الفصل الرابع عشر
فتنة
خرج ورقة بن العفيفة في الخارجين فرارًا من هرواة أم قتال، وكان الضحى قد آذن فقال:
ما
عليّ لو التمست دار الأرقم التي قال ابن حارثة إن رسول الله يستخفي فيها هو وأصحابه؛
لأبلغه
إسلامي، وأصلي معه صلاة الضحى، ثم أنصرف من بعدها على بركة الله إلى هدى! وكان يعلم أن
دار
الأرقم قريبة من حيث خرج فلم يمتط جواده بل سار آخذًا بعنانه وهو مطرق يفكر كيف يلقى
رسول
الله؟ وماذا يقول له؟ وإذا هو يسمع فيما أمامه بابًا يفتح وتطل منه جارية كان في فمها
بقية
من غنوة تغنيها، فلما عرضت وجهها تنظر هنا وهناك عرف أنه فتنة جارية عبد الله بن جدعان
التيمي ابن عم أبي بكر الصديق، وعرفته هي أيضًا فعجلت له التحية قبل أن يمر ببابها، ولكنه
لم يرد تحيتها وأغمض عنها عينيه؛ لأنه كان يكره تجارتهن، ويمقت رؤيتهن، ويعجب لسادة في
قريش
أن يرتزقوا من المساعاة في البغي والخنى. فلما صدها بسكوته نزلت عن عتبة دارها واستوقفته؛
إذ قبضت على لجام جواده، وقالت له: أحييك تحية المسلمين ولا تردها؟ قال: لا أردها على
غير
مسلم ولا على باغية ولو كانت مسلمة! قالت: إن الإسلام والبغي لا يجتمعان. قال: سعدت.
قالت:
بل ارتددت يا ابن العفيفة. قال: إنما يرتد من كان في فؤاده مرض، وما كانت إذ أسلمت مقلدًا
أو مجاملًا وإن كنت من موالي بيت الرسول، ولكن من أين لك أني أسلمت؟ قالت: صباح اليوم
من
ابن حارثة. فاتسعت عينا الفتى دهشةً لما سمع إذ يكون لزيد بها علاقة. قالت: لا تدهش ما
كان
ابن محمد١ ليلقاني، وإنما أنا لقيته اليوم في بيت سيدة قريش أم المؤمنين. فزادت دهشته،
ولكنها عجلت فقالت: وعرفت منه ما كان منك بالأمس. قال: أو تذهبين إلى بيت رسول الله!
قالت:
إنما ذهبت لأنيب إلى الله وأستغفر وأعلن إيماني بالله ونبيه ولو أمر ابن جدعان بجدع أنفي.
هنئت يا ورقة بما ظفرت. قال: وهنيئًا لك التوبة يا فتنة. قالت: والله إني لأجد الهناءة
اليوم في قلبي، وأشعر كأنما صب الله في فؤادي نهلًا أبديًّا ينعشني ويحبب إليّ الحياة
بعد
إذ كنت كرهتها وكرهت نفسي معها، وكأني بعثت اليوم بعثةً أخرى، وما فتحت الباب وربك لحاجة
ولا لمأرب، ولكني لم أستطع أن أهدأ منذ عدت. أجهدت نفسي في كنس البيت وتنظيفه وملأته
شدوًا
وغناءً، فلما لم يبق به شيء يشغلني، ورأيته ضاق في عيني ففتحت الباب لأملأ الدنيا بما
يفيض
على القلب من السرور. قال ورقة وماذا هداك إلى الإسلام؟ قالت: والله ما هداني إلا الضلال
البعيد. قال وقد ابتسم تعجبًا: كيف كان هذا؟ خبريني بربك. قالت: أعداني أولئك المشركون
بفرط
عداونهم لأحلم خلق الله وصاحبه أبي بكر والمسلمين جميعًا فكرهتهم من غير ما سبب أعرفه
كرهًا
شديدًا إلا اعتيادي سماع ذمهم في رسول الله، وسبهم إياه، وافترائهم عليه أكذب الفرى،
ولقد
حفظوني كما حفظوا غيري من الجواري شعرًا ورجزًا نتغنى به في ذم أشرف خلق الله وصحبه،
وكنت
أغنيهم هذا الشعر فيطربون، ويوصونني أن أذيعه في الناس، وأن أطلقه في وجه محمد وصحبه
كلما
رأيته مارًّا من هنا. فأجبت، ولكني لم أفعل ذلك وربي إلا مرةً واحدة حين مرّ عليّ عبد
الله
بن مسعود؛ لأني كنت أجد الأغنية تفارقني حين كنت أرى الرسول أو صاحبه الصديق مارين من
هنا
في طريقهما إلى حيث يستخفيان للصلاة. فكنت أهمّ بأن أستعيض عنها بقولي لهما: يا صابئين
يا
كفرة! أنا أعرف أين تختبئون؟ ولكني كنت أستحي من نفسي لهيبتهما ووقارهما فما قلتها بتاتًا؛
لأني كنت أرى عليهما نورًا وجلالًا يتضع في جوارهما كل ما يعرض لي من حال أعداء الله
الذين
يغشون داري: عقبة بن أبي معيط وأبي سفيان وعتبة بن ربيعة والعاص بن وائل … وعشرات من
يردون
على بيتي ويفخرون بأنهم سادة قريش. فأخذت أسائل نفسي وأقول: محال أن يكون هذان الرجلان
على
ضلال، وما عرفت عنهما إلا الخير والعفة والوفاء والكبر عن الدنايا، ويكون أولئك الغلاظ
الأكباد الحمقى المغرمون بالخمر والفسوق على هدى، ولكني كتمت عجبي، وبقيت على حالتي
متظاهرةً بمشايعتهم؛ لئلا يوغروا عليّ صدر مولاي ابن جدعان، فإذا جاء إليّ أحد أولئك
السفهاء تظاهرت بوده وحييته بكلمة تهكّم مفتعل من المؤمنين، وسألته متظاهرة بالزراية
عليهم:
كيف حال أبناء الله! فيقول: شر حال، إنهم قد اختفوا عن العيون والأبصار، وما لي وحقك
رغبةً
في أن أسمع عنهم إلا الخير، ولقد روى لي عقبة بن ربيعة ما صنع بأبي بكرٍ في المسجد الحرام؛
إذ قام يخطب الناس، والنبي جالس، وقريش تتسمع؛ فتواثبوا عليه، واختص عتبة نفسه بضربه
بالنعل
محرفًا إلى وجهه حتى أدماه، واختلط به أنفه.٢ روى لي عتبة فعله هذا مزدهيًا فغضبت لذلك غضبًا شديدًا، وأخذت أقبح فعله،
وأذكر أبا بكر وصاحبه وأتباعه بكلام لا أدري أين كان معينه من نفسي؟ ثم رأيتني أبكي أن
يهان
الصديق وهو على ما أعلم تقي أسيف؛ إذ ينهض ليهدي الناس، وهو يقول: الله ربي وأنا أعبده،
وأقسمت لأزورنه في بيته، وأعلن مقتي لشانئه بإعلان إسلامي بين يديه. ففعلت ذلك ليلة أمس
فدعا لي، وذهبت اليوم في الصباح إلى سيدتي خديجة أم المؤمنين فاستنبت مما أنا فيه وإن
كان
عرفًا في القوم لا يشعرون بعاره، وتاب الله عليّ، ولقد عدت الآن إلى داري فلم أطلق لفرحي
بما أنا فيه من نعمة الإسلام أن أبقى بها ففتحت الباب لأكون في سعة الدنيا فإذا أنت أول
من
ألقى. ما أسعدني برؤيتك وفرحي بإسلامك! ألا تدخل! قال ورقة: لا، وإنما أدع جوادي في حراستك
حتى أعود إليك فآخذه، وأمضي إلى هدى. إني ذاهب الآن إلى رسول الله في دار ابن الأرقم
المخزومي؛ لأصلي معه صلاة الضحى. قالت: حبًّا وكرامة، ولكن هل تعرفها؟ قال: أجل دلني
عليها
زيد ليلة الأمس. قالت: إنها بجوار الصفا عن يسارك، ولعلك إذا سرت في هذا الدرب بلغتها
بلا
عناء. قال: كذلك. شكرًا لك ها هو ذا جوادي فاربطيه إن شئت هنا أو فانظري في أمره. ثم
ناولها
عنانه فأخذته منه، وانصرف إلى دار ابن الأرقم منعطفًا في الدرب الذي أشارت إليه.
وفيما هي تميل بالجواد لتدخله دارها رأت رسول الله قادمًا يسير نحو الدرب الذي مر
منه
ورقة وهو يمشي متقلعًا في مشيته ومجدًّا في سيره على عادته كأنما ينحط عن منحدر، وكان
ﷺ متفضلًا في ملبسه على عادته فما عليه إلا ثوبٌ أبيض قصير مشقوق القبة إلى رأس
الفؤاد قصير الذيل حتى ليعلو عن قدميه إلى ما دون الركبة بقبضة، وتحزم عليه بحزامٍ من
كتان،
وفوق الثوب رداء واسع مسبل على كتفيه إلى ما فوق عقبيه، وعلى رأسه عمامة كثيرة الألفاف،
وشعره مدلى على قذاله يستره من لفح الشمس، وفي رجليه نعل بقبالين.٣
وكان رسول الله إذ ذاك في السادسة والأربعين من عمره، «من رآه بديهة هابه، ومن خالطه
معرفةً أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله، ولم يكن رسول الله بالطويل الممغط
(المفرط في الطول) ولا بالقصير المتردد (المتناهي في القصر) وكان رِبْعة من القوم، ولم
يكن
بالجعد ولا السبط، ولم يكن بالمطهم (الكثير السمنة) ولا بالمكلثم (المدور الوجه في سمن)
أبيض مشربًا بحمرة، أدعج العينين (في سوادٍ واتساع) أهدب الأشفار (طويل الهدب) جليل المشاش
(عظيم رؤس العظام) والكتد أتلع العنق ذا لحية سوداء كثة، وشارب مقصوص شثن الكفين
والقدمين»٤ فلما دنا من حيث كانت فتنة، وكان فيما
أخال قد سمع بحديثهما، لم تمهله حتى يحييها؛ بل وقفت إلى جانب الجواد تقول بصوتٍ جهير
ممتلئ
حبًّا له وإيمانًا: يا رسول الله! أسمع الخافقين شهادتي أنه لا إله إلا الله الواحد الأحد
الذي لا شريك له ولا والد ولا ولد، وأنك يا ابن عبد الله وآمنة عبده ونبيه ورسوله وشفيعنا
يوم القيامة من النار! ثم غلبها البكاء فبكت رقةً وحنانًا وإيمانًا. فدعا لها رسول الله
وحمده على ما سمع، ثم انعطف في سبيله إلى دار الأرقم.
ولكنه ما كاد يخطو في الدرب خطوتين حتى كان أبو الحكم عمرو بن هشام المخزومي (أبو
جهل)
عدوه وحاسده وشانئه الألد قد أدركه؛ إذ كان آتيًا من الجبل، ونظر إليه من ورائه نظرة
استخفاف لم يأبه لها رسول الله، ولم يعرها التفاتًا، ومضى في طريقه يدعو الله له بالهداية٥ ولكن الوغد أخذ يشتمه، ويسبه، وينعته شر النعوت، والنبي يسمع ولا يجيب. حتى إذا
لم يعد يسمع صوته وغاظه من رسول الله أنه أعرض عن سفهه انحنى، وتناول قبضة من ثرى الأرض
وحصبائها وروثها، وألقى بها على رسول الله. فسقطت على رأسه ﷺ وعلى عاتقه، ولكنه مع
ذلك لم يلتفت إليه فازداد غيظ أبي جهل، وصار يشتم بغير حساب ولا وعي، وكأنه استشعر قبح
موقفه فتلفت فإذا هو يرى الجارية تتأمله، ورآها مغيظة منه محنقةً عليه فقال لها متهكمًا:
لا
بأس عليك يا فتنة! ما لي أراك محنقة عليَّ، وعهدي بك لطيفة ظريفة! وحقك ما خطر على بالي
أن
لك فيه هوى.٦ قالت: قبحت! وحق الله إنه لهو التقي النقي العفيف البار الذي لم يهمم بريبة.
إنه لأطهر خلق الله جميعًا، وأنزههم نفسًا، وأعفهم عينًا، وأكرمهم عند الله، ولتراب نعليه
أشرف من هامتك، ولهو سيد أهل الجنة، ولأنت أحقر من في النار.
فلما سمع هذا الشتم المقذع كاد يتميز من الغيظ، وطار لها ينتقم منها، ولكنها وقفت له والشرر يتطاير من عينيها فيحرقه كما تقف اللبؤة تدفع عن نفسها. حتى إذا دنا منها دنت منه وهبشت وجهه فخمشته بأظافرها وصرخت في وجهه؛ فارتد مذعورًا إلى حيث كان، ومضى في طريقه.
وفيما هي تلهث مضطربة من أثر العراك والغضب، وقد جلست على عتبة بابها مستعبرة سمعت
وقع
أقدام آتية من حيثما أتى أبو جهل من جبل أبي قبيس؛ فالتفتت فإذا هو رجل ربعة أسود العينين
عريض ما بين المنكبين ذو هيبةٍ ووقار، قد تقلد سيفًا وتوشح قوسًا واستظهر كنانتين، وقد
اغبرَّ وجهه كأنما هو آتٍ من سفر؛ فأدركت على الفور أنه أسد قريش حمزة بن عبد المطلب
عم
رسول الله، كان عائدًا من الصيد، وذاهبًا إلى البيت؛ ليطوّف به على عادته أن يلتمس داره،
وليحيي إخوانه من عظماء قريش في أنديتهم هناك، فلما دنا منها استوقفته تقول له: واضيعة
النجدة فيكم اليوم يا أبا عمارة! قال وقد وقف: قبح القول وصاحبته! ما خطبك يا أمة ابن
جدعان؟ قالت: أئذا خالفتم أخاكم فيما أراد من هدايتكم والاحتفاظ بكرامتكم أنكرتموه! ورضيتم
له الأذى حتى من سفهاء بني مخزوم! قال: ويحك ماذا حدث؟ قالت: لو رأيت ما لقي محمد ابن
أخيك
من أبي الحكم بن هشام وهو مار من هنا … آذاه وسبه وشتمه وهو ماضٍ في هذا الدرب، ورمى
عليه
التراب والروث.٧ فقال لها حمزة: أنت رأيت هذا الذي تقولين؟ قالت: نعم، وسمعته، والله على ما
أقول شهيد. فاحتمل حمزة الغضب٨ وسار حتى دخل المسجد
يطوف على عادته، فرأى أبا الحكم جالسًا في القوم فأقلع عن طوافه، وأقبل نحوه حتى إذا
قام
على رأسه رفع القوس وضربه بها فشجه شجة منكرة سالت على أثرها الدماء حتى خضبت وجهه، ثم
قال
له: أتشتم ابن أخي إذ يعف عنك لسانه، وتؤذيه إذ يرجو لك الخير!٩ قبحت من فدم دميم! قال أبو جهل وقد ملكته الجبانة: لقد سفه عقولنا، وسب
آلهتنا، وخالف آباءنا، وحمل صبياننا وغلماننا وجوارينا على اتباعه. فقال حمزة: ومن أسفه
منكم؛ إذ تعبدون الحجارة من دون الله! ألا بعدًا لكم ولما تعبدون! ثم التفت إلى الكعبة،
وصاح: أيها البيت الأقدس الذي نطوف به وندعو الله عنده اشهد أني من اليوم مع ابن أخي
محمد!
على دينه أحيا وعلى دينه أموت! فقام رجال من بني مخزوم — عشيرة أبي جهل — إلى حمزة؛ لينصروا
أخاهم، ويلوموا حمزة على ما فعل من أذى أبي الحكم، وقالوا: ما نراك إلا قد صبأت. فقال
حمزة:
وما يمنعني وقد استبان لي منه الحق. أنا أشهد أنه رسول الله وأن الذي يقول حق، والله
لا
أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين.١٠
وكان حمزة مهيبًا حتى لتخافه النطف إن غضب، وخشي أبو جهل وراء وعيده أن تندلع النار
في
مكة فتأتي عليه وعلى رهطه، فقال: دعوا حمزة كفاني أني أسمعت ابن أخيه شيئًا
قبيحًا.١١
وعلى هذا انصرف حمزة، وقد انتقم لابن أخيه.
١
كان النبي ﷺ قد تبنى زيدًا فعرف بذلك.
٢
كتب السيرة.
٣
كتب السيرة.
٤
كتب السيرة.
٥
كان الرسول يرجو الله أن يعزز الإسلام بأحب الرجلين إليه؛ بعمر بن الخطاب، أو
عمرو بن هشام هذا.
٦
كان أبو جهل من أقبح الناس مقالة وأقذرهم لسانًا.
٧
ابن الأسير، وكتب السيرة.
٨
ابن الأسير، وكتب السيرة.
٩
ابن الأسير، وكتب السيرة.
١٠
ابن الأسير، وكتب السيرة.
١١
ابن الأسير، وكتب السيرة.