ما نُسخ حكمه وبقيت تلاوته
- النموذج الأول: الآيات المتعلقة بالكتب السماوية السابقة على كتاب الله العزيز:
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ (المائدة: ٤٣).إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ (المائدة: ٤٤).وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيل بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ (المائدة: ٤٧).الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ (المائدة: ٤٦).وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ (المائدة: ٤٨).
وهي الآيات التي يقابلها آيات أخرى تقول:
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن موَاضِعِهِ (النساء: ٤٦).يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن موَاضِعِهِ (المائدة: ١٣).وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ منْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ (البقرة: ٧٥). - النموذج الثاني: الآيات المتعلقة بأصحاب الديانات الكتابية:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة: ٦٢).وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (العنكبوت: ٤٦).وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً (الحديد: ٢٧).وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (آل عمران: ٥٥).
وهي الآيات التي يقابلها آيات تقول:
إِنَّ الدِّينَ عِنَد اللهِ الإِسْلامُ (آل عمران: ١٩).وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (آل عمران: ٨٥). - النموذج الثالث: الآيات المتعلقة بالمدى المسموح به من الحرية الدينية:
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (الكافرون: ٦).أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس: ٩٩).لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (البقرة: ٢٥٦).
وهي الآيات التي يقابلها:
أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا (آل عمران: ٨٣). - النموذج الرابع: الآيات المتعلقة بالموقف من المشركين:
وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ (آل عمران: ٢٠).إِنْ أَنتَ إِلا نَذِيرٌ (فاطر: ٢٣).إِنَّمَا أَنت نَذِيرٌ (هود: ١٢).فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ (النساء: ٦٣).فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ (النساء: ٨١).فَاعفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ (المائدة: ١٣).عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم من ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (المائدة: ١٠٥).وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (الأنعام: ١٠٧).لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ (الغاشية: ٢٢).وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (الإسراء: ٥٤).وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (المزمل: ١٠).فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (المعارج: ٥).فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ (طه: ١٣٠).فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (الحجر: ٨٥).خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (الأعراف: ١٩٩).ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (فصلت: ٣٤).فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (الرعد: ٤٠).
هذا بينما نجد آيات لا ترجئ الحساب ليوم القيامة، إنما تضعه بيد الجيش الإسلامي، وتأمر بقتال من لم يسلم، ونموذجًا لهذه الآيات:
قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ (التوبة: ٢٩).وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ (النساء: ٩١).فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ (محمد: ٤).فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ (النساء: ٨٩).فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (الأنفال: ١٢).وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ (الأنفال: ٣٩).وهكذا نجد على الطرفين آيات مثل:
وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ (آل عمران: ٢٠).فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ (النساء: ٨٦).وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (الأنفال: ٦١).فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ (محمد: ٣٥).وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ (البقرة: ١٩١).فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ (التوبة: ٥).
كذلك الحال في الموقف من اليهودية واليهود، فقد كانت يثرب دار هجرة للمسلمين، بينما كانت معقلًا كبيرًا ليهود الجزيرة، وكانت «المصلحة» والحكمة تستدعي أن تسبق المسلمين، المهاجرين إلى يثرب، آيات تردد ذكر أنبياء بني إسرائيل، وقصص العهد القديم، والقرار بأن الله فضلهم على العالمين، وأن توراتهم فيها هدى ونور، وعليهم الحكم بما جاء فيها. وكان أول عمل سياسي هام قام به المصطفى ﷺ عند وصوله يثرب هو عقد الصحيفة التي كفلت حرية الاعتقاد لأهل المدينة جميعًا.
ولكن الظرف لم يستمر على حاله، مما أدى إلى إلغاء الصوم العبري واستبداله بصوم رمضان العربي، كما ألغيت قبلة بيت المقدس واستُبدلت بكعبة مكة، ثم أخذ كل من النبي ﷺ واليهود يكتشفون اختلاف توجهاتهم، ثم يكتشفون اختلافات عميقة، بين ما بين يدي اليهود من التوراة وبين ما يتلوه رسول الله ﷺ. وهنا اتخذ الأمر وجهة أخرى، خاصة بعد غزوة بدر الكبرى، التي مكنت المسلمين من العتاد والسلاح والقوة المادية والمعنوية. حيث يكشف لنا الوحي أن سبب اختلاف القرآن عن التوراة في كثير من التفاصيل، إنما يرجع إلى قيام اليهود بتحريف التوراة الأصلية، ومن هنا حق قتالهم لتبديلهم آيات الله، ومن ثَم نقض الصحيفة وإبطال الحرية الدينية، وجاء الأمر: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ، بعد أن أصبح: الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ.
وكان الموقف نفس الموقف من المسيحية اليعقوبية بعد انتفاء الحاجة للحبشة ونجاشيها، وكان لا بد أن يقول الوحي كلمته إزاء العقائد المسيحية. وهو الأمر الذي ينطبق على الموقف من أهل مكة، حيث بدأت الآيات الحكيمة في مكة زاخرة بما يلائم حال الضعف التي كان عليها المسلمون وسط أكثرية معادية، فقررت حرية الاعتقاد، وأنه لا إكراه في الدين، والأمر موكول إلى الله يوم القيامة. أما بعد الهجرة من مكة إلى المدينة، وبعد وقعة بدر الكبرى، والتحول من حال الضعف إلى حال القوة، أتت الآيات الناسخة تبطل حرية الاعتقاد، وتأمر بقتال غير المسلمين وقتلهم. وهو الأمر الذي لحظه الإمام السيوطي وجلة الأجلاء من العلماء، لكنهم أدرجوه في باب المنسأ وهو ما عبرت عنه الآيات بجلاء: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ.