نعاء! نعاء
فلما رأتهن السيدة خديجة على هذه الحال أوعزت إلى فاطمة ابنة الخطاب — وكانت جالسة في جوارها — أن تنهى تماضر العفيفة أم ورقة عن ذلك العويل؛ لتنتهي عنه غيرها، وكانت فاطمة ابنة الخطاب حنيفية كزوجها سعيد بن زيد بن نفيل، ومن أوائل من آمن بسيد الحنفاء محمد بن عبد الله؛ فانبرت تلقي على المعولات عظة مما وعظها به الإسلام، ولكنها كانت توجه الخطاب إلى تماضر أم ورقة حتى لا تتأذى سواها. قالت: عفا الله عنك يا تماضر! إنك لتعقين سيدك الراحل بما تفعلين. أما تعلمين أن الميت يعذب ببكاء أهله، ولعمر الحق ما كنت من بره إلا كما تكون الابنة! قالت: صدقت يا سيدتي، فكيف أملك صبرًا على مصيبتي فيه! وإنه لغافرٌ لي عجزي. قالت فاطمة: لقد كان ينهي عن العويل والنياحة. قالت: وا سوأتاه إن له على كبدي لحقًّا يجزيه الآن حرقة والتياعًا! قالت: فهلا انتهيت بما نهى عنه مولاك رسول الله! إنه لبريء من الصالقة والحالقة والشاقة جيبها. قالت: سلام على أبي القاسم! سمعتُ يا مولاتي وأنبت، وليلطف بي الله! على دينه أحيا وعلى دينه أموت. ثم جلست وراء الجالسات تبكي كسيدتها وقد انقطع العويل والنياحة حتى إذا جاء وقت الغسل توارت النسوة؛ فغسل على العادة وكفّن، ثم حمله الرجال في سريره على الأعناق، وخرجوا به ليدفن في المعلاة شمالي مكة، وكان قد اجتمعت قبائل مكة في الطريق؛ لتسير في جنازته. فلم تشهد أم القرى له جنازة اجتمع فيها أشراف القوم وكأن على رءوسهم الطير كجنازة ابن نوفل، وإنه ليخيّل إليّ من عظم الراحل وقرابته من سيدة قريش أن النبي ﷺ أكرمه، وأن أكبر الظن أنه ﷺ مشى فيها هو وخليفته الصديق أبو بكر وصحبه ممن سعدوا بنعمة الإسلام في أوائل أيامه: عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله وطليب بن عمير بن وهب، ومن كان في مكة يومئذ من المسلمين وعدتهم إذ ذاك قرابة الأربعين، منهم: أبو ذر وبلال وزيد بن حارثة وعمرو بن عبيسة السلمي وخالد بن سعيد بن العاص وعثمان بن مظعون، ولم يكن العباس ولا حمزة ولا بعض أخوة علي بن أبي طالب قد أسلموا بعد، ولكنهم لم يكونوا في فريق المشركين بل انحازوا إلى مصاف رسول الله هم وأبو طالب، وكنت ترى من مشركي مكة يومئذ أبا عمرو بن هشام وأبا لهب وعمر بن الخطاب وعمرو بن العاص قبل إسلامهما وأبا زمعة الأسود بن عبد يغوث وعقبة بن معيط وعبته بن ربيعة وأبا سفيان بن عبد الحارث بن عبد المطلب وأبا سفيان بن حرب بن أمية والحكم بن أبي العاص وسعيد بن العاص والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث ولبيد بن ربيعه … ومئات غيرهم من أعلام مكة يومئذ، وكان يحمل النعش منهم سادة القبائل وزعماء البيوت؛ فتعاوره أبو طالب وأبو بكر وعمر وأبو سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وأمية بن خلف الجمحي وغيرهم.
فلما بلغوا المعلاة وأرادوا دفنه فيه ظهر لهم من تحت النعش غلام لم يبلغ العشرين بعدُ، وقال بصوتٍ محزون مكبود: رويدكم يا قوم، وصية أبلغها وأمنية للراحل أعلنها! فالتفت الجمع ليروا من القائل فإذا به ورقة بن العفيفة. فقالوا له: ما خطبك يا غلام؟ قال: لقد كان ابن نوفل يقول لي: إنه أوصى أن يدفن بجوار صاحبه زيد بن عمرو بن نفيل في حراء وما حراء من هنا ببعيد. أليس فيكم يا قوم من سمع وصاته غيري؟ لقد كنت منه كولده وكان كأبي، وإني وحق الله لصادق. فبرز سعيد بن زيد يقول: بلى لقد سمعته بأذني يقول هذا، ورأيت أبي وابن نوفل يتواصيان بهذا. ولقد كان النضر بن الحارث معي في مجلسه ساعة قال هذا. قال النضر: حقًّا تقول يا ابن زيد هو عهدٌ تواصيا عليه في حراء يوم الحجر الأسود، وقال عثمان بن مظعون: هو والله ما قال ابن العفيفة لقد كان ابن نفيل يئن من جراحه يومئذ ويطلب إلى ابن نوفل ألا يفارقه فأقسم هذا لن يفارقه، وأوصى إن هو استؤخر عنه أن يدفن إلى جواره. فسيروا بنا إلى حراء ندفنه حيث دُفن الخطاب ابن أخيه يوم قتلته غلمانه رميًا بالأحجار من أجل قوله الحق في محمد رسول الله. هذان رجلان ملآ الدنيا سماحة وهدى، وألقيا في ظلمات العقول نورًا، كانا في الدنيا صديقين ولهداية الناس إلى الحق متحالفين فليرقدا اليوم بالقبر متجاورين!
لم يجد المشيعون بدًّا بعد هذا من تحقيق وصاة الرجل بدفنه في حراء، فساروا به إلى حيث دفن ابن نفيل وشقوا له في جواره لحدًا وواروه التراب، ثم قام الخطباء فأبَّنوه وعادوا إلى بيوتهم في العشي، ثم إلى أنديتهم حول الكعبة يتذاكرون.
كان زيد يذكر هذه الوقائع فيزيد ألم الفتى ويغضب، ولكنه لم يكن يتكلم؛ لأنه كره أن يشغل قلبه ولسانه بغير ما كان يشغله من الحزن على سيده، ولكن ما كاد زيد يذكر ما فعلوا بالنساء حتى هب ورقة وانطلق لسانه يقول: أمسك يا زيد أمسك! والله ما يحزنني من الأمر تعذيب هؤلاء الحنفاء بقدر ما يحزنني من أن مكة قد خلت ممن يغيث هؤلاء المستضعفين أو ينصفهم من سادتهم غلاظ الأكباد! أيعذب المرء أن يقول ربي الله! قال: إنما المنصفون قليلون، ولم يؤمر نبي الله بعد بشيء مما ترى، وإنما أمر النبي ﷺ أتباعه أن يفتدوا كل عبدٍ مسلم؛ فاشترى أبو بكر أكثرهم وأعتقهم، واشترى غيره من اشترى، ولكن المشركين فطنوا إلى ذلك فكفوا عن بيع عبيدهم، واستمروا في إيذائهم.
لم يكن في قصد زيد أن يوغر صدر الفتى على المشركين أو يستفزه لشيء، ولكنه أراد أن يدفع همًّا في قلبه بهم فانساق إلى هذا وهاج غضب الفتى رثاءً لهؤلاء، فتململ في مجلسه وهو يقول: أما ورب إبراهيم ومحمد! لو رأيت الجمحي وهو يعذب بلالًا أو رأيت عمرو بن هشام وهو يطعن سمية حيث طعن أو عمر وهو يضرب زنيرة لقتلته ولو تناولتني السيوف من بعدها حتى لم تدع مني قطعةً تحدث عن مكانها من جسدي. قال زيد: مرحى لك يا ورقة! هل آمنت بمحمد ودينه! … فبهت الفتى، ثم قال: ويحي يا زيد ألا تعرف ذلك؟ قال: أنى لي أن أعرف ولم أجدك بايعته ولا أسلمت بين يديه. قال ورقة: وا سوأتاه ما حاجتي بمبايعته وإسلامي بين يديه وأنا حنيفي مثله أومن بالله ونبيه إبراهيم كما كان أمامي ابن نوفل وصاحبه ابن نفيل. قال زيد: ما زدت عن المشركين في كثيرٍ فهم في الحق على دين إبراهيم لولا أنهم ضلوا السبيل فجعلوا الأصنام وشياطينها شفعاء لهم من دون الله، ارفع أصنامهم كما رفعها إبراهيم تجدهم على ما كان عليه ابن نفيل وكما كان ابن نوفل. قال ورقة: لعمري لم يدعهم مولاي محمد إلى أكثر من هذا، وما غضبه إلا لله ولدين إبراهيم، وما يكره من قومه إلا عبادة هذه الأصنام التي أبطلها إبراهيم، وما غضب المشركين عليه إلا لأنه يسفه أحلامهم فيما يعبدون. فهو اليوم إمام الحنفاء، وسيد الموحدين، ومحيي دعوة إبراهيم، وخليفته في أبنائه من إسماعيل. قال زيد: هو ذلك ورسول رب العالمين إلى أمة لم يأتها النذير. قال ورقة: ويحي يا زيد! وما إسماعيل وأبوه! أليسا في المنذرين ألم يقل إبراهيم الله ربي الواحد الأحد الذي لا شريك له ولا وزير ولا معين ولا ظهير الذي إليه الرجعى وإليه النشور؟ وما كلمات إبراهيم التي ابتلى بها؟ تلك الكلمات العشر التي نحن عليها أجمعين. حنفاء ومشركين؟ الخمس التي في الرأس: وهي المضمضة والاستنشاق وقص الشارب وفرق الشعر والسواك، والخمس التي في الجسد: وهي الاستبراء وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان؟ وما الغسل من الجنابة وغسل الموتى وتكفينهم؟ وما الحج والاعتمار والإحرام والتلبية؟ وما الهدي ورمي الجمار وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وكراهة الخمر؟ أليست كلها من دين إبراهيم؟ وهل جاء مولاي محمد بغير ذلك أو نقضه؟ قال زيد: كلا بل قره الرسول ﷺ. قال ورقة: فإلى أي شيء تدعوني إذن؟ إن كان لترك الأصنام فقد تركتها قبل أن أكلف عبادتها وأنا غلام في العاشرة من سني، وإن كان لترك دين التثليب — دين المسيحيين الذي كان عليه أبي — فقد تركه أبي منذ تزوج من أمي، كما تركها صاحبه باقوم من بعده واتبع ابن نوفل. قال زيد: هذا كلام كبير يا بني، وعليه مسحة من الصواب، ولكن فاتك أن تتبين صوابًا أكبر. قال: ما هذا؟ قال: لا تعجب يا بني أن أحدثك عنه. إني كما تعلم متنقل في تجارة مولاتي، وقد حضرتُ مجالس الأحبار والرهبان، وتعلمت الشيء الكثير. بل أنا أقرأ وأكتب مثلك. ما الدين يا بني مقصور على النظافة والغسل وكلمات تحفظها عن الناس وترددها. الدين نور من عند الله من استضاء به اهتدى وأرضى، ومن أبى إلا أن يسير فيما تزينه أهواؤه لنفسه من النؤور ضل واعتدى، ولقد اندرس دين إسماعيل، وتاه كتابه فتاه الناس من بعده حتى انقلب الحال بهم فإذا أولاده وأبر الناس به وببيته قد عادوا إلى جاهليتهم الأولى التي أخرجهم أبوه منها؛ عادوا إلى عبادة النصب والأصنام التي كان قد هدمها بيديه، ومن حق العباد على ربهم بعد هذا الضلال البعيد أن يرسل إليهم نذيرًا آخر، نذيرًا جديدًا يبسط لهم أوامره ونواهيه زيادة عما تقتضيه العقول من واجباتها، وإلزامًا لما جوّزته من مباحاتها؛ لأن الناس بنظرهم وحدهم لا ينكرون مصالحهم لأنفسهم فهم ميالون بفطرتهم إلى البغي والعدوان، ولا يشعرون بعواقب أمورهم لغرائزهم، ولا ينزجرون إلا أن يرسل الله إليهم أدبه فيلتزموه.
يومئذ تكون شرعة الله فيهم مستعملة، وحدوده فيهم متبعة، وأوامره فيهم ممتثلة، ووعده ووعيده فيهم زاجرًا، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعضٍ لفسدت الأرض كما فسدت في هذه الأيام، وحلت الفوضى على الناس كما هي حالة اليوم. فليس عن بعثة الرسل يا بني معدل، ولا منهم لانتظام المصالح بدل، وإلا فلو ترك الناس على سجيتهم؛ لبغوا في الدنيا بغي الذئاب، واستأثروا بالخير لأنفسهم ولمن يحبون دون خلق الله جميعًا، وهذا غاية الفساد. قال ورقة: هذا حق يا زيد وربي، ومن أجل ذلك ينهض المصلحون بدعوة الناس إلى طريق الهدى حتى لا يضلوا ولا يبغوا. قال زيد: لا يا بني، ليست النبوة نهضة ناهض بملكه واختياره مهما كان خيِّرًا أو رشيدًا، وإلا كثرت المذاهب فلا يدري الناس بأي هذه المذاهب يهتدون، وإذا ضل طالب الهدى فما صنعت شيئًا. قال ورقة: فما هي إذن؟ قال: هي بعثة وتكليف من لدن رب الخلق، وأمر منه لمن يختار؛ فالنبي رسول يبلغ رسالة الله، ويتكلم بما يوحي به الله إليه، لا ينطق عن هوى إن هو إلا وحيٌ يوحى، وللرسل صفات ربانية في خلقهم وعلامات جسمانية في خلقهم يخصهم الله بها؛ ليتعرفهم المستعرف، ويطمئن إليهم المستهدي كيلا تجوز دعوى المدعي على الناس فيقع في ضلال جديد. قال ورقة: صدقت يا زيد صدقت. زدني بالله مما تقول فقد خبرني مولاي ابن نوفل أنه هو وصاحبه قد وجدا كلّ ذلك في سيدنا، وأنه آمن به قبل أن يُبعث، وعزم على شد أزره يوم يؤمر بالدعوة، ولكني ولا أكذبك لم أكن قبل هذا أجد لهذه البعثة حاجة، ولا إلى هذا الإيمان من ابن نوفل ضرورة، وأما اليوم فإني أرى نورًا ينبعث من فمك فيجلو جهالتي كما يجلو نور الصباح ركام الظلام … يا لله! أإذا كان في الناس صلحاء أخيار أوفياء للحق فصدروا عن طبيعة الخير التي في أنفسهم مخلصين في القول والعمل لم يؤمن أن يضلوا! قال زيد: نعم سيكون لكل منهم في الخير مذهب قائم يأمر به، ويدعو إليه، ويتعصب له، وقد يؤذى الناس في سبيله؛ فإذا وجد كل ذي مذهب أنصارًا وجدت الناس كلهم مختلفين متنافرين متباغضين، وأي خير في هذا؟ قال ورقة: صدقت. صدقت. قال زيد: لا بد إذن من دينٍ واحد يأتي به نذير واحد من عند الله الواحد؛ ليجتمع الناس عليه متحدين، ويعملوا به متناصرين، ويسيروا تحت لوائه مجاهدين. بأمره يأتمرون وبنهيه ينتهون، فلا ضلال ولا فساد ولا فرقة ولا عناد. دين يرتضيه العقل والقلب حتى لا يكره الناس عليه إكراهًا، ولا تتورط فيه الأبناء رعيًا للآباء والأسلاف، وهذا يا بني دين الإسلام! دين محمد بن عبد الله! قال ورقة: رباه! رباه! إني لأجد نورك يملأ قلبي، فاغفر عنادي وجهلي، وزدني اللهم نورًا، ومضى زيد في كلامه يقول: ولقد خلت أمة العرب من عهد أبيهم إسماعيل من المرشد والنذير حقًّا. أليست ثلاثة آلاف من السنين بكافية؛ لتخلو دنيا الماضي من كل خير! بلى. لقد اختلت أفعالهم، وفسدت أحوالهم، واتضع بين الأمم شأنهم، ولم ينفعهم ما بقي من سنن إبراهيم وشرائعه وعباداته التي ذكرت ما هي إلا أنقاض بيت تهدم وما يؤوي الخراب إلا الهوام والذئاب فاقتضت رحمة الله العادل الذي لا يعذب حتى ينذر أن يرسل فيهم نبيًّا من أنفسهم؛ لينذرهم بدين الحق الذي نزل على آدم والنبيين، ويردهم إلى دين إبراهيم حنيفًا ومطهرًا وكاملًا ومصونًا؛ ليدركوا به السابقين، ويضووا إليهم اللاحقين، وليجعل لهم في الدنيا شأنًا كما جعل لغيرهم في الغابرين. ذلك هو سيدنا محمد بن عبد الله النبي الأمي الذي بشرت بنبوته الأحبار والرهبان؛ لما ورد عنه في التوراة والإنجيل، ففيهما اسمه ونسبه وصفاته. وبشَّر به ابن نفيل وابن نوفل وصاحباه بما علموا يوم احتشد الناس في بيت الله، وآمنوا به قبل أن يأتيه وحي ربه بسنين؛ ذلك لصفاته الربانية وعلاماته الجسدية، فقد عرفوها واطمأنوا إليها فأعلنوها، واحتملوا الأذى في سبيلها حتى مات مقدمهم من جرائها. قال ورقة: أجل. أجل. إنها لنعمة والله أن يموت الإنسان في سبيل الله. قال زيد: ولقد بعث الله محمدًا اليوم بالحق مصدقًا لما بين يديه، ونزل القرآن؛ ليعصم الناس من بعده عن الضلال مرةً أخرى، وأمره أن يعلن الدعوة للناس كافة بعدما تحنث لها ثلاث سنين، وما كان ليعلن إلا أن يؤمر، وقد أمره الله من أيام أن يصدع بأمره. أويرضيك يا بني أن يظل العرب ثلاثة آلاف أخرى من السنين وهم على نبلهم وذكائهم، وتمام رجولتهم ومروءتهم، وسلامة أبدانهم وعقولهم، وكمال سجاياهم ونقاء طبائعهم فيما هم فيه من خمول الشأن بين الأمم؟ يأخذون عنهم ولا يعطون؟ وتعولهم القرون، ولا يعولون أحدًا؟ قال ورقة: لا وربي لا يرضيني هذا. قال زيد: وإنما أرسله الله إليهم كما أرسل موسى وعيسى إلى بني إسرائيل فأخرجوهم من الظلمات إلى النور إلى أن عقهما الخلف، وصدفوا عن طريق الله. ابتدع كل فريق لنفسه بدعة وقاموا يروِّجونها بكل لسان، واختلق كل قوم لأنفسهم في الدين مذهبًا عجبًا، وجعل السيف له عضدًا من دون العقل، وهل بعد ما يجري في الشام وبلاد القدس من الأحداث فساد! ألا ترى أنهم لعداوتهم بعضهم لبعض قد هللوا لعبدة النار، وحكموهم في دينهم وأعراضهم. هل بعد هذا بوار؟
قال ورقة: لا والله لقد حدثني عنهم الحارث العجب العجاب. قال زيد: من أجل هذا كانت رسالة محمد بن عبد الله إليهم هم أيضًا فقد أرسل للناس عامة؛ لينير لهم ويهديهم سواء السبيل، ويجمع الأمم على دين يريح العقل ويسايره، ويأبى أن يلحق به ما ليس من طبيعته، ولن يضل من بعده أحد، فسيبقى الذكر في صون الله لا يعتوره تغيير ولا تبديل، ولا عبث كما عبث السالفون، وسيكون لأتباع رسول الله ملك كسرى وهرقل فما وراءهما. هكذا وعد الله رسوله ولن يخلف الله وعده.
فلما سمع ورقة هذا الكلام نهض، وقال: اللهم اشهد أني مؤمن بك وبرسولك، ومهتدٍ بهديك فيما هدى، ومنتهٍ بنواهيك فيما نهى، وإن له قلبي ولساني ويدي. فنهض زيد يقبله ويبكي فرحًا به وبهدايته إلى الإسلام على يديه، وقال له: وددت لو أخذتك الآن إلى رسول الله في دار ابن الأرقم؛ لتعلن إسلامك بين يديه! ولكنا الآن في الليل وأنت راحل في الغد فأبقها حتى تعود. قال ورقة: وهل يجمل بي وأنا فتًى أضع يدي في يد رسول الله! من أنا في الناس يا زيد! أنا عبده وخادمه! قال: إن أكثر المسلمين اليوم عبيد وإماء، وأكثر من آمن بدعوته من السراة شباب. قل لي: أنت أسن أم عثمان بن عفان؟ أم سعد بن أبي وقاص؟ أم عبد الرحمن بن عوف؟ أم خالد بن سعيد بن العاص؟ قال: إني أنفت على العشرين. قال: وما منهم من بلغها يوم أسلم، وإن من فضائل الإسلام أن جعل المسلمين إخوة؛ فبلال اليوم أخ لأبي بكر، وزِنِّيرة أخت لخديجة، ولا بد لك يا فتى أن تصلي بصلاة الرسول، وتعرف كيف يتوضأ للقاء ربه في الصلاة، وتحفظ ما نزل حتى اليوم من كتاب الله. بيد أني سأعلمك ذلك، وأصلي معك ركعتين لله، فانهض بنا إلى سقاء الماء نتوضأ ونصلي، وندعو الله أن ينصرنا على القوم الكافرين.
نهضا للوضوء فما خرجا من الباب حتى رأيا أمامهما في الظلام شبح باقوم يتمشى إلى السقاء معتمدًا على عكازته حتى إذا بلغه ألقى العكازة بجواره، وتناول السقاء وقال بصوتٍ غير جهير: نويت الوضوء لله تعالى. فتعجب زيد وورقة لأمره، ولم يكونا يعلمان بإسلامه فكلمه زيد: رويدك يا باقوم من علمك هذا؟ قال: بلال أيام كان الجمحي يعذبه. قال زيد: هذا يومٌ بعيد. قال باقوم: وأنا على الإسلام منذ ذلك اليوم. فقال ورقة: ثم لا تخبرني يا أبتي، وتهديني كما اهتديت! قال خفت يا بني أن تحاجني كما كنت تحاج الليلة زيدًا فيرتج علي في الحوار فتزيد في ضلالك. فضحك ورقة متعجبًا وقال: ضلالي يا أبتي! ما كنت ضالًا، ولكني كنت أحسبني على ما عليه رسول الله فلم أجد بي حاجة إلى أن أعلن ما هو معروف حتى بصرني زيد بأمرٍ جلل لا أحسب أن في المؤمنين أنفسهم من يعرف صدقه وصوابه وضرورته عرفاني، وهل أنت وحدك في هذا يا أبي أم معك أمي؟ قال باقوم: بل أمك إليه أسبق. قال زيد: ألا تخبرنا كيف لقيت بلالًا أم انه جاء إليك في من يجيء إليهم؟ قال: والله ما جاءني ولا جئته، ولكن الله أراد لي الهدى فأخرجني إليه؛ شعرت وأنا جالس هنا ذات يوم أن بي شيئًا يحفزني إلى النهوض والخروج، وخيّل إليّ أني إن لم أخرج فسأختنق، ولم أجد غير المطاف فرجة فذهبت إلى البيت الكريم، وفيما أنا أتسلل إليه رأيت بلالًا ملقى على الرمضاء في الهجير لا يملك قوةً على النهوض، فقد كان الجمحي ضربه وأوجعه وهده وتركه على هذا الحال ومضى، ورأيته ينظر إليّ نظرة مستغيث من آلامه فأخذتني رقة عليه وانحدر الدمع من عيني؛ لأني كنت أعلم أنه يعذب هكذا كل يوم. فرأيتني أجري إليه كأنما أنا غلام في مثل سن ورقة بالرغم من عرجي، فحملته على كتفي وسرت به إلى داري هذه وأنا أتوكأ على عكازتي. فما أحسست لجسمه على عاتقي من ثقل، بل قواني الله حتى لكأنه هو الذي كان يحملني. فلما حططته عند هذا السقاء لأسقيه وأنشطه؛ إذ كان في شدة من العطش، تناول السقاء وهزه فوجد أن ما فيه من الماء قليل، فظل على ظمئه وآثر أن يتوضأ به؛ ثم قام يصلي لربه ويتعبّد ويبكي وهو يقول كلامًا مما نزل على محمد؛ فملكتني رقة وبكيت حتى اخضلت لحيتي، ولما سلم توسلت إليه بحق الله عليه أن يعلمني كيف أفعل مثله لأتجه إلى ربي وأحادثه كما كان يحادثه؛ لأني كنت أرى السَّكينة تنزل على قلبي حين كانت تنزل على قلبه وترقأ دمعه ودمعي فقال: قرّب فتوضأ. قلت: ليس في السقاء ماء. أما ألقيته بيدك. قال: إن ما فيه يكفي فقد أمرنا رسول الله بالاقتصاد في الماء، وقال: امدد راحتيك تحت السقاء. فمددتهما طوعًا له. قال: اتل ورائي القول. قل نويت الوضوء لله تعالى. فقلتها، فقال: اغسل يديك فغسلتهما، وما زال يقول افعل كذا وافعل كذا والماء يتدفق حتى أتممت وضوئي كله، وألقى السقاء على الأرض كما كان. ثم علمني الصلاة فصليت كما صلّى، وأنا عاكف عليها من ذلك الحين، وسعيد باعتناقي هذا الدين فهو دين النظافتين في القلب والبدن. ائذن لي يا زيد أن أعلم أنا ولدي إني أحق به منك؛ ففرح زيد بما سمع، ورضي أن يتولى باقوم تعليم ربيبه الوضوء وهو يشهد ليرى، وما زال باقوم يتوضأ أمام ورقة ويراعي الترتيب في التطهر ويفعل ورقة مثله حتى أتى على آخره، وزيد يتعجب لدقته وعنايته. فقال لورقة: ما كنت أستطيع وربك أن أبصرك بما هو أدق من هذا. هكذا يتوضأ سيد الخلق فانح نحوه في كل وضوء.
ثم توضأ زيد بعدهما، وقاموا كلهم يصلون لله، وزيد بينهم يتلو من كتاب الله ما وعى صدره حتى انتهت الصلاة وسلموا، وحمدوا الله، وذهبوا إلى المضاجع ليناموا، وقد سرى الله عن ورقة شدة حزنه وملأ قلبه بنور الإسلام.