، فالأولى لم تكتب والثانية أكلتها الشاة، بتقدير حساب المصالح،
والمنافع، والزمن (حسب الأوقات). وإن كان ذلك لا يعني رفضنا للقول بالنسخ في القرآن الكريم،
لأن مثل ذلك القول يئول إلى الكفر والعياذ بالله، ونحن على نعمة الإيمان حريصون، ولا
يمكننا
أن نفرط فيها. فقط نضع اجتهادًا من باب محاولة الفهم، ربما أصاب وربما أخطأ، والمناط
في
الأمر جميعه صدق النوايا وسلامة الإيمان وهو ما نحمد الله عليه حمدًا كثيرًا.