الفصل الخامس عشر
في دار ابن الأرقم١
بلغ ورقة باب دار ابن الأرقم، وكانت على يسار الصاعد إلى الصفا كما وصفت فتنة، ولكنه
تهيَّب أن يقرعه، فوقف حائرًا لا يدري ماذا يفعل؟ وإذا به يفتح ويطل منه بلال بن رباح
وزيد
بن حارثة، وكأنهما كانا في انتظار مقدم رسول الله ففتحاه لاستقباله، ولكنهما لم يجدا
إلا
ورقة بن العفيفة؛ فلما رآه زيد هلل وكبّر، وتعانقا ودعاه إلى الدخول، وعرّفه إلى بلال؛
فكبر
وحمد الله، ومال على رأس ورقة يقبله ويعانقه، فعاقنه ورقة كذلك، وحمد الله على
الإسلام.
مشى زيد بورقة في فسحة سماوية طولها نحو عشر خطوات في خمس على يسارها إيوان مسقوف
بجذوع
النخل على عرض أربع خطوات، وعلى يمينها حائط في وسطه باب يدخل منه إلى غرفة طولها طول
الفسحة وعرضها عرضها مفروشة بحصير من سعف النخل.
دخلها فإذا هو يرى فيها من رأى في أمسه ممن كانوا يحيطون برسول الله في جنازة ابن
نوفل؛
فسلم عليهم بتحية المسلمين، وتقدم من أبي بكر وكان في الحاضرين لصلاة الضحى، وقبل يده
فهنأه
بإسلامه ودعا له، وإذا برسول الله يشرق عليهم متهلل الوجه كأن لم يحدث له حادث؛ فنهض
الجمع
للقائه فحياهم بتحية الإسلام، وأسرع ابن حارثة فيما أخال فقدم إليه ورقة فقال: مرحبًا
بابن العفيفة.
٢ قال الفتى: الحمد لله الذي هداني إلى الإسلام، ومتعني برضا الله! أشهد أن لا
إله إلا الله الحي القيوم الواحد الأحد، وأنك يا محمد عبده ونبيه ورسوله. فدعا له النبي
—
فيما أخال — وقبله في جبينه.
وفيما هم في ذلك ويستعدون للصلاة فُتح الباب ودخل عليهم حمزة يجأر بالشهادة، ويقول لرسول
الله: هذا سيفي يا ابن أخي، ضعه حيث تريد. لقد أجرتك فأجرني من عذاب النار، وكن شفيعي
يوم
القيامة. فسر به رسول الله سرورًا عظيمًا
٣ لأنه كان أعز فتًى في قريش وأشدهم شكيمة؛ فكبر لله وكبر المسلمون معه، وشعروا
أنهم قد عزوا بعد ضعف، وأن الله شاء للإسلام أن يظهر على الشرك فيطمسه، وقد كان حدسهم
صوابًا، فقد كانت الأرض في تلك الساعة تهتز؛ لتلقي عنها ما كان يثقل كاهلها من أوزار
العقول. تداعت إذ ذاك أركان الشرك في مكة، كما تداعت دعائم الاستبداد والجهل والظلم في
ملك
كسرى وهرقل، واستجاب الله دعاء نبيه على أثر ما رأى من إعزازه إياه بإسلام عبد الله حمزة
قال
ﷺ وقد عفا قلبه عن أبي جهل أملًا في هدايته: «اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين
إليك بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام (وهو أبو جهل)» فأمنوا على دعاء رسول الله، وبعد
هذا
بما شاء الله من الزمن
٤ قرع الباب قرعًا شديدًا. فقيل من الطارق؟ قال: أن ابن الخطاب. فلما عرفوه ذكروا
شدته على رسول الله، ولم يكونوا قد عرفوا بعدُ بإسلامه في بيت أخته؛ إذ كان قد دخل عليها،
وضربها؛ لإيمانها بمحمد، ولمدافعتها إياه عن صحيفة كتبت عليها آيات من سورة طه كانت سببًا
في إسلامه، ذلك أنه وعدها ألا يتلفها فأعطته إياها فقرأها حتى بلغ قوله تعالى:
الرَّحْمَـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ * لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ * وَإِن
تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى
* اللَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فعظمت في صدره، وقال: من هذا فرت قريش! فلما بلغ
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ تشهد، وقال: لا ينبغي لمثل هذا أن يعبد معه غيره. دلوني على محمد! فدلوه
عليه في بيت ابن الأرقم، وكان أن طرق بها كما سمعناه.
٥
لم يجترئ أحد على أن يفتح الباب. فقال رسول الله: «افتحوا له فإن يرد الله به خيرًا
يهده»، وقال حمزة: وإن يرد غير ذلك كان قتله علينا هينا.
ونهض بلال ليفتح له الباب، وذهب حمزة والزبير وراءه ليأخذا بعضدي عمر حين يدخل، ودعا
رسول
الله ربه فقال: «اللهم أخرج ما في صدر عمر من غلٍّ وأبدله إيمانًا. أطلقوا
سراحه»
٦ فأطلقوه، ودخل عمر خاشعًا ليقلى رسول
الله. فلما رآه قال له الرسول: «والله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة. فيم جئت
يا
ابن الخطاب»
٧ فقال: جئت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك
رسول الله؛ فلما سمع المسلمون هذه الشهادة من عمر، وكان عمر ما كان من الشدة والعداوة
للنبي
والمسلمين — كبّروا على أثر ذلك تكبيرة واحدة ارتجت منها أركان الدار، وسمعت في طرقات
مكة
فأتبعها بقوله:
٨ يا رسول الله، ألسنا على الحق إن
متنا وإن حيينا.
٩ قال: «بلى والذي نفسي بيده إنكم على
الحق إن متم وإن حييتم» قال: ففيم الخفاء يا رسول الله؟ علام نخفي ديننا ونحن على الحق
وهم
على الباطل؟ فقال: «يا عمر، إنا قليل وقد رأيت ما لقينا» فقال عمر: والذي بعثك بالحق
نبيًّا
لا يبقى مجلس جلستُ فيه بالكفر إلا جلستُ فيه بالإيمان. فكان ذلك سببًا في أن
خرجوا
١٠ في صفين: في أحدهما عمر، وفي الآخر حمزة
مخترقين طرقات مكة حتى بلغوا المسجد الحرام، وطرقوا حصباءه فكان لهم كديد ككديد
الطحين
١١ ورأتهم قريش فيما هم فيه من المنعة
والعزة؛ فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها من قبل.
هناك صلوا لله، وجهروا في المسجد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
فكان هذا أذانًا للدنيا بدينها الجديد.