قافلة مكة
وعمل تجار مكة الذين كانوا قد وردوا اليمن في أوائل الشتاء ليستبضعوا لهذا العيد أن ينسلوا إلى نجران قبل موعد الرحيل بأيام؛ ليستريحوا هم وجمالهم من وعثاء الأسفار في مرابع اليمن وأسواقها المترامية قبل أن يندفعوا في سفرةٍ أخرى أمدها عشرون يومًا متواصلة. على أن منهم من كان في نجران من قبل؛ ليستولي على ما تصنعه أيدي أهلها من البُرُد والأدم، ويزاحم على ما يرد إليها من العطور والتحف التي يتهافت عليها الناس في الأعياد، ولذلك امتلأ سفح الجبل من نجران ومغارس نخيله دوين البيوت بمضارب الأغراب والتجار ومناخات الإبل ومرابط الخيل والبغال وأكداس البضائع، ولاحت نجران كأنما هي في يوم الحشر؛ لاجتماع أنواع الخلق فيها، وتزاحم الناس في أسوقها متفرجين أو مستبضعين، وانتعشت الحياة فيها بما كان ينفق الرحل من الأموال، وما يدفعونه فيما يشترونه من الأثمان.
وفي عشية الربيع سمرت القافلة سمر الوادع، واشترك أهل نجران في السامر بمعازفهم وأعوادهم وغلمانهم وقيانهم، فشربوا، وغنوا ورقصوا، وتلهوا، إلى أن انتصف الليل أو كاد، فعاد أهل نجران إلى بيوتهم، وانصرف أهل القافلة إلى مراقدهم؛ ليغنموا شيئًا من الراحة قبل الرحيل في بكرة الصباح.
جاءت ساعة الرحيل، فما همت النجوم بالإدبار حتى هب الرقود على صوت المنادي: أيها العير، آذنت الشمس بالشروق. هبوا إلى الأحمال.
لم تكن الشمس قد آذنت بشيء ولا الفجر، ولكنها أكذوبة اعتادها المنادون؛ ليوقظوا الركب من رقاده، ويصرفوه إلى العمل، ولم يكن الركب على علمٍ بحقيقة الساعة؛ لأنهم كانوا نازلين على سفح الجبل من جانبه الغربي، وما كانت الشمس لو طلعت لتبين لهم قبل أن يعلو النهار وتعلو الشمس هضباته، ولذلك نفروا من مراقدهم؛ ليقوِّضوا الخيام ويلموها، ويجمعوا الرواحل ويحملوها حتى إذا تنفس الفجر كانت القافلة قد تهيأت للرحيل عن نجران.
ولكنها ما كادت تنتظم في طريق الحجاز، ويهم المنادي أن يصيح: سيروا على بركة الله، حتى اضطرت إلى الوقوف على صياح متدارك وارد من ناحية الكنيسة، ونداء من منادين يقولون: قفوا. انتظروا لا ترحلوا.
تذمر الركب لهذا الأمر على اختلاف من فيه أيما تذمر حتى المنادي حتى الحداة والسائقون، وغالبهم من نصارى نجران أتباع الأسقف نفسه وملتمسي بركته وفضله، ولكنهم لم يملكوا إلا أن يطيعوا كارهين، ويأخذوا بمقاود الجمال لينيخوها غاضبين، واستشعرت البعران سورة الغضب من أصوات قادتها، وشدة أخذهم بزمامها فعجت ذعرًا، ولغبت استشفاعًا، ثم بركت في النهاية طوعًا للصوت والإشارة.
وكان الذين في الركب من تجار مكة ويهود صنعاء أشد حنقًا وغضبًا؛ لأنهم كانوا يحملون في القافلة أكداسًا من بضاعة الأعياد، فكل يوم يقضونه انتظارًا أو تلوّمًا يذهب بالكثير مما أملوا من الكسب في تجارتهم، ولذلك عارضوا في الانتظار، وأمروا رجالهم بالمسير، ولكن الرجال أبوا أن يخذلوا أسقفهم الكريم، وأدرك العير أن لا بد لهم من الأناخة فشرعوا في ذلك وهم محنقون، ونفس أحد اليهود عن صدره وخاطب الشماس: أما كان مولاك الأسقف يعلم أن القافلة تسير اليوم! وأن الناس تاركون فراشهم في السحر! ليدركوا ساحة الركب ويتحملوا! لماذا لم يعلن العير برغبته هذه في أصيل الأمس أو عشيته، ويتركنا في مضاربنا، ولا يكلفنا هذا العناء الكبير!
فلم يحر الشماس المخاطب جوابًا، ولكن أحد الاثنين الآخرين تصدى من عنده بجواب لفّقه في غير وعيه مما عنده من الأخبار التي كان يحرص أهل الكنيسة ألا تذاع إلا في أيام الصلاة العامة على لسان الأسقف وحده، ولذلك عاقبه الأسقف بعد يومه على ما قال؛ إذ خشي أن يتهمه اليهود بسوء. قال الشماس: وردت إلى مولانا رسالة من أسقف بني تغلب يدعوه للقدوم على عجل إلى ديار ربيعة؛ ليتذاكرا هناك فيما وقع بالشام من الأحداث.
فضحك اليهودي لهذا الجواب هازئًا وسأله متهكمًا: خبرني بربك متى جاءت هذه الرسالة إلى مولاك الأسقف! ومتى جاء الرسول! أفي موهن الليل مع روح القدس! أم في السحر على جناح العقاب!
ضحك الناس لهذا الأمر مرةً أخرى، وانبرى بعض من كانوا يودعون الركب يخففون عنهم بالكلم الطيب. هذا يقول: إنما أراد الله أن نأنس بكم ليلة أخرى، وذاك يستكرم فيقول: إنكم أهل صنعاء ومكة أهل جودٍ وكرم، ونحن هنا نعيش في خيراتكم، فلا بأس عليكم أن تكرمونا بالبقاء هنا ليلةً أخرى.
على هذا هدأت سورة الغضب وسرّى من الناس فنشطوا إلى خيامهم يحلونها عن الرواحل ويضربونها في المضارب كما كانت، وشرع الخدم والعبيد يعدون طعام الصباح.