مصيف خالد بن الوليد
ولكن خالدًا لم يكن يصيف فيه كل عام، ولا إن صاف ليقضي فيه كل الصيف. فكانت زوجته لهذا تؤثر عليه بيتهم في الوادي؛ لأن مطاليب العيش كانت لقربه من سوق مجنَّة ومدارج التجار والناس أوفر وأيسر، وفي العام الذي عاد فيه الحارث إلى مكة، كان خالد قد ذهب على عادته هو ونفر من فرسان بني مخزوم ولاة القبة والأعنة في قريش — أي زعماء الجيش فيهم — وغيرهم من فتيان بني عدي وأمية إلى مدائن كسرى للنزهة في بلاد العراق، وللوقوف على طرائق الفرس في تنظيم الجيوش وسوقهم إلى ميادين القتال؛ إذ كانوا قد أوغلوا في بلاد الروم فاستولوا على أرمينية، وقصدوا إلى القسطنطينية؛ ليثأروا من عاهلها السفاح فوقاس جزاء قتله موريقوس أبا مارية المحبوبة زوجة سيدهم العظيم كسرى أبرويز حتى لقد تطوّع خالد هو وإخوانه من قريش في بعض تلك الغزوات، كما تطوعت الألوف الكثيرة من الحيرة وشمالي يثرب في هذا القتال مسترزقين، وإنما انضم خالد وإخوانه إلى جيش الفرس؛ ليقفوا على طريقة تنظيم القتال. فأبلوا وأحسنوا، وغنموا في الغانمين، وعرفوا الشيء الكثير من فنون الحرب، ولم يعودوا إلى بلادهم حتى اشتد الشتاء في جبال أرمينية وطرسوس.
وإذ كان بيته خاليًا في الوقت الذي زف الحارث فيه ابنته إلى ابن عمها في الطائف، حين لامته هرميون على إنزالها في مكة، وجرى ذكر هذا البيت في مجلس له مع الوليد بن المغيرة، فقد رغب إليه أن يستأجره أبد الصيف، أو يبيعه إياه، ولكن الوليد لم يجد إلى ذلك سبيلًا؛ لأنه إذ بناه لخالد كان البيت بيته، ولكنه رضي أن يشغله الحارث بلا أجر حتى يرى فيه رأيًا.
وقد سر الحارث لحيازة المنزل سرورًا بالغًا؛ إذ إنه يحقق أمنية الزوجة التي أشقاها بنقلها إلى الصحراء بعدما كانت في الإسكندرية عروس المدائن، وذهب من فوره واتفق مع ابن نوفل في أمر ورقة، وكان ما كان من اغتباط هرميون ولمياء، وإعدادهما حمول الانتقال إلى هَدى.
والواقع أن لنقاوة الماء أثرًا مباشرًا في هذا الجمال، أو بالأحرى إن ملوحة الماء أو غضاضته، أو احتواءه ما ليس من طبيعته من الأجسام الغريبة والجراثيم من شأنه أن يؤثر في المعدة والكبد والبشرة والدم، وسائر جوارح الإنسان، فيحدث فيها ما يحدث من الاضطراب والأمراض ظاهرها وخفيها، ومن ثم لا يكون شاربها معتدل المزاج صحيح البدن حيّ الطلعة مشرق الوجه. أما نقاؤه من كل تلك الآفات فمن شأنه سير أعضاء الجسم ظاهرها وباطنها فيما أراد لها مبدعها من السلامة، ما لم يعبث بها الفساد من ناحيةٍ أخرى، ومن ثم كان أهل هدى أصحاء البدن والمزاج، وكانت بشرتهم نقية، ووجوههم مليحة، ونفوسهم صافية، وكانت نساؤهم فتنةً للعين.
والواقع أنهم قضوا شطرًا كبيرًا من أيام الصيف في متعة وهناءة على هذا المنوال، لا يكدر صفوهم مكدر، ولا يشعرون بالحاجة إلى أنيس، ولم ينقطع ابن نوفل عن زيارتهم وقضاء أيام في جوارهم، كما أن العفيفة أم ورقة وزوجها باقوم زاراهم وقضيا معهم بضعة أيام كانا فيها على أحسن ما يكون الضيف في منزل مضيف؛ فقد بالغت هرميون ولمياء والحارث في إكرامهما، وكان باقوم محل الإكرام الخاص من هرميون؛ لأنه رومي مثلها، ولأنه كان يعرف أباها حق المعرفة، وكان يحدثها عن الإسكندرية ويذكرها بأمورها وأحداثها، وما رأى فيها بعينه من أعمال القتل والنهب وتخريب المعابد، وقيام أهل المسيحية الملكية على أهل اليعقوبية وأخذ هؤلاء بالثأر، وانتهاز اليهود الفرصة للإيقاع بهؤلاء وهؤلاء، وارتداد الفريقين عليهما، ويحمد الله على أن هيأ له الفرصة للبعد عن مواطن هذه الجهالات، وكان سرور الحارث عظيمًا عندما سمع زوجته تحمد الله هي أيضًا على ذلك، فقال: وأنا أحمده أيضًا على أن أسمعني بأذني اعتراف أم لمياء بما صنعت؛ إذ نقلتها إلى بلاد لا يسمع فيها صخب ولا لغب، ولا يرى فيها حريق ولا بريق. قالت هرميون: صدقت، وإني لسعيدة بمقامي هنا، وأرجو الله أن يديم طمأنينتي على أبي الشيخ الأرمل وأختي هيلانة.
عاد باقوم وامرأته مشيَّعين بكل محبة وإكرام، وظل الحال كذلك فترةً من الزمن، وهل هلال فذهب ورقة إلى أهله للزيارة على عادته، وانتظروه صبيحة الغد فلم يجيء؛ فساروت نفوس أهل البيت وساوس، ولكنهم لم يروا أن يتعجلوا سوء الظن فظلوا يرقبون الطريق، وكانت لمياء عينهم عليه؛ فقد ظلت طول اليوم فوق سطح المنزل عالقة العين بطريق مكة تمر الأشباح أمامها تلو الأشباح، وتنفيها واحدًا بعد آخر؛ لأنها لم تكن تمثِّلُه. كان له شبح واحد تعرفه حق المعرفة، وتميزه بين ألوف من أشباح أخرى ولو اجتمعت. حتى إذا غربت الشمس نزلت وهي كمدة تعلن أنه لم يلُح، وكان الحارث قد ساوره الخوف من أن يكون الفتى قد أصابته حمى من أثر نتن الأضاحي الذي كان يهب عليهم إذا دارت الريح دورتها فدخلت عليهم من الجنوب بعد إذ كانت تدخل من الشمال من ناحية الشام، فعزم على أن يذهب في الغد إلى مكة ليرى ماذا جرى لورقة.
والواقع أن ورقة كان يشعر بدبيب الغرام في قلبه للمياء، ولكنه لحبه لأستاذه وأهل بيته كان يحسب أنه الهزّة التي تعتري القلب إذا استشعر ولاءً، أو الروح التي تتخلل جوارح الإنسان إذا أحس لأحد ودًّا ووفاءً، ولكنه كان يرى هذه الهزة تشتد في أوقات خاصة، هي أوقات وحدته في مخدعه في هدى، أو في بيت أمه في مكة. هناك يتمثل لمياء في ظلام الليل فيتمثل كل محاسن الدنيا فيها وحدها، ويتمثل نظرات عينها الخفرة يشع منها في الحديث معه أو الإنصات إليه ذلك الضياء البهيج الساحر الذي يهز نفسه كلما شامه، وتتراءى له من ثغرها الألعث العجيب الصنع تلك البسمات التي تغمره بعواطف بر كثير لا يرى أنه جزاء له عن فضل، ويتذكر أنسها به، واقترابها من مجلسه وهم جالسون، ومجانبته وهم سائرون، وأن ذلك البر لم يكن مقصورًا على ساعات حضوره مجالسهم في الدار، واجتماعه بهم تحت الكرم في البستان، أو مرافقته لهم إلى المعسل والبطيحة. فقد خبّره صديقه زياد — غلام البيت — أنها لا تنقطع عن ذكره في ساعات غيبته عند أمه، وتسائل والدتها وزيادًا وجاريتها سودة: ألا تشعرون بفراغٍ لغيبة ورقة؟ فيقرّها المسئولون على ما تشعر وينسون أنه ليس ولدهم ولا أخاهم، وذكر له أنها تظل تشيعه بالنظرات من فوق سطح الدار حتى يغيب عن العين، ولعلّها لا تنام من الليل إلا أقله، ثم تنهض مبكرة في الصباح؛ لتتعجل رؤيته وهو عائد، وذكر له زياد كذلك أن لمياء رأت فتيات المعسل الفاتنات يترددن على سودة في البستان ويتألفنها ويهدينها تعاويذ مما يصنع السدنة، وحليًّا مما اشترين في بعض الأعياد، وعلمت منها فيما علمت أنهن يكثرن من الحديث عن ورقة وأهله ومكانه من الطبيب، فأوجست شرًّا وغضبت فأمرت سودة ألا تلقاهن، وأن ترد عليهن هداياهن مع زياد، كما أمرته أن يحرّم عليهن الحضور لزيارتها في البستان.
تمثل ورقة كل ذلك وذكره، فأحس في نفسه حنوًّا شديدًا عرف أنه الحب الذي يلهج به الشعراء. وتمنى لو يستطيع أن يراها الآن؛ ليضمها إلى صدره، ويقبّلها، ويصارحها بما يجد لها في قلبه من الحب، ولكنه تنبه إلى نفسه وأمنيته المنكرة وعزاها إلى الشيطان الذي يلقي فسادًا في القلوب التي تتجه إلى الله؛ ليفتنها عن الرشد، ويغريها بما لا يُحمد. ما أشد جرمه لأستاذه وامرأته الطيبة وابنته المطهرة إذا هو عقهم وخان أمانتهم! إن من السيئات الكبر أن يضرم في قلب فتاة مطهرة كلمياء التي تحبه حب الأخت أخاها حبًّا لا ينتهي إلى خير. فما هو بكفء لها ولا ضريب! ما هو إلا ابن نجار عاش فقيرًا ومات فقيرًا، من سبية وجارية لا وزن لها في الحياة ولا قيمة! أما هي فابنة الحارث بن كلدة الثقفي قريع كسرى وجليس الملوك، وإن كان متواضعًا حلو النفس، وهرميون ابنة قوزمان أعلم علماء الإسكندرية وبلاد الروم بأجمعها! إن كانت تحبه وتكرمه فلأنه نزيلها، ولأنه أمين لها ووفيّ، وإذا عطفت عليه فهو عطف إحسان وبر بيتيم لم يدر حتى اليوم كيف يحصل رزقه، لا لترفعه إلى مقام العزة التي هي فيها! بله أنها لا ترضى لابنتها بعلًا لا تكون في حماه سيدة عظيمة، ذات جاهٍ واسع! ألم تقل في بعض حديثها مع زوجها على مسمعٍ منه وتقل لجماعة من زوارها في مكة: إنها لن تزوجها لأحد من أهل هذه البلاد، بل لا بد أن تعود بها إلى الإسكندرية يوم تكبر؛ لتزوجها من بيت نيقتاس حاكم الإسكندرية كخالتها هيلانة.
لا حق له إذن في أن يعلن لمياء بحبه لها، وليس من تقوى الله ولا الأمانة ولا من الخير أن ينمي في قلبها الطاهر غير ما له فيه من حب الأخت أخاها! ولا من الشرف وعرفان الجميل أن يبدي من أمره إلا ما يبدو حتى الآن من عواطف الولاء والشكر! بل ربما كان خيرًا أن يرتد قليلًا ويلتزم الإجلال والتوقير للحارث وزوجته، ويعمل على رد لمياء إلى ما صدرت عنه من البر والمودة.
هذا ما استقر عليه رأيه في مكة ليلة ذهب لزيارة أمه، ولكنه تمثل البرح الذي سيعانيه قلبها الفطير؛ لما سترى منه من الأزورار عنها، والتزام الحد الفاصل بينه وبينها، وخطر على قلبه أنه سيسيء إلى من أحسنت إليه، وأنه إذا انتوى ذلك كان كالذي يضمر الشر لإنسان بريء آمن، ورأى أنها كالحمل الوديع الذي عزم صاحبه على ذبحه في الصباح، ولم تشفع فيه وداعة الأمس ولا براءته؛ فضاق صدره وقعد في فراشه مأزومًا يتأوّه، حتى غلبه الهم فهوى على فراشه يبكي وجدًا وحسرة، وأسفًا لما سيلحقه بالفتاة باختياره من الآلام، ولخجله من نفسه يوم تراه على غير ما كانت ترى منه، ولكنه أسلم أمره إلى الله، وأخذه الرقاد وهو يناجي ربه ويلتمس منه العفو والقوة والرضاء.